مد وجزر بتريليون دولار وآخر بين مليون نسمة ومئة مليون من البشر

يجتمع دماران على غزة؛ دمار آني يرتبط بعقلية من يوجه السياسات التي تحكم اللحظة الراهنة، ودمار طويل الأمد يرتبط بعقلية تعبر الزمن إلى ما يجري اليوم وما سيجري في الغد.
ربما من قبيل المصادفة البحتة أن يأتي تصريح الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن عملية إخلاء أو إجلاء للفلسطينيين في غزة نحو مصر والأردن، مع الفيلم الذي بثته الجزيرة عن عملية إعداد “طوفان الأقصى” على يد مدبرها الأول يحيى السنوار. كيف سيحكم التاريخ على السنوار؟ يبدو تقديم إجابة آنية أمرا صعبا لأننا لا نزال في مرحلة التداعيات الأولى.
لا يزال الخط الأول من المستفيدين والمتضررين مما حدث في طور حساباتهم الأولى.
سوريو المعارضة وقائدهم أحمد الشرع يحصون نتائج سقوط نظام بشار الأسد. لا شك أن الأسد نفسه لا يزال يعيش لحظة الصدمة ولم يستوعب الفكرة كاملة إلى حد الآن.
◄ فوضى من الكلام بلا معنى كنا قد اعتدنا على نسيانها مع رحيل ترامب عن شاشاتنا منذ أربع سنوات. ها هي الفوضى تعود من جديد بلا حد أدنى من المسؤولية الإعلامية
بعض اللبنانيين لا يمكن له أن يهضم عالما بلا “السيد” وكيف سيكون عالم لبنان بلا السيادة المطلقة لحسن نصرالله ويده التي تطال كل شيء والذي يتحدى وينفذ. في كل مرة يتم فيه الحساب، يصدم اللبناني من هول ما جرى، حيث اختفى “السيد” وتبخرت تركته في أيام.
لا أعرف كيف يقيم الإيرانيون خسارتهم على الأرض وكم دفعوا ثمن “طوفان السنوار”. من الصعب معرفة كيف يقيمون هذه الخسارة تاريخيا. لكن من المفيد الاستعانة بالمؤرخين للقيام بجردة حساب جديدة لكتاب “مقاتل الطالبيين” كما أوردها أبو الفرج الأصفهاني. من المفيد النظر إلى هذه الجردة، والعودة إلى محطاتها الكبرى والتساؤل بموضوعية: هل خسر الشيعة شخصية بثقل حسن نصرالله كتأثير؟
لنسأل بموضوعية أيضا: من يستبدل المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي؟ كان بعض الرد جاهزا يوم تواجد الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي. لا أحد كان سيجادل بأن رئيسي كان الزعيم البديل، وكان مرور الكرسي إليه أكثر من طبيعي. استبدال خامنئي لم يكن مشكلة. ما لم يكن طبيعيا هو خسارة حسن نصرالله. فجأة اختفت أهم شخصية شيعية هي -من دون مبالغة- قد تكون الشخصية الاستشهادية الأهم على قائمة جدول “مقاتل الطالبيين” من بعد الإمام الحسين بن علي، لو تسنى أن استمرت كتابة الكتاب ليكون عابرا للتاريخ الشيعي ليصل إلى يومنا هذا.
لسنا بصدد وضع أوزان معنوية أمام كل شخصية شيعية في التاريخ. لكن بالتأكيد حسن نصرالله شخصية استثنائية من الصعب جدا العثور على بديل لها، خصوصا وأن مقتله جاء بدراما بصرية أضافت إليها تقنيات التصوير الحديثة ألوانا برتقالية ودخانا وأصوات أشبه بصوت الرعد ونفذت بطائرات عدوة حذر منها بنفسه لسنوات ولم ينتبه للتحذير، حتى لكأن القدرية كانت مبيتة لتضيف الشخصية الشهيدة الثانية بعد الحسين، بل وببعد إضافي، هو بعد قرآني. فلم يحذر القرآن من شيعة وسنة بين المتقاتلين، ولكنه بالتأكيد حذر من اليهود. وها هو الشهيد الشيعي الأخير يقتل بأيديهم.
الدراما تكاد تكتمل الآن. فثمة قراءات تأتي من أركان إضافية تراهن على الوهم وتتمثل فيه. وهذه بحد ذاتها مشكلة، لأنها توظف بعض الخوارق لتدعم القصة.
مشهد الخراب نفسه من هذه الصور. يرتبط المشهد بما حدث وأن العالم مقبل على خراب. ومن هذا الخراب أيضا صورة الشعبوية المستفحلة عالميا والتي من أبرز معالمها ترامب وعالمه المكون من الدعوة إلى الغرائبيات في عالم الصناعة والاقتصاد. استمع إلى ما يقوله ترامب وستجد الكثير من العجائب. استمع إلى مريديه من طبقة يحيط نفسه بها وستجد عالما أكثر تنويعا. في قلب هذا العالم هناك ترامب. لكنه عالم فريد من نوعه من حيث تنويعاته المالية والتكنولوجية. عالم فيه طلبات من نوع أريد 500 مليار دولار. إذا خذ 600 مليار! لا، بل أريد تريليون دولار. عالم تتحقق فيه معجزات تكنولوجية بحكم تقدم الذكاء الاصطناعي، من دون أن ندرك كنهها، أو كيف حدثت. إنها تقنيات الصندوق الأسود، إذ تنصب المعطيات وتأتينا المخرجات دون فهم ما يحدث.
◄ لسنا بصدد وضع أوزان معنوية أمام كل شخصية شيعية في التاريخ، لكن بالتأكيد حسن نصرالله شخصية استثنائية من الصعب جدا العثور على بديل لها، خصوصا وأن مقتله جاء بدراما بصرية
في هذا الخضم، نرى عالمنا الذي يجلس على المليارات ولا خيارات لديه إلا أن يقول نعم أو لا. إنه شيء أشبه بالهلوسة. اسأل حتى الخبراء، فستجد ردودا مبهمة.
يطل ترامب على عالم يعاني الأزمات المالية والبشرية الكثيرة في الأردن ومصر ثم يبادر إلى رمي كلام خطير يمس الحس الوجودي، وقد ردده قادة وسياسيو البلدين منذ اندلاع “طوفان الأقصى” من دون حد أدنى من الكياسة الدبلوماسية أو السياسية. كل مخاوف المنطقة تتجسد في جملة أو جملتين تلخصان ما يحدث. وعلى البلدين وجيرانهما العثور على الحلول. جمل متجاورة في تصريحات تطلق في آن واحد أو متزامن تقريبا عن عالمنا، مرة بأخذ مئات الآلاف من أهل غزة والعثور لهم على مكان يعيشون فيه بين الأردنيين والمصريين، ومرة بالحديث عن عشرات المليارات تستخدم من أهل المنطقة أنفسهم في استثمارات للولايات المتحدة. فوضى من الكلام بلا معنى كنا قد اعتدنا على نسيانها مع رحيل ترامب عن شاشاتنا منذ أربع سنوات. ها هي الفوضى تعود من جديد بلا حد أدنى من المسؤولية الإعلامية. تسألوننا لماذا نخاف من ترامب؟ استمعوا إلى ما قاله في أقل من أسبوع منذ توليه الرئاسة إلى اليوم.
ما يحدث أمامنا من مد وجزر إستراتيجييْن وإعلاميين وسياسيين يفوق قدرتنا على التجاوب معه على كل المستويات. ماذا يعني مد وجزر بتريليون دولار بين الولايات المتحدة والسعودية؟ ماذا يعني مد وجزر بشرييْن بمئات الآلاف من الفلسطينيين الغزيين في بلد مثل مصر أو مثلهم في الأردن؟ ها هو العالم ينتفض لمصير المئات وليس مئات الآلاف على الحدود المكسيكية – الأميركية أو الكندية – الأميركية. منطقتنا قلقة؟ لا شك أنها قلقة، لأنها مستهدفة. عد ولا تحسب موجات المد والجزر.
لقد عاد ترامب نهما، مفتوح الشهية للمنطقة، للسياسة فيها وللـ”منجزات” الكبرى. في موسمه الأول رئيسا كان يطلب عشرات المليارات من الدولارات وتغييرات ديمغرافية محدودة لا تغير خرائط المنطقة. في موسمه الثاني يطلب ترامب مئات المليارات من الدولارات وتغييرات ديمغرافية تعيد رسم خرائط المنطقة بشرا وحدودا. هذه منطقة تتأرجح بها أحزمة الفقر وكروش الثراء معا، وببلاد عدد سكانها مليون نسمة وأخرى 100 مليون.