حكمت داوود يرسم تراجيديا تشكيلية لمدن تحولت أكفانا لأبنائها

تصوير صادق لجوهر الواقع بكل تجلياته وقصصه.
الخميس 2025/02/20
انفعالات قاتمة

رغم انشغاله بالعمل في فنون أخرى بعيدة قليلا عن الفن التشكيلي، وأهمها تصميم الأزياء الفنية، إلا أن حكمت داوود لم يتخل عن عشقه للألوان، يعود إليها بين الحين والآخر، ليرسم الواقع ويرصد الخراب الذي حل بالإنسان، ملتزما بالتجريب كأسلوب خاص يعيد من خلاله تجميع المعاني وفهمها.

صحيح أن حكمت داوود المولود في القامشلي عام 1965 عرف كمصمم أزياء للدراما السورية، بل هو أهم العاملين في هذا المجال، يكفي أن نسرد أسماء بعض المسلسلات التي عمل فيها حتى نعرف أحقيته في المساحة التي يشغلها في هذا الجانب، فقد صمم أزياء مسلسلات “باب الحارة” بأجزائه، و”أسعد الوراق”، و”ضيعة ضايعة”، و”البحر أيوب”، و”قاع المدينة”، و”قريش”، و”أعقل المجانين”، و”ليالي الصالحية”، و”حوش المصاطب”، والكثير من المسلسلات الأخرى حتى إنه في عام 2007 حصل على جائزة الإبداع الذهبية لأحسن تصميم ملابس من مهرجان القاهرة للإعلام العربي.

صحيح أن هذا الجانب أكل الكثير من عمر وجهد حكمت داوود وطغى على الأغصان الأخرى من موهبته إلا أنه لم يهدأ ولم يستكن بل بقي مغردا عليها ولو من حين إلى حين، أو بين فواصل المسافات مقتنصا منها ثمارا أنهكها النضوج، فكتب الشعر ومارس التمثيل والتصوير الفوتوغرافي وحمل الريشة والألوان، وكانت له أعمال تشكيلية تستحق الوقوف عندها.

هذا الجانب وأقصد الفن التشكيلي ظلم فيه، وربما نجاحه الكبير في تصميم الأزياء جعل قناديله في جوانب إبداعاته الأخرى خافتة، وعلى نحو أكثر في الفن التشكيلي، رغم إتقانه للغته أي لغة اللون، أكثر اللغات الإنسانية تداولا مع لغة الموسيقى، فهو فنان يميل إلى المحافظة على موهبته التشكيلية وممارستها عند اللزوم – بالنسبة له – رغم يقيننا أنها الأكثر لزوما على امتداد الحياة، وفي الزمن الراهن بجرعة أكبر، لغة التعبير عن الانفعالات والتنفيس عنها والتعبير عن الأفكار وتجسيدها، هي لغة التواصل والتخاطب في أرجاء المعمورة كافة مهما كان انتماؤك ولون بشرتك والأرض التي تنتمي إليها.

بالنسبة لحكمت داوود كان يجب أن تكون لغة الألوان الركن الأهم والأساس لإبداعاته الأخرى، ولهذا قلنا إنه ظلم نفسه أي ظلم ريشته وهو المتمكن من إيقاعاتها القوية واليقظ حسيا عند الخوض فيها، والقادر على تحويلها إلى موسيقى باللعب الرمزي معها والوثيق الصِّلة للمسافات الفاصلة والبارزة بين جوانبها كثيرة الحضور. يركض داوود بأصابع حافية حتى تبدو النتائج متسقة فيما بينها، بل يركض بروح لها كل العلاقة مع تفضيلاته التي تتغير وفقا لبنية مخططاته المعرفية، وبقلب له كل الخبرة الانفعالية ذات المسافة الخاصة علّها ترتقي بمهاراته وفق معايير خاصة.

داوود ينظر إلى الجمال بوصفه جوهر الواقع، ويدرك بأن الشعور به وكشفه هو توافق بارع مع الذات، حينها قد تبدأ مشروعاته المستمدة من ذلك الجوهر بالتوالد على نحو خاص، ينطلق في المقام الأول مما هو كائن ويبدأ بتحديد هذا الأمر وإيجاد ما هو ممكن، مع التعمق في لبه كظاهرة جمالية لها جذورها العديدة التي تخبرك بالمراحل التي وصلت إليها استجاباته المختلفة في ظل أحكامها الجمالية بمعاييرها الخاصة والتي تتلاءم غالبا مع عمليات تشكيله بتفضيلاته المعرفية منها واللاهثة نحو العلاقات التفاعلية من جهة أخرى.

هو يشعر من ناحية ما بأن وجوده الحقيقي هنا في هذا الجانب، في مزج ألوانه، وإن كان هناك مع التصميم يرسم على الجسد كما قالها مرة، وهو كذلك ولكن هنا الأسئلة تستمر في البحث عن أجوبتها، متجسدة من خلال الصورة والضوء واللون والتعبير والحركة، ومتمثلة بتداخل الأزمنة مع الحيرة والنهايات المفتوحة، مستخلصا مشاهده في أكثر من اتجاه مع المحافظة على أحاسيسه ودون أن يحدث أي إرباك لمتلقيه، معتمدا على التقاط الحركة المطلوبة والتمكين منها حتى تبقى متوازنة مع العناصر الأخرى في إكمال اللقطة/المشهد.

◄ نظرة سوداوية للمدن والبيوت
نظرة سوداوية للمدن والبيوت

إنه على إدراك تام بالقوى الفعلية للحياة والتي من شأنها أن تقوده نحو تصوير صادق يحدد هويته بتجسيد عناصر تعي أهميتها في ذاتها، وتستوعب السبل المؤدية إلى مرحلة ما من الإنتاج، مهما كانت سمات تجسيدها ومهما كانت حدة طغيان اهتماماته عليها، تلك الاهتمامات التي تحوم في مجال الجماليات وأفكاره التي تكون في غاية الأهمية، وهي التي تسوقه نحو المكونات الجمالية بتوازناتها ونسبها، بطاقاتها ونشاطاتها، هي التي تسوقه وتسعى به نحو الأشكال الإنسانية وأمكنتها معززا الاندماج الذاتي بالمتعة الجمالية.

هو يميل بدرجة ما إلى إشباع رؤيته بإطلاق الخيال وقواه، العاطفة وتجلياتها، ولهذا تأثير في إبراز خبرته في تفسير الظواهر الجمالية، وهو يسمو إلى لحظات تعلو الرغبة وقيودها وكأنه يجسد مقولة هيغل في الجمال بأنه اتحاد الفكرة بمظهرها الحسي، أو مقولة شوبنهاور بأن الجمال محرر العقل، فهذا التوافق البارع مع مفاهيم مازالت تفعل فعلها سيجعله يحقق الشكل في ذاته، أو من خلال خصائصه المميزة كاللون وكرؤية مستقلة عبرها يحاول جاهدا أن يحافظ على مواده الحسية لعمله الفني.

حكمت داوود يظهر الخراب الذي لحق بالإنسان وبالبلاد بنزعة تجريبية تدفعه إلى التعاطف مع المنحى العام للاعتراضات الواضحة والصريحة وشديدة الرهافة، وأيضا الكامنة في الحياة اليومية وفي لغته التي تنبغي أن تقوم في جوهرها على أساس من المثيرات التي تتسم بمواجهة مخاوف خاصة، فالمدينة التي تحولت إلى كفن لأبنائها تشحن النفوس بإثارات انفعالية مخيفة هي أكبر وأقوى من أي شعور آخر، فالاهتمام بتفاصيل الوجع وبإيقاعات شعرية هو تراجيديا تشكيلية يتقن داوود كتابتها، عازفا على عمليات تقريب المشاعر العنيفة والانفعالات القلقة والقاتمة.

هو يميل إلى عدم التفكير في الأبعاد، بل يميل إلى الخيال والاستمتاع به، يميل إلى البحث عن المغامرة بكل إثاراتها وبكل خطورتها فالأهم عنده استكشاف بيئات جديدة بكل آهاتها وأوجاعها وبكل قصصها التراجيدية التي لم تنته بعد.

ألوان تعبر عن أفكار صاحبها

14