صباح محي الدين الزهاوي شيخ فناني خانقين بكردستان العراق يترجل بصمت

تجربة وظفت المعالجات التجريبية في التنفيس عن الأفكار عبر مناظر طبيعية.
الثلاثاء 2025/02/04
أرشيف وخزان ثقافي لعموم العراق

ودعت كردستان العراق منذ أيام صباح محي الدين الزهاوي أحد رواد التشكيل الكردي، الذي سخر تجربته الممتدة على نحو ستة عقود لتوثيق الحياة في مسقط رأسه خانقين وفي كردستان والعراق أيضا، محافظا على الرموز والثيمات التي تحيل إلى هويته التي كان دائم السعي نحو توثيقها في لوحاته.

كلما رحل عنا مبدع ما، مهما كان الغصن الذي يغرد عليه ومهما كان المجال الذي يبدع فيه، إن كان أديبا، شاعرا أو قاصا أو روائيا، أو سينمائيا ومسرحيا، أو إن كان موسيقيا ومغنيا، أو فنانا تشكيليا، كلما أحسسنا بأننا خسرنا جزءا مهما من ثروتنا الثقافية الوطنية الحقة، فهؤلاء كنوزنا على هذه الأرض لا يجب أن نفرط فيهم، لا وهم أحياء يعيشون بيننا ولا حين يتركوننا نتخبط في أوحال أوجاعنا ويرحلون بعيدين عنا إلى عالم أكثر حبا وأمنا وإنسانية، إلى عالم منسوج بخيوط من النور والضوء.

أقول هذا الكلام إثر رحيل الفنان الرائد وشيخ الفنانين التشكيليين في خانقين بكردستان العراق، كان ذلك يوم الثامن والعشرين من يناير الماضي، بعد صراع طويل مع المرض، عن عمر ناهز الثانية والثمانين عاما. رحل بصمت الآلهة موغلا في ذاكرتنا المدفونة في أعمق طبقات التاريخ ليوقظها ويبعث الروح فيها من جديد، ويعيدها إلى صفوف الأصوات النابضة بالحياة وبشظاياها المجازية في مواجهة النسيان.

صباح محي الدين الزهاوي الذي ولد وأبدع في عائلة فنية كان تاريخا لمدينته خانقين وأرشيفا نقيا ومخلصا لتراثها

رحل الزهاوي بصمت موثوق بذاته وبكل طاقاته الإبداعية التي راح يسخرها بكل ما أوتي بها من حب وشغف مثقل بالأحداث والوقائع التي حركها من هيئات ثابتة إلى مسارات طويلة دائمة التحرك، فقد سعى بكل نبضات قلبه وبكل شظايا ذاكرته كي يكون شاهدا ووفيا للإبداع الذي يوثق ويؤرخ الجمال لوطنه، لا الذي كان بل الذي سيكون. حقا كان أرشيفا وخزانا ثقافيا لا لخانقين ولكردستان بل لعموم العراق، فهل سنجد من ينصف مبدعينا الحقيقيين؟ يجمعون أعمالهم ومقتنياتهم في متاحف خاصة بهم أو عامة، هل سنجد متحفا أو أي صرح ثقافي بأسمائهم أو حتى شارعا يعرف الآخرين بهم وبأنهم فعلا كنوزنا في هذه الأرض وبأنهم خالدون بيننا؟ هذا ما نتمناه.

كتبت عنه قبل سنوات مادة بعنوان “صباح محي الدين الزهاوي مقاطعه اللونية سيمفونيات كردستانية” تحدثت فيها عن تجربته المهمة وأشرت إلى تمتعه بخصوصية عالية مكنته من الدنو من عوالم كردستان وطبيعتها، ومن ملامح إنسانها وتراثه من عادات وتقاليد قلت فيها “بداياتي الفنية كانت مُذ كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية من عام 1950 – 1956 حيث كنت أساعد جدي وأعمامي في صناعة النجارة وفي صناعة صناديق الملابس للعشائر الكردية في خانقين وقراها، وكنت أقوم برسم واجهة الصناديق دولاب كردي بصور فرس الرسول أو بالمناظر والزهور”.

بهذه العفوية الشفافة تحدث الفنان صباح الزهاوي (1943) عن خطواته الأولى والتي عليها اتكأ ليشق طريقه في الحقل الفني الوعر، فالذي تكون هذه بدايته وهو لا يزال طفلا لا بد أن يصادق مساحة يصوغها بنفسه، ويوقظ القابع في داخله ليروي عنه سيرته ويقدمه للملأ، وتتحول حكايته إلى شاهدة تسرد صوته العادي بنبرة غير عادية، تسرد كل مروره ومروياته بلغة تكشف عن طبيعة مفرداته، بلغة تحدد موقعه في المشهد التشكيلي العراقي على نحو عام والكردستاني على نحو خاص، وتحدد رؤيته في الحياة وموقفه منها، بلغة بها يرسم المسافة الفاصلة بينه وبين عتبات الآخرين.

عناصر جمالية عذبة
عناصر جمالية عذبة

الزهاوي لجأ كأبناء جيله إلى الطبيعة كمتنفس لأحاسيسه وكحامل لرؤاه، فهو يعتمد على التنوع المستمر في معالجاته التجريبية، ولهذا ينجز بالبحث عن المألوف والعمل على تجاوزه، فما يشتغل عليه يأتيه من الخارج عبر التقاطه لبؤر جمالية والقبض عليها وعدم تركها ملفوفة في قماطها بل لفظ القماط عنها، ورميها إلى الداخل، حيث الدرب الذي سيشرع فيه الزهاوي بصحبة ألوانه وترشيدها نحو سرد مدينته خانقين، بأزقتها وجسرها وناسها وتاريخها وتراثها وبيوتها وجبالها، وهو من موقعه لا يسمح لأي اضطراب أن ينتشر في عمق نتاجه بل يجمع من التأملات ما تيسر له، هذه التأملات التي ستكون بدورها رنينا لمقاصده غير المحدودة والتي سيميل بها نحو المغايرة والفعل المتعدد بتضافر إنتاجه وهو يعيدها إلى سياقها الخاص، إلى سياقه هو الذي سينحسر نحو سلسلة محاكاته للطبيعة في أبعد حالات اختزالها ومحاكاته للتاريخ والتراث.

الزهاوي ينتمي إلى الطين الصاعق لجذور حكاياته القديمة ولرائحة عالمه الطفولي المليء بالأساطير، فهو يجمع بينهما ضمن رموز وليدة واقعه، فكل لمساته تحرض ذاكرته لتعيده إلى طبيعة البدايات في وهجها، وفي تفاعلاتها الحسية بخيوطها اللونية الحيوية والممزوجة بوعي بصري تحيي طقسه القديم مع أدواته في التعامل مع التراكمات الجمالية المستنبطة من القيمة الواقعية كحالة أبعد من حالة المفردات المرمية في الطبيعة. وكم هي كثيرة وكثيفة مقاطعه اللونية التي تجسد على نحو كبير طبيعة كردستان والتراث الكردي.

جمال كردستان كان لا بد أن يشغل الزهاوي كثيرا، كما شغلته بيوتها وناسها بعاداتهم وتحركاتهم اليومية البسيطة كأرواحهم، لما فيها من عناصر إنسانية عذبة ومتعددة.

إنه وبشحنات انفعالية تعبيرية يسيطر على الحركة المستديمة في مساحاته الحاملة لخصوصية المكان، وبواقعية تحمل في ثناياها كل ملامح المرحلة يكثف المعاني الإنسانية ليطلقها طيفا لونيا تلخص مقاصده بتجلياتها ومعالمه الفنية بنضوجها وبقدرتها على حشد تجربته وإبرازها.

الزهاوي وخوفا من أن يجرح نفسه وتلك التي يشتغل عليها وما تحمله من أحاسيس ومواضيع وموسيقى، لا يخرج عن السائد والمألوف، بل يبقى أمينا على ما يؤكد انتمائه إلى هذا المكان بحميميته المنبسطة أمامه والممتدة للأفق العاري، وبوجوهه التي تلمع ببريق شاحب وغامض وتتلاشى في فضاءاته وهو يكتشف من قاع الوهم أن الجمال لا نهاية له بل ويرفع له تاجات الملكات العاشقات جدا وهن يرقصن بجنونية على طريقة زوربا.

سيمفونيات كردستانية
سيمفونيات كردستانية 

فناننا الراحل من مواليد خانقين بكردستان العراق عام 1943. حصل على شهادة دار المعلمين الابتدائية، اختصاص تربية فنية في بعقوبة عام 1963، وحينها بدأ حياته المهنية كمعلم في القرى، ثم معلما في ثانوية الخانقين للبنين.

تتلمذ على يد الفنان ناظم الجبوري الذي بقي تأثيره عليه لفترات طويلة، وكان وفيا له ولجهوده إلى درجة أنه يذكره في كل لقاء يتحدث فيه عن تجربته وبداياتها.

كان صباح محيي الدين الزهاوي عضوا بارزا في نقابة فناني ديالى، وفي نقابة فناني كردستان، حاز على الكثير من الجوائز التقديرية اعترافا بإنجازاته وإسهاماته المهمة في تطوير الفن التشكيلي في خانقين على نحو خاص، وفي كردستان العراق وفي العراق على نحو عام، نعم حصل على أكثر من مئة شكر وتقدير وعلى عشرة دروع وعلى ثماني عشرة من الجوائز المتفرقة.

أنجز خلال مسيرته الفنية الطويلة أكثر من خمسمئة عمل فني ما زالت أكثر من مائتين منها في حوزته نائمة بين جوانح بيته ومرسمه. وقدم تسعة معارض فردية وشارك في أكثر من مئة وعشرة معارض مشتركة على امتداد العراق وكردستان العراق.

صباح محي الدين الزهاوي الذي ولد وكبر وأبدع في عائلة فنية، ليس آخرهم شقيقه الأصغر الفنان التشكيلي عباس الزهاوي، كان له ولهم دورهم الكبير في الارتقاء بالفن التشكيلي في خانقين وكردستان وفي عموم العراق، فكان صباح على نحو أخص تاريخا لمدينته خانقين وأرشيفا نقيا ومخلصا لتراثها.

Thumbnail
14