مصارحات إسبرطية بين محمد بن زايد ومسرور بارزاني

تقف دولة الإمارات مثلما تقف حكومة إقليم كردستان – العراق كنموذج للاستقرار في منطقة تمزقها الاضطرابات. ليس من قبيل الصدف أن يجتمع رئيس دولة الإمارات الشيخ محمد بن زايد آل نهيان برئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني ليتباحثا سبل عودة الاستقرار إلى المنطقة. تدرك دولة الإمارات خطورة أن تفتقد المنطقة للاستقرار. ولعل حكومة كردستان تدفع يوميا ثمن عدم الاستقرار، إذ تعاني أزمة مركبة، واحدة مع الحكومة المركزية وتعود إلى عشرات السنين، وأخرى تعود إلى التسعينات من القرن الماضي، بعد انشقاق داخلي بين الأكراد أنفسهم لم يجدوا له حلا مع الشطر الشرقي من كردستان – العراق. يمكن أن نتخيل حجم الجهد الضائع للدولة العراقية التي بدلا من أن تعالج مشكلات كبرى توالدت على مدى السنين الأخيرة، تحاول أن تتعامل مع مشاكل تراكمت منذ ولادة الدولة العراقية الحديثة عقب انتهاء عصر الدولة العثمانية.
أمعنت إيران في تفكيك المنطقة مستفيدة من ضعف الدولة العراقية المتولد من خسارة العراق وضعَه المركزي كدولة ضامنة للسلام والاستقرار الإقليمي. استثمرت إيران في كل فتنة، إلى درجة أن محصلة الأزمات صارت مضحكة إذ أن عملا حربيا إسرائيليا لمواجهة الاحتكاك الإيراني، مثل صيغة تولد حزب الله كحجة لـ”مقاومة” إسرائيل و”دعم” القضية الفلسطينية، يصبح فرصة للتدخل وأزمة إقليمية في حد ذاتها تتسبب في تفكك الدولة اللبنانية على حساب المشروع الوطني اللبناني ذاته. وتتكرر السيناريوهات مرة بعد أخرى، مرة في اليمن ومشروع وحدته الذي عاد شمالا وجنوبا، لينزلق البلد إلى مرحلة تهديد الوجود نفسه، ومرة أخرى في مشروع سوريا التي تتصارع فيها كل أنواع القوى الآن لتنتهي الدولة الوطنية إلى حالة مرض وجودي أضحت فيها الدولة السورية بين البقاء والفناء. كل فتنة أنتجتها إيران، صارت مشروع حرب وجود لأقلية وتفكيكا داخليا قد ينهي الدولة نفسها كما شهدنا في أيام نظام بشار الأسد الأخيرة. أسئلة البقاء والفناء ما كان لها أن تطرح أصلا، خصوصا في هذه المرحلة التاريخية من الاستقرار. بشار الأسد كان يجب عليه أن يرحل في أجواء أكثر هدوءا لا تزيد عن رحيل زعيم فاشل وليس حالة تشرذم لبلد مركزي آخر مثل سوريا يكرر أزمة تفكيك العراق، باحتلاله من قبل الولايات المتحدة واحتلاله المركّب أميركيا وإيرانيا. الاحتلال المركّب ظاهرة خطيرة لأننا لا نعرف بالضبط كيف سينتهي ومن سيرث البلد.
◄ الأكراد قوة إقليمية صاعدة ولا يمكن معاملتها على أنها قوة انقسام أو ضمن خانة القوى الانفصالية. نحن نعيش في عالم تنفتح فيه الرؤى ويصبح أي تعريف واردا. هذا أقل اعتبار لهم
إنه اجتماع بأبعاد نادرة الوقع. هذا زعيم دولة وليدة الوحدة التي أسس لها الشيخ الراحل زايد بن سلطان آل نهيان، في لحظة انتقاء لتغيير مسيرة التاريخ وتغيير مساره. عندما كانت الظروف الموضوعية تنبئ بتغير الدول وتشرذمها اختار الشيخ زايد أن يكون محورا تلتف من حوله الشخصيات التي رأت في الوحدة مصلحة لشعوبها على الرغم من قلة الإمكانيات وندرتها آنذاك. نحن نتحدث عن السبعينات من القرن الماضي، حين اجتمعت إرادة قادة الإمارات لتحقيق النصر على رغبة التفكك واستئثار الذات على حساب مصلحة الشعوب. هذه التركة التي أورثها الشيخ زايد، للشيخ محمد بن زايد ممن عاش مراحل صباه في أولى مراحل سنوات دولة الوحدة في الإمارات، وفهم على أرض الواقع كيف تتقدم مصالح الشعوب على مصالح الأفراد. هذه تجربة فريدة من الصعب أن ترثها ولا تتأثر بها.
إنه اجتماع نادر على ضفته الكردية وليس العربية فقط لأن ثمة قوى كبيرة طاردة في كردستان تجتمع اليوم لتمزق الكيان الكردي بوهم الانتماء إلى الوطن العراقي، إنما لتجد نفسها تعمل لصالح تمزيق الوحدة الوطنية العراقية بينما هي تعمل ضد هذه الوحدة. هل نحدثكم بحديث الرواتب التي يساومون عليها الموظف الكردي. فمن وجهة نظرهم أن الدولة العراقية أمة واحدة طالما كانت تعمل لصالح الإيرانيين. انظروا كم تشرذم العراق وتمت تصفية وحدته للقول إنما هم دعاة وحدة وليسوا انفصاليين، ولا حاجة إلى الخوض كثيرا في مسألة المديات التي بلغوها لتمزيق الجسد العراقي؛ فما هي إلا عملية بيع وشراء لحصص نفطية تنقلها الشاحنات التي تعبر الحدود يوميا بدعوى العمل الوحدوي الكردي. كيف يمكن تبرير دعوات الانفصال بين شرق كردستان وغربها، على أساس دعوات الاختلاف السياسي بين الاتحاد الوطني (مفارقة تسمية الحزب بـ”الاتحاد” الوطني الكردستاني تبقى محصورة بالأسرة الحاكمة) والحزب الديمقراطي الكردستاني. لم يكتفوا بالمناورة، بل تركوها لبعدها الأرحب بأن يقولوا “ولكن الحزب الآخر ليس ديمقراطيا،” رغم خسارتهم جولات انتخابية متعاقبة مرة بعد أخرى بفوارق شاسعة تقبّلها الحزب الديمقراطي برحابة صدر.
لا نريد أن نستذكر أو نستدعي محاولات تفتيت الشأن الكردي على جانبه في سنجار وما بعد سنجار، وتحويلهم القوى الكردية هناك إلى قوة مرتهنة بمشيئة إيران قبل الانكسار الإيراني الكبير. هذه محطات كثيرة يستدعيها الأكراد قبل غيرهم بمرارة. إنها استدعاءات تقسم العراق وفق محاصصات مذهبية ضخت إلى مناطق تنتظر التعايش والتآخي، وخصوصا كركوك، بدلا من زراعة أجيال أخرى من العداوات لا نسعى هنا إلى الحديث عنها. هل هناك ما يستدعي كل هذا، إلا إذا كان الهدف هو الانتصار لإيران ومشروعها التفكيكي الذي يتجاوز العراق متحديا كل منطق.
◄ لا حاجة إلى الخوض كثيرا في مسألة المديات التي بلغوها في تمزيق الجسد العراقي؛ فما هي إلا عملية بيع وشراء لحصص نفطية تنقلها الشاحنات التي تعبر الحدود يوميا بدعوى العمل الوحدوي الكردي
يجلس الأكراد العراقيون ليستمعوا إلى تجارب ثرية لأخوة في التعايش والنجاح. يذهب كاكا مسرور بارزاني ليرى الجيل الثاني والثالث من زعماء دولة الإمارات وهم يسجلون قدرتهم في التنمية والانفتاح، لاستدعاء فرص النجاح تلك في كردستان – العراق والقبول بإخفاقاتها إنْ حدثت. هذه روحية جديدة صارت ملموسة مع ما شهدناه من قلق من خسارة الأصوات، خصوصا لصالح التيارات الشابة. هذه تيارات كردية تذكّر مع كل انتخابات إقليمية جديدة بأن لها حصة يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار وأنها ليست مجرد ضوضاء انتخابية من أفراد. أما تلك الخسارات التي تذهب لصالح بقايا القوى التقليدية أو القوى المتجيشة والتي تستغل تشتت ولاءات البيشمركة أو قضية الرواتب أو الأزمات الإقليمية، فمن الضروري الرد عليها بالعمل الحزبي والأداء الحكومي وليس بالابتزاز والتخويف.
الأكراد قوة إقليمية صاعدة ولا يمكن معاملتها على أنها قوة انقسام أو ضمن خانة القوى الانفصالية. نحن نعيش في عالم تنفتح فيه الرؤى ويصبح أي تعريف واردا. هذا أقل اعتبار لهم، حتى من باب الاعتراف بهم كشعب قاد بدوره رؤيته الخاصة لإثبات حقوقه ودافع عن الضعفاء منهم، بل وأصبح ملاذا للاجئين من بطش القوى الكهنوتية، تلك الملتحفة بعراقيتها أو تلك التي تستدعي بلا خجل انتماءها الخامنئي الإيراني.
ليس من باب المصادفة أن تجتمع قوى إسبرطة في أبوظبي أمس لتقول كلمتها في ما يجري في منطقتنا، في الوقت الذي تتدافع فيه القوى العظمى لتترك بصمتها على عالم ما بعد “طوفان الأقصى” المخيف. هذا تجمع للقوى العاقلة التي أسهمت الخبرات في صقلها، وتمعنت في ما لديها لتقول القوى ما تريد أن تقوله وأن تتداول ما بين أيديها من قوة، وأن تجلس في دار حكمة الشيخ محمد بن زايد، وريث حكمة الشيخ زايد ومروءته. هذا لقاء يقال فيه ما يتجاوز التعابير إلى المصارحات بين حلفاء واعين: هنا أصبنا وهنا أخطأنا؛ هنا أصاب أعداؤنا وهنا أخطأوا.
ما كانت منطقتنا لتصل إلى ما وصلت إليه لولا إخفاقات كبيرة في التعامل مع عدد كبير من الملفات تركت لتحل نفسها بنفسها، لنجدها وقد أصبحت أقرب إلى الاستعصاء منه إلى الحل. لهذا نجد البعض منشرحا هذه الأيام في الشرق الأوسط، في حين يقف أو يجلس البعض الآخر قلقا. لهذا أيضا يلملم البعض أوراقه باحثا عن الحلول لأزمات لا حلول لها إلا بالعودة إلى نقطة الانطلاق، أو أن يقول: عدونا أو ندنا مارس صبرا إستراتيجيا ولعب ألعاب السياسة والإعلام والاقتصاد، بل حتى الابتزاز، على مدياتها، في حين استعجلنا النتائج. هذه هي مصارحات الإسبرطيين الشجعان الذين لا يخشون أن يسألوا أنفسهم الأسئلة الصعبة.