أعمال معن علي سعيد قصائد جريئة تصور السجون ومشاهد التعذيب

يعيد الفنان السوري معن علي سعيد بألوانه الداكنة والحادة تشكيل آلام السوريين ومعاناتهم من الأنظمة الظالمة، وفي غياهب السجون، مستعينا بذاكرته المثقلة بهذه السردية الموجعة، ليعيد تصور شخوص فقدت كل ملامح إنسانيتها، متأملا الواقع وحالما بمشاهد حياتية أقل قسوة منه.
العمل الفني ذكي جدا، بل وأذكى من صاحبه الذي ما إن ينتهي منه حتى يركن نفسه إلى تأملات تستوطن دواخله، منتشيا بتلك التأملات المرافقة لعوالمه الداخلية التي لا تنفك تجره إلى الإيغال في متاهات الخلق والإبداع، أما العمل الفني فيبدأ بالضجيج والحياة جارا أي عابر سبيل من أمامه ليرغمه على التأمل والبحث عن إجابات لتساؤلات لا تحصى ولا تعد، ولا ينفك يتلقى منهم جميعا الإضافات والتعديلات والتحويرات التي تؤيدها، والتي تستوعبها على نحو مرن، قادر على أن يمتصها بمختلف رؤياها ورؤاها وأفكارها وأشكالها، فالإنتاج هنا لا يقيد بقالب حكائي معين، بل هو منفتح ومتفاعل مع الآخرين وثقافاتهم.
أسوق هذا الكلام وأنا أبحر بين أعمال الفنان التشكيلي معن علي سعيد، ابن مدينة السلمية، المدينة التي أعتبرها على نحو دائم توأمة مدينة عامودا، فكل واحدة منهما تنبض على امتداد الزمن بالحركة الثقافية الكبيرة وبالكم الكبير من المبدعين في المجالات المختلفة. ومن خلال إبحاري هذا خرجت بكنوز لم أكن أتوقعها بداية، فأنا أمام فن حقيقي كل ما فيه يذهل ويدهش ويجعلك تنزع الحذاء من قدميك وتمضي في عوالمه حافيا، فأنت في محراب مقدس.
مصداقية إبداعية
أعمال معن علي سعيد أسرتني وجعلتني أوقن بأن الفن ما زال بخير، وبأن هناك من يصر على أن ينتج الجمال بسلطانه وتاجه وأن الفن يستحق بحق أن يكون ثروتنا الأغلى والأكثر بقاء. ورغم الظروف القاسية التي مر بها البلد وما زال يمر بها، ومن كل الجهات والجبهات، إلا أن هناك من يعرف قيمة هذه الثروة، ولديه تطلعات كبيرة وبجدواها، فينتجها كي تكون خالدة وفاعلة وشاهدة على كل ما يحصل من مآس وأحداث مريرة لا تخلو من العنف في جوهرها، وهذا ما يصنع النتاج الثقافي دون أية حالة تعارض مع الذات، فآلام البحث عن الإنسان وإنسانيته قريبة من الشروط الصحية العامة الواجب توفرها حتى يكون التفاعل الديناميكي والتثاقف الطبيعي حرّيْن، حيث لا بد من بلوغ صيغ تصالحية تفك قيود الإرث وتأخذ ضرورات توثيق الذات والمرحلة بعين الاعتبار.
والبحث وآلامه قد يتخذان أشكالا غير مألوفة حين تضطر الذات المبدعة إلى خلق نفسها بلغتها هي، فكيف إذا كانت هذه اللغة ألوانا لكل منها حقله الجمالي والمعرفي يكسبها مصداقية إبداعية وتاريخية واجتماعية في الوقت ذاته، وفي سياق قراءتها وما يبث منها من أصوات تأسر الفنان أولا والمتلقي ثانيا. إنها لا تخضع للتدجين والإلغاء، بل تخضع لقهر الآخر وما يتصل بطبيعة وجعه، فسعيد لا يستخدم لغة الظالم لكي يسجل وحشيته وبعض الذاكرة الدموية التي قد يخلفها، بل يستخدم تلك اللغة التي تأخذ صفة الإشكالية المفتوحة للحفاظ على بنية العمل وتوازناته الدقيقة.
◙ فنان تشكيلي يدرك جيدا معنى الفن ودوره كفنان، ولهذا لم تأت أعماله مكتظة بموضوعات تطغى على جمالية عمله الفني
والتخييل الذي يلجأ إليه فناننا سعيد ليس لإيهام المتلقي بشيء من الموضوعية، ولا لإكساب العمل المصداقية المطلوبة، بل لجعله المنشط الذي سيجذب المتلقي إليه وبالتالي سيسهل عملية القراءة لديه. وهذا يكسب العمل أيضا مسحة جمالية تدفع المتلقي إلى التلذذ والاستمتاع بها، وإلى موالاتها. ولعل هذا بعينه هو الشغل الشاغل للمتلقي الذي يبقى على الدوام في حالة تنقيب عن فك رموزها للوصول إلى تفاصيل جمالها، أقول رغم ظروف الحياة القاهرة جدا، ورغم فقدان أبجدية الحياة، والأحوال في أسوأ ألوانها إلى درجة عدم توفر أولويات الحياة العادية والبسيطة لم يستكن الفنان الحقيقي ولم يتعب، بقي مستمرا في الإنتاج، له مجمل رأيه في الأشياء، فاعلا فيها وفي الأحداث، شاهدا عليها وتاركا الأثر الكبير عليها.
معن سعيد يرتقي بعمله إلى مستوى من الإبهام والتعميم، ولا يسمي الأشياء بأسمائها، ولا يحدد ولا يعين المراد منه، ولهذا لا يرسم ذلك السلسال الذي يقود المتلقي إلى العمل بل يترك ذلك لمتلقيه، ليتدبر رموزه والطريق إلى فك أبجديته، والغور إلى عوالمه ومعانيها المكتومة، ليقطف لذاته ذلك السر الذي أودعه الفنان في أعماله، وبذلك يساهم كمتلق في إنتاج العمل ونفخ الروح فيه.
أما على مستوى اللغة التي يوظفها سعيد في منتجه، فهي في حد ذاتها تدعم نزعاته الفنية، وتساهم إلى حد كبير في تشكيل أسلوبه الذي ينخرط في السياق العام للمنتج، وهي في الحقيقة مقطوعات غير مبهمة تماما بل ملهمة له في خلق صياغات جمالية طويلة وقصيرة تتعلق بمخاطباته التي تتمثل في مستوى من مستويات النص من ناحية قراءته أولا، وفهمه ثانيا، وحينها سيتبين قدرته على إيجاد مكان ملائم لسردياته الجمالية القائمة أساسا على التأمل والوصف والتجريد الذهني.
هذا ما يدفعنا إلى القول بأنه فنان يميل إلى التجريد والإيحاء، رغم تبيان قدرته على استيعاب نصه في نسيجه التعبيري وجعله في خدمة أهدافه الفنية، وإذا كان يريد أن يزرع الالتباس في نسيجه السردي ولدى متلقيه، فإنه بارع في استدعاء ما يخدم هذا الهدف، كالموسيقى مثلا التي تمنح عمله احتفاء خاصا إلى درجة أنها تذكره وتذكرنا معه بكل تلك الصور التي تقترن بشغف الإنسان بأدواته وما يحب ويعشق من جهة، ومن جهة أخرى بتلك الصور الدالة على القلق والخوف والغد المفقود. وهذا أمر لا تتحمله إلا تلك الصدور الحية النابضة بالإنسان.
استرجاع الماضي
لا شك أن فناننا معن سعيد يملك ذلك الصدر الذي يجعله قادرا على استرجاع مشاهداته القديمة الجديدة الموغلة في العذاب، فتعيده الذاكرتان البعيدة والقريبة معا إلى تلك التجارب الحياتية القاسية في البلاد التي تتجاوز ما يمكن أن يتخيله المرء، ويعول عليه كفنان في ترجمة آرائه وأفكاره عبر الألوان إلى أعمال تنطق بذلك الوجع الكبير، ويعول على المتلقي الخبير والقارئ في فك تلك الشيفرات المقترنة بخطابه الإبداعي، وبذلك تبدأ عملية رفع الستار واللبس والغموض عن صرحه الإبداعي، عن مقولاته التي تتبلور فيه والتي يجمع سعيد فيها بين الرؤى المختلفة، ويوفق فيها بين لا حياديته وبين تلك اللغة المتدفقة من بين هواجسه التي يمكن اختزالها في نصوصه التجريبية، ولا نخص مرحلة معينة بل كل ما أعلن عنه بوصفه رافضا للقوانين التقليدية السائدة، دون أن يربك المقومات الأساسية لها وبالتالي لتجربته. وهذا يتضح لنا من خلال ما تحيلنا إليه أعماله التي نعتمدها هنا في قراءتنا هذه.
أشعر بأسى شديد وأنا أتنقل بين أعمال معن سعيد لما يحمله من أوجاع وآلام تهز الروح، بما بلغته الأحلام من سن الشيخوخة، وبما بلغته الجياد من غياب الصهيل. لم يعد هناك فرسان على الصهوات ترفع نصرها، الخسائر تحيط بالمكان، وبالإنسان من كل الجهات، نعم الأسى سيمتطيك ليجرك إلى أقبية الحياة التي باتت سجنا كبيرا فيها تمارس كل أنواع الظلم والعذاب والقهر، وهذه الأعمال ذكرتنا بتلك الشخصيات بأجسادها التي لم يتبق منها إلا هيكلها العظمي الذي نجا من الموت، من أقبية سجون النظام السابق، الظالم والمتوحش، فكل أجهزة الحاكم حطمت الرقم القياسي بقسوتها ولا إنسانيتها.
◙ معن سعيد يرتقي بعمله إلى مستوى من الإبهام والتعميم ولا يسمي الأشياء بأسمائها ولا يحدد ولا يعين المراد منه
أعمال معن سعيد تأخذك إلى تلك السجون، بفقدانها لكل شيء، لأبسط وسائل الحياة، وكأنه يقول لنا إن البلاد كلها تحولت إلى سجن كبير، فمن لم يدخل أقبيتها عاش فيها بين شوارعها وأزقتها حيث الظلم والجوع يلف الإنسان كله، وهل من وجع أكبر من هذا الظلم الجمعي الذي يفقد فيه الإنسان كل شيء، حريته، كلامه، نفسه، ولقمة عيشه. المعمورة السورية دخلت بحق موسوعة غينيس للأرقام القياسية، محتلة المرتبة الأولى من بين المعمورة الكونية كلها في الظلم والعذاب، فإذا كان الإنسان السوري يشوى في سجون النظام السابق وما أكثرها، في صيدنايا وغيرها وهو على قيد الحياة، هكذا كان أيضا وهو خارجها، فالجوع في كل مكان، وخنق الحريات سمة النظام وملاحقة أبنائه حتى في خبزهم وقوت يومهم وفي هوائهم ومائهم. كأن الحكاية أشبه بخيال أو بقصة قادمة من الأساطير، كيف استطاع هذا الإنسان العظيم أن يتحمل كل ما حصل.
كل ذلك أليس كافيا لإنشاء نص تشكيلي جديد من قبل فناننا معن سعيد الذي أنتج بالفعل نصا قوامه الصدق والإبهار والإحساس الكبير. فجمالية الإبهار، مع توفر المستوى العالي من المشاعر، هي الرهان الفني الأساسي في هذه الأعمال التي اعتمدناها في مقاربتنا هذه، وهي جمالية تتطلب أساليب عديدة تتصل بالفنان وبمنتجه معا، فسعيد كان يتنبأ بما يحصل ويعلم خفايا الصدور، ولهذا حين بدأ برواية الحكاية لنا، كان صائبا إلى حد كبير ونظرته كفنان تسبق الحدث، ولهذا حدسه كان عاليا يضج بالصدق وبكمية عالية من المشاعر إلى حد عدم إفراغ الشخصيات في مشهديتها من أبعادها النفسية والاجتماعية والإنسانية. ولهذا استطاع أن يبدع مقومات إضافية كتشظي السرد وتعدد الحكايات خدمة لأغراض فنية وجمالية.
معن سعيد لا يركض إلى الموضوع بداية، مهما كان هذا الموضوع كبيرا ومهما، فهو يدرك أن الموضوع في العمل الفني يأتي لاحقا ومتمما له، ولهذا لا ينخرط فناننا في هذه اللعبة الخاسرة والضارة المباشرة والمضجرة، وإنما يبدأ بخلق تكوينات لونية وشكلية وحين يحس بأن العمل أنجز من الناحية الفنية، يبدأ حينها بتحميله ما يشاء من الموضوعات، قد يكون تنديدا للمجتمع العربي والإنساني حين يترك شعب صاحب حق وحيدا أمام الترسانات الثقيلة لعدو غير عادل أبدا، أو ما يعبر عن وحشية نظام ظالم ولى، مارس كل وسائل التنكيل بحق شعبه، من سجنه وصهره وشيه حيا، إلى حرمانه من جميع حقوقه بما في ذلك لقمة عيشه، أو يكون بورتريها يحمل كل تعب الأرض إشارة إلى اضطهاده وظلمه، أو حالة عشق أو جلسة كأس بحثا عن الحب والحياة والفرح، رغم كل خسائره، ورغم كل هزائمه.
وهو لا يتنازل عن البحث، وعن تلك اللحظات، ولهذا رغم أنه بات هيكلا عظميا جراء جرائم النظام إلا أنه لا يتخلى عن آلته الموسيقية، ولا عمن يحب أو قد يلجأ إلى الطبيعة وجمالها، حيث الحلم والتسامح والجمال، أو حالة غزلية بين الطيور، أو بين عاشقين، رجلا وامرأة يسرد كل منهما للآخر مشاعره وأحاسيسه المقدسة، أو عن المرأة التي تشكل عنصرا مهما من جمال عوالم الفن والألوان على نحو عام، أو عن حالات الفرح والحزن معا، أو كل ما يدعو إلى التأمل من خوف وقلق ورعب وحلم وحب.
ومعن يدرك جيدا معنى الفن ودوره كفنان، ولهذا لم تأت أعماله مكتظة بموضوعات تطغى على جمالية عمله الفني، بل جاءت لتزيد عمله جمالا وقوة في مجمل نواحيها الفنية، ولذلك جاءت أعماله كقصائد جريئة وغنية بالموسيقى والأحاسيس، وبالتأمل والخيال والحلم.
ومعن سعيد من مواليد مدينة السلمية في حماة عام 1966، بدأت علاقته مع الرسم وهو صغير حتى أنه قال “كان أول دفتر رسم لي هو مقعد الدراسة في الابتدائية، كنت أحاول أن أرسم أي شيء من الطبيعة، الأشخاص، الطيور، وفي الإعدادية شجعني الأستاذ الفنان المرحوم ناصر الشعار، وكان للفنان رياض الشعار تأثيره الكبير علي.” وهو عضو اتحاد الفنانين التشكيليين في سوريا، وعضو اتحاد الفنانين التشكيليين فرع حماة، وعضو في نقابة فناني الشارقة، وعضو في بصمة فن لفناني السلمية المتحدين.
قدم العديد من المعارض الفردية والجماعية في كل من السلمية ودمشق والشارقة، وكذلك في أربيل بكردستان العراق، ومن المفيد أن نذكّر بأن معرضه الفردي الأول كان في عام 2010، وقد جاء بعد تقاعده من عمله الوظيفي، وكان آنذاك في الخامسة والأربعين من عمره.