غفور حسين يعلن عن مملكة الرماد بصياغات رمزية عن قضايا شائكة

يطغى الرمادي على أعمال الفنان الكردي غفور حسين المتمسك بالسيريالية منهجا تعبيريا خاصا، محاولا خلق مملكة من الرماد ينشرها على أسطح لوحاته محررا نصه البصري ليعبر عن قضايا مهمة ولعل أهمها غربته التي لم تنته واغترابه القسري عن مسقط رأسه ومدى قدرته على التأقلم مع صخب الذاكرة وهواجس الواقع.
إن الفنان الغارق في الصخب أبعد ما يكون عن إيجاد أوتار يحتاجها لعزف فجائعه الذاتية عليها، يستعين باستعادة الغائب من شخصيته واستحضار القوة التعبيرية الطاردة لذلك الصخب التي لها ذات الأهمية في منحه قوة معنوية بها يعزف معزوفته المتأنية على أوتار تلامس الأوجاع والآلام وترفض الواقع المرعب بدءا من لحظات حبه الغارقة في الغياب وصولا إلى التوحش الكبير للواقع وعلى نحو أخص الواقع الذي تصنعه الحرب بوصفها أحداثا مفجعة تسلب المكان وزمنه وتسلب الإنسان ووجوده الذي كان مسكونا بالوجد والحب والحضور الجميل.
وما حدث في الواقع يصعب استعادة مشاهده، وما فعلته الحرب وما أخذته وما أعطته يعمق لنا وللفنان ذلك المونولوج الداخلي الذي بات كنوع من اللاواقعية النفسية التي تنمو كاعترافات تتحول إلى أبنية داخلية ترسم لنا صورا متعددة تشبه كل منها الواقع الضد بمستوياته البنائية التي ستبدو وكأنها تسرق كائناتها باتجاه ما تحمله من ندوب عميقة في الروح وفي الرؤية أيضا.
أسوق هذا الكلام بسواده وشحوبه وأنا أمضي إلى عوالم غفور حسين، عوالمه الأخيرة حين وجد الرماد وسحبه باتت تلبد سمواته بل وتهطل عليها بغزارة حتى كادت تلجم ألوانه التي أنجبته كطفل يأبى الفطام. أمضي إلى عوالمه المتشحة بالرماد وما تخبئه من خيبات عاشها قلبه الكسير، تلك العوالم التي باتت ملاذه الآمن، إليها تجره خطواته في مكائد تدمي جراحه وجراح الأهل والأحبة، وتؤرق الروح وهي تغدو صدى للخاطر المكسور، أمضي إليها حاملا أسئلتي التي تطرق رأسي وتلح عليّ بإيجاد أجوبتها مهما اعترانا الحزن الكبير.
سيريالية غير معتادة
الرماد الذي يزحف بصمت غير محايد نحو عوالم الفنان يفرض ذاته بنوع من الغموض الذي سنحاول أن نفك بعض طلاسمه، لا كما يفعلها المنجمون بل كما يفعل الأب مزهوا وهو يراقب أفراد عائلته حرصا عليهم وعلى ذاته أيضا حتى يكبر الحلم وينبلج تماما دون أن يفقد سحره في حضرة الجسد العليل. وحكاية الرماد وهي تسرد فصول ذاتها ستفصح لنا عن مكنونات قلبها الموجوع والمفجوع، فحين يفترش الظلام كسجادة للحياة التي تسمح باغتيال الجمال برصاصات جامحة للحصول على تيه من الأحلام لا بد أن يحوّل الروح إلى واحة من الكينونة المختلطة فيها يتراقص الثعابين والحشائش الميتة.
ترى من أين جاء غفور حسين بكل هذا الرماد؟ بل من أين جاءه هذا الرماد الذي بات يلاحقه حتى من محاريبه التي كانت مدرعة بالنبض المقدس ويبعد عنه حدائق ألوانه، ويصيبه بكل هذا النزف فيوقظ الوجع من جراحه؟ نعم هي لحظات حياتية زمنية يقتنصها غفور من المعيش. نعم يطلق الرماد عنان ساقيه المرتجفتين وهو يدنو من الفنان وكأن صوته يردد مع الريح: أيها اللون الماجن سألعن الساعة التي ولدتك فيها أمك. فيحاول الهرب من الرماد الذي بات أشبه بمملكة مجوفة ومغلفة ومغطاة بالقش وأوراق الشجر، ولها طقوسها الخاصة.
كل منهما يسكن الآخر، فينهض ويقترب من فتحة المكان ليلفح وجهه بحركات غير اعتيادية ويوقظ النائم فيه، فيرسم ابتسامة عوجاء وكأنها خرجت توا من معاطف الصمت ومن صيحة الاحتجاجات الكثيرة غير القادرة على أن توقظ الغافين على كراسيهم من قيلولة مباغتة.
من دم أسود يندلق على الرصيف الخالي من الأصوات والحركات، يندلق مع قصة حسين بكل ملامحها وكأنه يصر على أن يقول لنا: هذا الوجه لي، برماده، بسواده، بأنفاسه المتسارعة، ببقايا جسده الواهن والحامل لكل هذه السنين المعتوهة.
ويعتبر الفنان غفور حسين إلى جانب زورو متيني أهم فنانين تشكيليين كرديين يشتغلان بسيريالية غير معتادة وإن كان لكل منهما خلطته السحرية الخاصة، فاللجوء إلى اللاوعي والاهتمام به ليس تعثرا بسلالم الوهم ولا حفرا في خرائط الروح ولا احتضانا لمخالب لبؤة وهي تقضم بفرح جائع وتستعد لغرس أنيابها في مسارات الوجه وخطوطه، بل هو حزم أصوات متقاطعة وغير متجانسة من صرير القضبان أو من حفيف شجيرات هدها الزمن، أو من صهيل الشمال بحرقة وعناد وهو يرفس طواحين الهواء.
وبشطحات خيالية جنونية يرتقي بنا غفور وهو معنا عبر نغمات موسيقية خافتة تنبعث من تلك الشطحات الخيالية، من تلك اللحظات السيريالية التي اقتنصها بذهول من حكاية تروى عن معتوه أو عن واقع ملتح بالسواد حتى بات كوخم على الحائط خلفها ثمة لوحات خجولة لا تستطيع أن تكاشف بعواطفها همسا. يرتقي بنا وهو معنا لنصافح السموات معا ونعبر من بواباتها، فما تنثره الريح هناك صالحة بحكم عملها أن تحيط بقهقهة الآلهة وضحكاتها حين تسرق أنياب المنحوتة من العاج، فما يدور هناك لا يمكن أن يبقى عالقا دون قطف بل قد نحتاج إلى القليل من هذه
اللحظات ونحن مخطوفون من الواقع حتى نعتقد بأن هناك ثمة أوقاتا وثمة أشياء تستحق منا الاهتمام أكثر، فالواقع يكرر حكاياته إلى حد الموت الرجيم والعصاة يشيعون رائحة الواقعة و”ما أدراك ما الواقعة”.
لا خيار هنا، لم يترك شيء على حاله كما يقال، فكيف لا يولد الرماد وسط هذا الخراب؟ وكيف لا يغزو ريشة وألوان فنان مازال يبحث عن هويته؟ لا أقصد هنا هويته الفنية فهو قد وجدها منذ زمن وله مساحاته في ذلك وإنما أقصد هويته الشخصية، فقد كان محروما منها في بلده سوريا وما يزال، إذ كان من الكرد المعروفين بـ”مكتومي القيد”، وشبح الحرمان يلاحقه في بلد الاغتراب بعد إقامة اقتربت من عشر سنوات.
كيف لغفور حسين الفنان والإنسان أن يجعل نفسه مستعدا لقبول كل هذا الرماد؟ الملاحظ أن هناك صفات يجب أن تكون موجودة فيه حتى يستطيع أن يطويها كإحياء الفطرة وهذا لا يكون إلا باستكمال ذاته وذلك عبر الاستعداد للميل الباطن الذي سيطرحه عن طريق المحبة والاندفاع الداخلي لها، فتتوطد علاقاته الوجودية مع الآخرين ومع نفسه حتى تبدأ كنوزه المخفية بالظهور، وسيكون ظهور الذات للذات مدهشا.
إنه فنان لا يحتاج إلى من يتحدث عنه فأعماله وبأسلوبه المتميز تتحدث عنه الكثير، وما يدور بينه وبينها هي ترددات لسجالات صامتة تأخذ منه صوته الهادئ غير الحيادي بانفعالات تحكي جروحها، فهو ذاهب إلى ما يحقق ذاته لا في بعد عينيّ حسيّ فحسب بل في بعد يجيب على سؤاله الأوّلي الذي اتخذه كنقطة انطلاق في ما يتعلق بالحقيقة أو اللاحقيقة الأنطولوجية للوجود وماهيته بوصفها شيئا اعتباريا له حقيقة في اللاوعي.
هو المدافع المتحمس عن البصيرة ونورها، عن سياقها الخاص الذي يجرد تفاصيلها الدقيقة كجواهر لأشياء متغيرة في حالة من التأمل الحامل لإدراكه المعرفي بهدوء وسكون مطلقين، فالخبرة أو التجربة المعرفية التي ينطلق منها وبها في أطروحاته السيريالية هي حدس حركي ديناميكي لحقيقة حركية وديناميكية. هو يستمر في إنتاج العالم لحظة بلحظة بفاعلية ودقة لامتناهيتين تحت شروط عادية تكاد تلخص مجمل تأملاته العميقة التي لها امتدادات زمنية تجيب على التساؤل القائم على امتداد الزمن والذي يتلخص بهذا الطرح والإجابة عليه أيضا. هل من المستحيل لوعينا إدراك اللاوجود، هذا هو البعد الذي يشتغل عليه غفور بفاعلية وبإمكان ذاتي متميز يكاد يكون الرد الدقيق والجوهري عليه.
طاقة سردية عالية
مجموعة الرماد الأخيرة لغفور حسين التي اشتغل عليها وما يزال، حيث يقوم بالتحضيرات الأولية لتقديمها في معرض فردي مستقل، جعلتنا نلتفت إليها بقوة نتيجة لما تحمله من أثر بصري جديد، وبما قدم من/بأدوات وأساليب فنية ذات قوة تأثير خاصة تستثير الإعجاب والتأمل على نحو كبير، وتخبرنا بتلك الطاقة السردية العالية التي يمتلكها الفنان الكردي والقادرة على أن توصله إلى أفق جديد يبحث
عنه منذ زمن بعيد، فمقدرته الخاصة في تملّك أدواته تجعله يمضي بتحد نحو ذلك الأفق رافضا أن يدير له ظهره، ومهما تباينت وجوه الرؤية إليها يبقى الرهان عليها مثمرا، وتبقي لحقول اشتغاله ما يميزها إن كانت في المسارات التي تمضي فيها أو في بعض الملامح التي يمكن رصدها بدءا من احتلالها للطريق واستلهامه وصولا إلى ملامسة التجليات بوضوح لتحقيق تحولات تحمل كل تأثيرات أسلوبه وتقنياته.
هذه مرحلة نهوض لغفور ولبروز أهمية نتاجه على نحو عام، ولهذه المجموعة الرمادية على نحو خاص. وفي الوقت الذي يقوم فيه الفنان بإبراز نقاط الاختلاف أو الائتلاف لجملة إحداثيات الحضور وفاعليته في بحثه الجمالي، فهو ينزاح بخيال لا ينضب نحو تشكيل الواقع وسطوحه بالجهد الإبداعي الذي يمتلكه وبغرف المقولات التي تأخذ في الاعتبار التحولات العميقة التي باتت تخترق أسلوبه المؤثر ليرتقي به محرزا هويته وقيمه الفنية.
الفنان غفور حسين يعتبر إلى جانب زورو متيني أهم فنانين تشكيليين كرديين يشتغلان بسيريالية غير معتادة
وبالعودة إلى رمادياته فنراها صياغات رمزية عن قضايا شائكة تبطّن المعنى وتبدع الحدث، وهذا ما يمنحها ميزات أسلوبية خاصة توفر له خطابا خاصا، ولو أخذنا كل هذا بعين الاعتبار لبرز السؤال الإشكالي التالي: ما الذي تحمله من مكونات فاعلة حتى تخولنا أن نعتبر الصوت الواحد فيها ذريعة يعتليها قالب واحد؟
يتبادر إلى أذهاننا ونحن نقوم بقراءتنا هذه بأن ما يركز عليه غفور حسين هو الحركة الدافعة لمفاهيم الاتساق والتماسك من منطق السعي وراء كيفية بناء عالم متخيل يروي حكايته بمتنها الموضوعي وبمكوناتها المختلفة ومنها الوقائع، الأفعال، الشخصيات، الفضاء المكاني/الزماني.
وينبغي التوكيد هنا على عدم النظر إلى حكاية الفنان تلك باعتبارها عنصرا متحققا في الواقع الفعلي خارج نصه التشكيلي، وإنما بوصفها شكلا من أشكال التداخل والتكامل في ترتيبها وفي شخصياتها وفي عالمها الافتراضي كما
يظهر لنا كقراء ومتلقين. وإذا صح لنا التحديد السابق فإن مجموعة رمادياته هي نصوص سردية بصرية بامتياز، تحاكي حالات تم العيش فيها حينا وحينا آخر تم استدعاؤها كمشاهد مفتوحة تبحث عن حقيقتها وتستدعي بدورها مشاهد أخرى يعتمدها غفور على نحو كبير، وذاك أسلوب سردي جديد لديه من أساليب السرد الذي يتوخاه الكثير من التشكيليين.
وإذا حاولنا أن نفهم أسلوبه السردي فسنجد أنه يفضي بنصه إلى نص آخر يذكر صاحبه على نحو دائم بأنه يمنح تجربته الفنية ظلالا كثيرة لا تتضاءل أبدا بل تنخرط في مقولاته الفنية التي تتكاثر وتتكثف كخطاب جمالي وميثاق فني، اللعبة فيه هي لعبة خيالية تنجز تلك المقولات على نحو غير مباشر بعلامات تنبهنا بكثافتها وتواترها وهي تقف عند قضاياها الكثيرة والمختلفة.
غفور حسين يتعدى الواقع ويرفض المفهوم المنطقي والعقلاني للأشياء، ويحاول جاهدا التخلص من الرؤية التقليدية، ساعيا إلى خلق وإيجاد إشارات ورموز هي معبرة بحد ذاتها (تفاحة آدم الجوفاء، جسد المرأة الأجوف والمتصدع، الكرة الأرضية، الرحلة إلى الجحيم وسعير ناره، كرسي الاعتراف، الإنسان المسلوب من كل شيء حتى من نفسه، طريق الخلاص، وهن الحياة ولا جدواها)، هي إشارات ورموز تفتح البوابات كلها لمخيلته ومخيلة المتلقي معا، فيحرر فكره بوسائله الخاصة ويعتنقها بموضوعاته الفلسفية، وهنا يحتاج إلى آلية جديدة يمليها عليه لاوعيه عبرها يتجاوز الآلية السابقة ويتفوق عليها، نحو خلق جديد ملائم لإبداعه الخصيب، فما يبدو انغلاقا للغير يكون له انفتاحا على أشكال مختلفة للتعبير الفني، أشكال مبنية على الغرائبية في التخيل تخفف من وطأة الرتابة التي باتت تغزو المشهد التشكيلي البصري على نحو كبير.
إنه فنان يستأثر بصوت ما فوق الواقع الذي يكاد يشكل الخط العريض لهويته الفنية التي كانت قد بدأت بالتشكل حين وصوله إلى ما يسمّى بالوحدة اللونية، وذلك حين أدمج القيم الضوئية للأشياء، وهذا ما جعله يراهن على مفاهيم جديدة ليس آخرها تلك المضامين النفسية الفنية والفلسفية التي تخوله بتقديمها بميزات تتمثل في إلحاحه عليها وتبنيه لأفكار متصارعة ومتناظرة، وبذلك يغدو خطابه خطابا جماليا عاملا وفاعلا في تحولات الدائرة الفنية المرتبطة بتولد المقاييس الداخلية التي يقوم عليها مشهده البصري على نحو عام.
وغفور حسين من مواليد جاغر بازار وهي إحدى القرى التي ترفد عامودا بنبضها، عام 1968. عانى كثيرا من القوانين الجائرة التي كانت تطوّق الأكراد وتخنقهم، كان مكتوم القيد وهذا ما حرمه من كل ضوابط الحياة وهوائها، ولذلك لم يستطع أن يكمل تعليمه، ولا حتى حياته العملية والعائلية، عاش في القامشلي كإنسان طارئ عليها، وقبل الوجع السوري الكبير بسنوات سافر إلى تركيا، ليعيش فيها لسنوات. لم ينعم بالهواء الذي كان يبحث عنه، فكان لا بد من وجهة أخرى فكانت ألمانيا محطته الأخيرة حيث يعيش فيها الآن مع أفراد عائلته المكونة من زوجة وولدين منذ ما يقارب عقدا من الزمن، أسس فيها مرسمه الخاص وغاليري لعرض أعماله، وليكون مركزا لاستقطاب الفنانين التشكيليين والأكراد منهم لعرض أعمالهم.
بدأت علاقته مع الرسم مذ كان في السابعة من عمره، ثم درس الفن دراسة خاصة معتمدا على موهبته وشغفه. قدم الكثير من المعارض الفردية والمشتركة. ومن أكثر مقولاته “لا يوجد فنان عالمي، يوجد بضعة خنازير يتحكمون بالأغبياء.”