جمانة الطراونة شاعرة تكرس صوت الأنثى في قصائدها

الخطاب الشعري الأنثوي يستفيد من طاقات الدراما والسرد.
السبت 2025/01/18
جمانة الطراونة شاعرة ظلّت أمينة على طابعها الأنثوي

خرجت الشاعرات العربيات المعاصرات من المساحات القديمة التي رسمتها الذكورية لكل كاتبة ومبدعة، فتحررت الكثير من قصائدهن في خطاب أنثوي مكتمل المعالم، وصارت لهذا الخطاب محددات وملامح خاصة، وذلك مع تراكم التجارب الشعرية النسائية والنسوية، ومن هؤلاء الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة التي تدرس تجربتها الناقدة رائدة العامري.

في كتابها "الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية" تأخذنا الدكتورة رائدة العامري في إطلالة على المناهج النقدية الحديثة التي انفتحت على آفاق جديدة في الدرس النقدي، الذي تمكنت فيه من إرساء دعائم فضاء نقدي مغاير للنقدية العربية القديمة.

وتحدثنا العامري في كتابها، الصادر عن دار أبجد للترجمة والنشر والتوزيع ببابل، عن تأثر هذا الناقد الحديث بما حققته العلوم والمعارف الأخرى من تقدّم وتطوّر؛ ولاسيما في فضاءات وسائل التواصل الاجتماعي التي كرّست تقاليد جديدة للتعامل مع اللغة والصورة وغيرهما من أدوات التشكيل في النص الأدبي الحديث.

الخطاب الأنثوي

تتوقف بنا الباحثة عند واحد من أبرز هذه الكشوفات في الدرس النقدي الحديث، وهو الخطاب الأدبي الأنثوي؛ حيث صارت معاينة هذا الخطاب –بحسب قولها- تأخذ بعين الاعتبار طبيعة النص الأنثوية وانعكاسها على هوية الكتابة، فصارت الكاتبة الأنثى تعي خطورة هذه القضية وتعمل عليها بما يجعلها تدافع عن ذاتها وخياراتها الأنثوية.

وتدلنا مقدمة الكتاب على أنه بالرغم من أن هذا الموضوع ظلّ حتى الآن موضوعا سجالياً بين النقاد العرب إلا أنه عمليا أخذ حيزا مهما في الدرس النقدي الحديث، ومن بين أهم الخطابات الأدبية التي سجّلت حضورها في هذا الدرس الخطاب الشعري الأنثوي، فقد برزت شاعرات فارقن النموذج الأنثوي العربي القديم في الشعرية العربية القديمة، حيث كانت المرأة الشاعرة -على قلّة الشاعرات في هذا التاريخ الشعري العريق- أسيرة النموذج الشعري الذكوري، بحيث لا يمكنها أن تتنفس إلا عن طريق مجال ذكوري يسمح لها بذلك.

وتذهب الدكتورة رائدة العامري في مقدمة كتابها إلى القول بأنه لم يكن للشاعرة العربية في كل عصور الشعرية العربية المعروفة أي وجود أو حضور أنثوي؛ بحيث لا وجود لشاعرة عربية يمكن أن تعبّر عن طبيعتها الأنثوية وهواجسها الأنثوية وشواغلها الأنثوية برحابة وحرية، تمكّنها من الإعلان عن هويتها الأنثوية بوصفها امرأة لها خصوصية في كونها شاعرة، لا تنتمي إلى المجتمع الذكوري وليست ملزمة بفروض الذكورية الشعرية العربية المتعارف عليها، وظلت الشعرية العربية القديمة خالية تقريبا من هذا الصوت الأنثوي الممنوع من الظهور في أي محفل شعري.

في كل قصائد جمانة الطراونة تقريبا لا بد أن نعثر على لمسة أو حركة أنثوية أيا كان موضوع القصيدة

وأضافت أن المرأة الشاعرة العربية صارت لها هوية ابتداء من دخول الشاعرة الرائدة نازك الملائكة فضاء الشعرية العربية الحديثة.

واعتبرت أنه ربما يكون أفضل ما فعلته الشاعرة الملائكة في هذا المضمار تكريس الصوت الأنثوي الذي كان غائبا تماما كل تلك القرون، وانفتح المجال واسعا أمام عدد كبير من الشواعر اللواتي حاولن تكريس هذه الرؤية في الشعرية العربية الحديثة، ونجح الكثير منهن في بناء هوية جديدة للخطاب الشعري الأنثوي على أنحاء مختلفة، وتحفل الساحة الشعرية العربية الآن بأسماء شواعر لهن أهمية كبيرة على هذا الصعيد على اختلاف مستوياتهن الفنية والجمالية.

وقد اختارت الدكتورة رائدة العامري الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة لتكون أشعارها محور دراسات وفصول كتابها “الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية”.

وقالت في أسباب اختيارها هذا، إن الشاعرة جمانة الطراونة بوصفها شاعرة تنتصر للنوع النسوي وتهتم به، تمتلك قدرة شعرية جيدة على الدخول في جوهر هذا الفضاء الأنثوي، والتعبير بحرية واضحة عن فضاء أنثوي رحب لا يدين بالولاء إلا إلى ذاتها الشعرية الخاصة، وعلى الرغم من قلة إنتاجها الشعري استطاعت أن تفرض نموذجها الأنثوي داخل هذا الفضاء من خلال ما حفلت به قصائدها من روح أنثوية أصيلة وفاعلة.

ونوّهت إلى أن الشاعرة جمانة الطراونة تتميز بالانفتاح على عاطفتها الأنثوية الحرة وتمثيلها شعريا بلا أية عقبات أو إكراهات أو ضغوط تراثية أو تاريخية، فهي ابنة هذا العصر من حيث استثمار طاقة اللغة الشعرية وبناء صورها الشعرية المناسبة للعصر.

الشاعرة العربية لم يكن لها في عصور الشعرية العربية المعروفة وجود أو حضور أنثوي وهذا تغير جذريا

وبحسب دراسات وفصول الكتاب اجتهدت مؤلفته الدكتورة رائدة العامري في مقاربة هذا الخطاب الشعري الأنثوي الخاص بالشاعرة من خلال فعالية “سرديةُ العاطفة ومسرحةُ الرؤية”، إذ هي تفيد من طاقات الفنون السردية على مستوى الحكاية والحدث والشخصية والمكان والزمن وغيرها، مثلما تفيد من إمكانات الدراما على مستوى الصراع والحوار الداخلي والخارجي وغيرها من أدوات الدراما المعروفة في هذا الفن.

وقد احتوى كتاب “الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية” بين فصوله وأقسامه على مدخل نظري عنوانه “في فلسفة الخطاب الشعري الأنثوي”، عملت من خلاله العامري على وضع النقاط الأساسية لطبيعة هذا الخطاب ورؤيته ومنهجيته، تمهيدا للدخول في متون نصوص الشاعرة جمانة الطراونة في ديوانين شعريين لها هما “قبضة من أثر المجاز” الصادر عام 2021 و”قصائد مشاغبة” الصادر عام 2022، وهي متون تنتمي -بحسب نصوص الكتاب- إلى فضاء الأنوثة أكثر من أي فضاء آخر حتى في تلك القصائد التي تكتب فيها الشاعرة عن موضوعات خارج ذاتها الأنثوية.

ونجد أن الطابع الأنثوي يطغى في حساسياتها اللغوية الشعرية على أي معطى شعري آخر، وتظهر الأنثوية بارزة في روحها الشعرية ومفرداتها وتشكيلاتها المختلفة والمتنوعة على حد السواء، بما يكشف عن روحها الأنثوية الواعية والطبيعية في آن معاً، وهي نموذج من نماذج أنثوية كثيرة هي بحاجة إلى مقاربتها والتنويه بمنجزها الأنثوي في هذا السبيل.

تجربة الطراونة

من المحاور التي تضمنها الكتاب: محور “حساسيّة اللغة الأنثويّة: الدلالة والنص” بوصفه المحور الأبرز في هذا الميدان، إذ إن اللغة في تشكيل الخطاب الأنثوي للشاعرة جمانة الطراونة -كما تقول العامري- هي الأداة الأكثر استثمارا وحضورا ووضوحا، وانتخبنا النموذج الشعري المناسب من بين عشرات النماذج التي تصلح لهذا المحور، وسعينا إلى تحليله على وفق رؤية شعرية أولا، وأنثوية ثانيا، بين حركة الدلالة داخل النص وقدرتها على تمثيل الرؤية والإجابة عن أسئلة الشعرية الأنثوية بطريقة أو بأخرى.

وفي المحور الثاني الذي جاء بعنوان “الرؤية الأنثويّة: المحطّات والشواغل” حاولت المؤلفة انتخاب قصيدة ذات خصوصية تعبيرية وتشكيلية شديدة الأهمية، تتعلق بالخصوصية الأنثوية الصوفية التي تكشفت فيها الشاعرة عن روح أنثوية تقارب تجربة الشاعرة “رابعة العدوية” شعرياً، لكنها ابنة هذا العصر وخارج فضاء رابعة التي كانت في داخل تجربة التصوف في سلوكها الحياتي ونموذجها الشعري.

g

أما المحور الثالث فقد حمل عنوان “سردنة الأنوثة الشعرية”، وكشفت فيه المؤلفة عن إفادة الشاعرة من فنون السرد لتطوير أدواتها في التعبير والتشكيل، وبكل ما تنطوي عليه هذه الرؤية من طاقة أنثوية ظلّت حاضرة على مستوى اللغة والدلالة والصورة والمضمون، وأظهرت الشاعرة قدرة استثنائية في هذا المضمار بوعي بارز حافظت على شعرية نصها مع قوة حضور السرد فيه، وهنا تكمن قدرة الشاعرة في طريقة توظيف أدوات مستعارة ومأخوذة من الفنون الأخرى، من دون أن تؤثر على النموذج الخاص بالفن الشعري.

ولفتت مؤلفة الكتاب إلى أن الشخصية الشعرية الأنثوية لا تظهر هويتها على النحو المطلوب من دون حضور شخصية الآخر بأشكاله المختلفة، وأنه كان لا بد على هذا النحو من مقاربة هذا الموضوع في شعر الشاعرة جمانة الطراونة، ومن هنا كان المحور الرابع من محاور الكتاب تحت عنوان “التناغم الأنثوي مع الآخر” للكشف عن طبيعة تعامل الذات الشاعرة مع الآخر في هذا المجال.

واختارت الدكتورة رائدة العامري أن تقدم في المحور الخامس من كتابها قراءة نقدية للطبيعة الأنثوية الخاصة بالشاعرة جمانة الطراونة، ومن ثم جاء هذا المحور تحت عنوان “أنثويّة الذات الشاعرة”، وهي القضية الأهم التي يمكن أن تشير أو تبرهن على أن الحس الأنثوي هو الحس الطاغي والأكثر حضورا في لغة الشاعرة، وفي صورها الشعرية وإيقاعاتها التي تنتمي إلى عالم الأنوثة أكثر من أي عالم آخر، وذلك بحسب نصوص الكتاب.

وقالت الدكتورة رائدة العامري في هذا الخصوص إنه يمكن القول إن الشاعرة جمانة الطراونة في كل قصائدها تقريبا لا بد أن يعثر القارئ على لمسة أنثوية أو حركة أنثوية، مهما كان موضوع القصيدة، وإن هذا التأثير يكشف عن مدى انتماء الشاعرة إلى جوهرها الأنثوي في صياغة تجاربها الشعرية المختلفة، وفي التعبير عن هويتها الخاصة التي تحرص على حضورها في مجمل قصائدها بعلامات واضحة وأكيدة.

وأكدت على أن الشاعرة ظلّت أمينة على طابعها الأنثوي في أشعارها كلها بلا تفريط في حرارة هذه الأنثوية وغزارتها، وبلا مبالغة في توكيد النزعة الأنثوية وفرضها على المجال الشعري.

أما المحور السادس والأخير من محاور الكتاب، فقد كان بعنوان “زخم الطاقة الأنثوية الدرامية”، وعملت فيه المؤلفة على البحث في علاقة شعر الشاعرة الأنثوي بالدراما؛ باعتبار أن حقل الدراما ينطوي على طاقات هائلة يمكن للشاعر الذكي الإفادة منها وتطوير نصه الشعري من خلالها، فمسرحة القصيدة صارت من ضمن أحدث الإجراءات التي يقوم بها الشاعر العربي الحديث بشكل عام، وحين تتحرك أنثوية الشاعرة باتجاه معطيات الدراما فهي ربما الأقرب من حيث الحساسية والفضاء من الشاعر الذكوري بشكل أو بآخر، لأن الحساسية الدرامية فيها الكثير من الحس الأنثوي والتجليات الأنثوية.

وفي الختام فإنه يمكن القول إن كتاب “الخطاب الشعري الأنثوي.. سردية العاطفة ومسرحة الرؤية” ربما يكون فاتحة لدراسات أخرى في هذا السياق؛ تتناول الفضاء الأنثوي الحديث في الشعر، وفي الفنون الأدبية الأخرى التي شهدت حضورا أنثويا لافتا كالرواية على سبيل المثال، وكذلك القصة القصيرة وكل أنواع السرد الأخرى، فضلا عن المسرح والدراما والفنون التشكيلية وغيرها، حيث أثبتت المرأة المبدعة أنها قادرة على تقديم نماذج حية في المجالات كلها، وتظل بحاجة إلى التفات نقدي كثيف يكشف عن هذه القدرات المهمة.

يُذكر أن مؤلفة الكتاب، الدكتورة رائدة العامري، هي ناقدة وأكاديمية عراقية، تعمل أستاذة بجامعة بابل، وقد صدرت لها مؤلفات عدة منها: خطاب المرأة في شعر الجواهري، والرافدان في الشعر العراقي الحديث 1900 – 1950، وتجليات النصوص في التحليل النقدي.. قراءة في السرد والشعر، وعبدالله الغذامي الناقد المختلف.. قراءات في نقد النقد، والفضاء النصي.. قراءة تأويلية في شعر حاتم الصكر، وغير ذلك من المؤلفات النقدية.

12