"من قاسيون أطل يا وطني"

هناك نسخ متعددة من أغنية “من قاسيون أطل يا وطني” للمطربة السورية دلال شمالي. أذكر نسخة كانت تبث في التلفزيون العراقي في أوقات ربيع العلاقات بين العراق وسوريا تقول “من قاسيون أطل يا وطني/فأرى بغداد تعانق السُحبَ”. الربيع لم يكن ليدوم طويلا بين بغداد ودمشق (ولم يدم طويلا أبدا إلا حين انهار أول حكم لنسختي البعث في البلدين، أي يوم سقوط بغداد بيد الاحتلال الأميركي عام 2003). واحدة من النسخ تستكمل وتقول “فأرى دمشق تعانق السُحبَ”. من المبكر إن كنا سنختار دمشق بدلا من بغداد. بغداد الرسمية تبدو حريصة، بسرعة كبيرة أعقبت انهيار نظام بشار الأسد، على النأي بنفسها عن نظام الأسد الابن، بعد أن اتخذت طهران قرارا، لعله سيكون واحدا من أهم القرارات الإستراتيجية في تاريخ الدولة الإيرانية المعاصرة – أي ما بعد الثورة الخمينية.
توقفت دلال شمالي عن الغناء منذ وقت طويل وإلا لكانت هناك نسخة بين عامي 1980 و2024 تقول “فأرى طهران تعانق السُحبَ”. التقارب الإستراتيجي السوري – الإيراني ليس سرا، بل لعله واحد من أكثر الأسرار الإقليمية انفضاحا على كل المستويات. سوريا حاربت العراق إلى صف إيران، ولعل أول رشقة من رشقات صواريخ سكود التي نزلت على بغداد خلال الحرب العراقية – الإيرانية في طور ما يسمى بـ”حرب المدن” في ثمانينات القرن الماضي كانت من صواريخ اشترتها دمشق من السوفييت وأعادت إرسالها -هي وليبيا القذافي- إلى إيران. كان العراق بدوره قد حور نفس الصواريخ بتقليل حشواتها المتفجرة وتعويض فارق الوزن بوقود لتصل الصواريخ إلى مديات أبعد لتطال المدن الإيرانية في العمق، وخصوصا العاصمة طهران. حملت الصواريخ أسماء ذات مفارقات ودلالات دينية مؤلمة لطهران. كان البيان الرسمي العراقي يقول “قامت وحدات صواريخ أرض – أرض العراقية من طراز الحسين والعباس بضرب الأهداف الإيرانية في العاصمة طهران.” نفس طرازات هذه الصواريخ سقطت على تل أبيب بعد ذلك بسنوات قليلة أثناء حرب تحرير الكويت. ليس لدي قائمة بمسميات الصواريخ الإيرانية، لكن بالتأكيد أن العراق سبق إيران إلى مسميات “الحسين” و”العباس”.
◄ الأتراك انتصروا وعرف الإيرانيون أن أية محاولة لدعم الأسد ستكون عبثية ومجرد إرسال مقاتلين من ميليشياتهم المحلية أو الحشد العراقي إلى ساحة المعركة قد يطيل الحرب
يجلس وزراء خارجية غربيون ودبلوماسيون رفيعون اليوم في الرياض لبحث الشأن السوري والخروج بصورة توفيقية. تريد السعودية أن تلملم الشأن السوري وأن تكون الرائدة في ترك بصمتها على التطورات الإقليمية لعلها تسبق الأتراك والقطريين. للسعودية مكانة إقليمية كبيرة والكثير من المال والنفوذ لكي يستمع لها الغرب والعرب. لكن من المؤكد أن القطار السوري قد تحرك منذ فترة وصار تجميع الدبلوماسيين العرب والغربيين مجرد إجراء شكلي. في قيادة القطار السوري ثمة سائقان هما تركيا وقطر. هذا ما تدركه السعودية جيدا. وسواء أكانت قد التزمت المقاطعة لنظام بشار الأسد أو واكبت النصيحة الإماراتية بأن لا جدوى من ترك الشأن السوري حكرا بيد المبادرة التركية والمال والنفوذ القطريين، عندما فتحت الباب قبل عام من سقوط نظام الأسد الابن لعودة بشار ونظامه، فإن ما حدث أكبر من قدرتها على تغيير المسار. كانت السلبية السعودية قد بلغت مديات استثنائية من الانسحاب من الشأن العربي في تلك الفترة إلى درجة أنه يصعب القول إن هناك خيارا سعوديا لتفعيل الحضور والتأثير في الملف السوري. وللإنصاف بالنسبة إلى السعوديين وغيرهم على حد السواء، ما كان الخيال العربي ليصل إلى أي مدى في رسم سيناريو حرب تطلقها مغامرة “طوفان الأقصى” ويمكن أن تقود إلى تدمير نظام الأسد كنتيجة عرضية.
الحشد الدبلوماسي الغربي والعربي القائم اليوم في الرياض غير مدعو لأي من مهرجانات الغناء التي تحتشد بها العاصمة السعودية هذه الأيام. ولهذا من غير الوارد أن نسمع أغنية تقدم نسخة مختلفة من أغنية دلال شمالي لتقول “فأرى الرياض تعانق السُحبَ”.
إذًا فلنواكب أولى التنويعتين: “فأرى إسطنبول تعانق السُحبَ”. تمكن الأتراك من الإعداد جيدا لحركة مناورة واسعة على الأرض تفقد النظام السوري توازنه، ثم تضربه ضربة قاضية من دون الحاجة أصلا لضربه عسكريا. كان جزءا من الجغرافيا لصالح الأتراك، حيث تحاصر حلب في ركن واللاذقية في ركن آخر بينما تجلس إدلب بينهما -حلب للمفارقة تطل في الأغنية بمقطع “وهران تلثم في العلا حلبا”. لم يتمكن الروس من فرض واقع مختلف بعد التوصل إلى وقف لإطلاق النار يقتضي السيطرة على إدلب، وبقيت إدلب جيبا نازفا للقوات السورية. تحول الجيب إلى سلطة داخل السلطة وأصبح عقدة عمليات تجمع حربية انطلقت منها في اللحظة المناسبة العملية الكبرى نحو حلب ثم رجوعا إلى طريق السقوط النهائي للنظام، مرورا بحماة وحمص ووصولا إلى دمشق. كان حزب الله قد استُهلك تماما في حربه مع إسرائيل وسحب أفضل قواته من وادي خالد والقُصير، أي العقدة الإستراتيجية التي تصل دمشق بالساحل، حيث التركيز العرقي/الطائفي العلوي. انتهى النظام السوري وانتهى النفوذ الإيراني معه بسقوط أدلائه ومقاتليه من أهل المنطقة. الأتراك وفروا كل الدعم اللوجستي ومن قبله التدريب لقوات تعلمت على حرب العصابات في سوريا وغير سوريا. كان الأتراك يدركون كل نقاط الضعف عند الجيش السوري المهلهل الذي يتحرك بدبابات متآكلة لا فرصة لها أمام تقنيات تركية متقدمة أتقنت اللعبة القتالية الشبيهة عندما تمكنت المسيرات التركية من توجيه ضربات لا تنتهي وعلى مدار 24 ساعة، لقوات حفتر في ليبيا التي هزمت شر هزيمة أمام تقنيات تركية تحاكي أفضل ما لدى قوات الناتو، وصواريخ وقنابل تضرب “خردة” دروع سورية بلا فرصة للنجاة أصلا. كان جنود الأسد قد اكتسبوا خبرة من نوع آخر في سنوات الحرب الصعبة: من الصعب النجاة من أسلحة فتاكة من هذا النوع، أعيد اختبارها ثانية في المواجهة الغربية – الروسية خلال الحرب الروسية – الأوكرانية. لملم الجنود السوريون ملابسهم وسياراتهم الخفيفة وتركوا كل شيء ثقيل خلفهم وغادروا. انتصر الأتراك وعرف الإيرانيون أن أية محاولة لدعم الأسد ستكون عبثية ومجرد إرسال مقاتلين من ميليشياتهم المحلية أو الحشد العراقي إلى ساحة المعركة قد يطيل الحرب ويطلق حماما من الدماء لا طاقة لهم به.
◄ الحشد الدبلوماسي في الرياض غير مدعو لأي من مهرجانات الغناء التي تحتشد بها العاصمة السعودية هذه الأيام، ولهذا من غير الوارد أن نسمع أغنية تقدم نسخة مختلفة من أغنية دلال شمالي
التنويعة الثانية كانت قطرية: “فأرى الدوحة تعانق السُحبَ”. انتصر القطريون على الزخم السعودي الذي بدأ أولا بالمراهنة على دعم فصائل انتقاها من الثوار. بعد فترة قصيرة مل السعوديون من الدعم، بينما استمر القطريون في ضخ الأموال وتوفير الدعاية لقوات موالية لهم. ورغم الانتكاسات الكثيرة والكبيرة التي تعرضت لها الفصائل الإخوانية الموالية لهم، إلا أنهم لم يتوقفوا ولم ينسحبوا من المعركة. ربما تغيرت الصيغة وتغير الخطاب الإعلامي، لكن بقيت الأمور على ما كانت عليه. راهن القطريون أيضا على حساسية أزمة جمال خاشقجي بالنسبة إلى السعوديين وكيف تم توظيفها تركيًّا. وحين تصالح السعوديون مع الأتراك، ثم تصالحوا مع القطريين، تُرك الملف السوري كما هو. لفترة، تفاجأ كثيرون من العناد القطري في عدم التجاوب مع الانقلاب العربي (وخصوصا الخليجي) لصالح الأسد. لكن كانت لدى القطريين ورقة أخرى للعب بها، ولعبوها بحنكة. من الصعب القول إنهم نسقوا مع الإسرائيليين وتركوهم يضربون حزب الله وحماس، لكن بالتأكيد لم يتحرك القطريون حين بدا واضحا أن الأسد سيخسر الكثير معنويا حين ترك حماس تحت أنقاض القصف الإسرائيلي، ثم بدا أكثر وضوحا أن حزب الله لن يخرج سالما من الحرب الدائرة. سواء أكان الأسد، بأسرته وجيشه ودولته وطائفته وشعبه، قد أنهك وتركها لمقولة الإمام مالك “دعها حتى تقع” أم تركها القطريون تقع، فذاك ما سيبت فيه التاريخ.
وقف أحمد الشرع (ربما في آخر أيام كنيته كمقاتل في هيئة تحرير الشام بمسمى أبومحمد الجولاني) مع وزير الخارجية التركي ورئيس المخابرات السابق هاكان فيدان صانع هيئة تحرير الشام وشخصية الجولاني على منطقة سبق وأن زرتها ولعلها من أجمل ما تُمكن رؤيته من جبل قاسيون بإطلالته على دمشق. أعتقد أنهما وقفا في إطلالة “أحلى طلة” الشهيرة واحتسيا الشاي أو القهوة. لعلهما كانا يستمعان إلى أغنية “من قاسيون أطل يا وطني”. ببال الشرع تتمة “فأرى دمشق تعانق السُحبَ” وفيدان “فأرى إسطنبول تعانق السُحبَ”. المذيع القطري للجزيرة ربما كان يدندن “فأرى الدوحة تعانق السُحبَ”.