هل تمهد الدراما العربية للتطبيع مع الأم البديلة

مسلسل "القدر" ينتهي بسعادة مطلقة غير منطقية.
السبت 2025/03/01
حكاية غريبة على المجتمع العربي

تناولت مسلسلات عربية وأخرى معربة عن الدراما التركية موضوع الأم البديلة/الحاضنة، وهو موضوع لا يتماشى مع المجتمعات العربية المحافظة لكنه يكشف من ردود فعل الجمهور المتابع للمسلسلات أنه بدأ يجد له مكانا وأصواتا داعمة، وهو ما يشير إلى أن الدراما والأعمال الفنية عموما تملك قدرة رهيبة على تغيير قناعات الأفراد وسلوك المجتمعات.

قبل أيام قليلة على انطلاق موسم دراما رمضان، انتهى مسلسل "القدر" معلنا عن الاكتفاء بخمسة وأربعين حلقة، على خلاف النسخة التركية الأصلية التي امتدت إلى تسعين حلقة كاملة، متبنيا نهاية مختلفة كليا، بأحداث متسارعة اختصرت في حلقتين، وزعت السعادة على جميع الممثلين، في مبالغة واضحة لم يعد يتقبلها المشاهد العربي الذي يعلم أن السعادة المطلقة للجميع هي محض حلم مستحيل.

والحقيقة أن المسلسل منذ بدايته واجه انتقادات وسخرية لاذعة، بعضها رفضا لاستمرار الدراما العربية في تبني مسلسلات تركية وتعريبها، بعد مواكبة الجمهور العربي بثها كاملة في تركيا ودبلجتها إلى العربية على منصات عربية ومواقع التواصل الاجتماعي، خاصة وأنها لا تقدم حكايات وقضايا تشبه الواقع العربي المختلف كليا عن الواقع التركي.

هذه المرة كان المسلسل من بطولة الفنان السوري قصي خولي، والفنانة السورية ديمة قندلفت، والفنانة اللبنانية رزان جمال، ويشارك فيه الفنان السوري ميلاد يوسف والفنانة اللبنانية رندة كعدي ووسام حنا وحسن عيوتي وفارس ياغي وبيير داغر ومارينال سركيس وسلمى المصري ونورا رحال وفيكتوريا عون، إلى جانب ثلة من الممثلين، وأخرجه التركي فيدات أويار.

وبدأت الانتقادات منذ الإعلان عن لعب قصي خولي دور البطولة في المسلسل، حيث كان من الرافضين للمشاركة في أعمال تركية معربة لا تقدم للمشاهد العربي مواضيع تهمه، لكنه برر تراجعه عن موقفه بالقول إن “القدر” يطرح قضية مهمة ولم يسبق تناولها بهذه الطريقة في المجتمع العربي.

h

اقتحم “القدر” عالم الأم البديلة، هذا الموضوع الذي يثير منذ سنوات نقاشات في المجتمعات الغربية إنما هو في المجتمعات العربية موضوع مرفوض بالنسبة للأغلبية، لأنها مجتمعات متدينة بطبعها، وترفضه الديانتان المنتشرتان بكثرة في المنطقة، الإسلام والمسيحية.

حافظ “القدر” على مسار الحكاية في النسخة التركية “لعبة القدر”، مع التزام بإضفاء أسماء وهويات عربية على الممثلين، لكن مواقع التصوير كانت في تركيا، ما يفقد المسلسل جزءا كبيرا من واقعيته، صحيح أن الجمهور يدرك جيدا أن العمل تركي بالأساس لكن ليس من المنطقي أن يتم تعريبه وتقديمه على أنه حكاية بين سوريين ولبنانيين، وأن جزءا كبيرا من أحداثه انطلقت من داخل “الضيعة” اللبنانية والريف اللبناني، لكنه يناقض نفسه بأن يصور الريف التركي على أنه ريف لبنان.

تدور قصة النسخة العربية من المسلسل حول شخصية زيد (الفنان قصي خولي)، الذي تعاني زوجته تالا (ديمة قندلفت) من عدم الإنجاب، واستحالة حملها، فتقنع حماتها بالإنجاب بالاستعانة بأم بديلة، تتفق والدة زيد (رندة كعدي) مع أحد الأطباء الذين لها فضل عليهم على الاستعانة بأم بديلة لكي تتمكن من الحصول على حفيد ذكر يحمل اسم العائلة. تتحد المرأتان لإقناع زيد، فيرضخ لطلبهما بعد نقاشات حادة، إلا أن الحماة تكتشف أن زوجة ابنها عاجزة كليا عن الإنجاب، فتقرر أن يكون الحفيد من الأم البديلة، دون أن تخبر أحدا بالحقيقة.

تتعقد الأحداث، حتى يعلم الجميع أن الطفل المنتظر من أم بديلة، ثم يعلمون أنها هي الأم الحقيقية، وتدخل الزوجة في حالة اكتئاب خطيرة تدفعها إلى القيام بتصرفات جنونية، محاولة التخلص من ولي العهد المنتظر، والبحث في أسرار العائلة لتستغلها ضدهم، لكنها بجنونها تدفع زوجها إلى “أحضان” المرأة الغريبة، فيغرم بها ويقرر أن يتزوجها ويؤسس عائلته معها، بعد أن لمس فيها صدقا وسعيا للحفاظ على ابنه مقارنة بزوجته التي سعت لقتله.

بالتوازي مع مسار الحكاية الرئيسي الذي يدور حول الأم البديلة، تتحرك الشخصيات الثانوية في مسارات أخرى، هناك الأخ إياد (ميلاد يوسف) وزوجته اللذان يكنان لزيد غيرة قاتلة، تدفعهما إلى الكيد له من أجل السيطرة على شركة العائلة، إلا أنه يصدم بسر كبير يخفيه والداه عنه، فتتغير شخصيته كليا ويتحول إلى رجل محب لإخوته وعائلته، لقد عرف فجأة أنه أخو زيد وريما من أم مجهولة، حبيبة سابقة لوالده بهاء (حسن عويتي)، أخفى قصتها كي لا يشعره بالنقص.

أما ريما (نورا رحال) فتعيش مع عائلتها تحت سقف واحد، رفقة ابنها تيم (فارس ياغي)، الحفيد المدلل، بعد أن توفي زوجها في حادث سير، ليعود فجأة بعد سنوات وهو يعاني من مرض السرطان ويخبرها أن والدها وشقيقها الأكبر روجا حكاية موته الكاذبة لحماية إياد من دخول السجن، ومنعوه من التواصل معها ومع ابنه.

♦ المسلسل واجه انتقادات وسخرية لاذعة بعضها رفض استمرار الدراما العربية في تبني مسلسلات تركية وتعريبها

يظهر أيضا الحفيد تيم بشخصية مهتزة، شديدة الانفعال، يحب الأم البديلة، ويسعى للزواج بها وحمايتها من عائلته.

في إحدى الحكايات الفرعية الأخرى، يظهر الشاب يوسف (وسام حنا) المهووس بحب نور (الأم البديلة) والذي يخطط لسنوات من أجل الزواج منها وإن تطلب منه الأمر القيام بأفعال جنونية كأن يختطف تالا أو يطلق النار على زيد ويتسبب في اتهام عائلة نصر بترويج المخدرات.

هذا جزء من الحكايات الثانوية، إلى جانب حكايات أخرى تستعرضها حلقات لا تتجاوز الواحدة منها 60 دقيقة، وبنسق زمني سريع نسبيا، لكنها تبدو أحداثا مضغوطة وكثيرة تفقد العمل الدرامي واقعيته وتجعله أقرب لحكاية خيالية.

ما يحسب لهذا العمل أنه على عكس الدراما العربية وعلى غرار أغلب المسلسلات الاجتماعية التركية، يسوق لأهمية العائلة وتماسك أفرادها مهما كانت المشكلات التي يواجهونها، إنه يسلط الضوء على العائلة الموسعة (الجد والأبناء والأحفاد) الذين يعيشون جميعا في مكان واحد، يدافعون عن استمرارية العائلة، ويتجاوزون الأخطاء والمشكلات الكبرى، حتى مكائدهم تصب جميعها لصالح العائلة، على عكس الصورة التي راجت بكثرة في الدراما العربية والتي لا سبيل فيها للعيش في بيت مشترك ولا أن تكون العلاقات بين أفراد العائلة الواحدة متينة.

وفي تصويره لهذه العائلة، مر المسلسل على مشكلات نفسية واجتماعية ومهنية مهمة، حيث صور الضغط الممارس على النساء من أجل الإنجاب، والتنمر، والكذب والاحتيال والعنف المسلح والسرقة والخيانة والمرض والتزوير والابتزاز، كما ركز على الصراع بين الماضي والحاضر وكيف أن الآباء قد يدمرون حياة أبنائهم بالتدخل في اختياراتهم التي يرونها أنسب لهم.

وإن ما تطرقنا إلى أداء الممثلين، يمكن القول إن أغلبهم قدموا مستوى من التشخيص يتلاءم مع الحكاية التركية وسياقها العام، وحدها ديمة قندلفت قدمت شخصية تتقارب في أحيان كثيرة مع شخصية فلك التي شاركت بها في مسلسل “ستيليتو” المعرب أيضا.

♦ التكرار المستمر لثيمة الأم الحاضنة قد يمهد بأسلوب غير مباشر لتطبيع عربي ولو جزئي وفي حالات نادرة مع الموضوع

وجاءت آخر حلقتين من “القدر” أشبه بالحلم، أنجبت نور الحفيد المنتظر لعائلة نصر، وطلق زيد زوجته ليتزوج بالأم الحاضنة، إياد أصبح المدير الوحيد للشركة وصارت علاقته بزوجته وعائلته متينة أكثر، أما ريما فعادت للتواصل مع زوجها إيهاب، وحتى طليقة زيد تالا، التي صورها المسلسل على أنها شخصية شريرة وأنانية وجدت حبا جديدا وأسست دارا لرعاية الأيتام. لم يترك المخرج شخصا لم يمنحه نهاية سعيدة، محدثا تعديلات كبيرة في الحكاية الأصلية، لكنها تغييرات لا تبدو منطقية.

في العمل الأصلي يقتل تيم برصاصة طائشة وتقرر تالا الانتقام من طليقها فتختطف المولود الجديد وتستمر الصراعات، بينما في النسخة العربية جاءت النهاية سعيدة للجميع، كما تغير المولود المنتظر من حفيدة أنثى إلى حفيد ذكر، ربما أرادت “أم.بي.سي” أن تضفي بعض الواقعية على العمل، فالحفيد الذكر الذي يحمل اسم العائلة حلم أغلب العائلات العربية فما بالك لو كانت عائلة ثرية تريد الحفاظ على اسمها ومجدها، ومن هذه النقطة يمكن أن يتفهم الجمهور العربي ضرورة اللجوء إلى الأم الحاضنة ضمن هذا السياق ويقتنع بهذه الممارسة وقد تخطر على بال البعض ليحصلوا على ولي للعهد.

ومنذ الحلقة الأربعين تقريبا، بدأ الجمهور المتابع للمسلسل ينقسم إلى قسمين؛ الأول يدعم اختيار البطل زيد في أن يطلق زوجته ويواصل حياته مع الأم البديلة والثاني يرى أن ما يريد البطل فعله يعد خيانة لزوجته. مواقف وآراء كثيرة طرحت تساؤلات حول مفهوم الأبوة والأمومة، وكيفية تصنيف العلاقات الإنسانية في مجتمعنا العربي، وبعضها أبدى تخوفا من الدراما التي تمهد لتقبل المجتمع العربي سلوكيات غريبة عنه وأولها موضوع الأم الحاضنة.

وليست هذه المرة الأولى التي تطرح فيها الدراما المعربة قضية الأم البديلة، كما أنها ليست المرة الأولى التي يعرب فيها مسلسل “لعبة القدر” حيث سبق أن أعادت قناة “أم.بي.سي” تصوير المسلسل، وأطلقت عليه عنوان “أم بديلة” في العام 2021، بفريق عمل عراقي –لبناني، وكان العمل من تأليف ندى عماد خليل، وإخراج دافيد أوريان وصنف أنه أول مسلسل درامي يجمع بين نجوم عراقيين ولبنانيين منذ سنوات طويلة، حيث لعب بطولته عادل عباس وهند كامل وألكسندر علوم ومروى كرم وليا أبوشعيا وآخرون. فما الذي يبرر تعريب “أم.بي.سي” للمسلسل التركي في نسختين عربيتين لم يفصل بينهما سوى أربع سنوات؟

وشهد رمضان الماضي أيضا عرض مسلسل مصري من 15 حلقة بعنوان “صلة رحم” جمع بين إياد نصار ويسرى اللوزي وناقش قضية الأم الحاضنة انطلاقا من أبعادها النفسية والبيولوجية والاجتماعية والدينية، ولاقى المسلسل آراء متناقضة بين مؤيد لمثل هذا الطرح الفني وبين رافض لتناول هذا الموضوع لأنه دخيل على مجتمعاتنا العربية المحافظة، إلى جانب أنه أمر مرفوض حيث ترى المذاهب الدينية أن الأم البديلة أي تلك التي تحمل في رحمها جنينا من امرأة ورجل، تقوم بأمر يعارض الفطرة الإنسانية.

هذا التكرار المستمر لثيمة الأم الحاضنة، قد يمهد بأسلوب غير مباشرة لتطبيع عربي ولو جزئي وفي حالات نادرة مع الموضوع، أليست الدراما كما يؤكد الخبراء والنقاد والأكاديميون من أكثر الإبداعات الفنية تأثيرا في المجتمعات؟ يكفينا أن نلقي نظرة سريعة على أشهر الأعمال الدرامية الاجتماعية التي عرضتها الشاشات العربية لنستخلص كيف أثرت في المجتمعات وأسهمت في تغيير قوانين كثيرة وأحدثت ضجيجا وخلافات في أشهر البرلمانات العربية؟

14