مهدي الحسين يعيد تصور الحرائق الذاتية والكردية

فنان لا يهرب من الواقع ولا يتوسل الرموز والألغاز.
الاثنين 2024/12/09
بورتريهات لأشهر مبدعي كردستان العراق

لا يركض الرسام الكردي مهدي الحسين بعيدا عن الواقع المؤلم، بل يجهز لوحاته ليمارس عليها طقوسه في الحرق، فهو يحرق ذكرياته وذاكرته فوق سطح اللوحة، ليرسم أوجها وملامح لشخوص أثرت في السردية الكردية ونقلتها إلى أوساط أخرى.

إذا كان الحرق على الخشب مهارة وإتقان فهو فن أيضا، وهو إحدى تقنيات الرسم الكثيرة، له ما يميزه بجمعه بين الرسم والخط والزخرفة وإن كان يميل بعضهم إلى اعتباره حرفة وهذه التقنية تحتاج إلى الدقة الزائدة، فمن لا يملك هذه الدقة لا يمكن أن يبدع فيه. أي تعثر هنا له حساباته، يرفض الخطأ، فلا تراجع هنا، والحرص على تجنب الخطأ من أولى الأشياء التي يجب أن يتحلى بها كل من يغامر في السير في طريقه.

ولا نبالغ إذا قلنا إن التردد هنا مرفوض وقد يجعلك ترمي إنتاجك بعيدا إذا وقعت فيه، وكذلك تحتاج هذه التقنية إلى صبر أيوب، وإذا لم تتحل بذلك لا يمكن أن تنجح فيها، فالأمر هنا يتطلب بالضرورة وقتا طويلا، فصبرك وشغفك بما تنجزه إلى جانب دقتك العالية حين العمل هي التي ستسهل بولادة مولودك سالما ومعافى. ولهذا قليلون جدا من يخوضون هذا المضمار، مقارنة بالتقنيات الأخرى التي يمضي إليها الفنانون، ومهدي الحسين أو ويندا كما يحب الحسين أن يُعرَّفَ، اسم فني من الأسماء القليلة التي جعلت من هذا الجانب من الرسم مضماره الذي سيخوض فيه حروبه الحياتية والفنية.

تشاء الصدف أن أكون حاضرا في أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق حين قدم الحسين معرضه الخامس فيها تحت عنوان “باقة من النجوم الذهبية”، وذلك على مدار يومين وتحديدا يومي 22 و23 نوفمبر الماضي في قاعة غلغامش بالمركز الاجتماعي بعين كاوا وبحضور جماهيري وإعلامي مميز.

من خلال العنوان سندرك بأن الباقة من النجوم الذهبية التي يقصدها مهدي الحسين هي تلك الأسماء من المبدعين الكرد الذين أثبتوا وجودهم لا في وسطهم الكردي فحسب بل في الأوساط الأخرى فهم سفرائهم في هذه الأرض وفي هذه الحياة، لهم فعلهم المؤثر في شؤون مواطنيهم، ولهم وزنهم عند قومهم، منهم الشعراء والأدباء والفنانين التشكيليين والمغنيين والموسيقيين والسينمائيين، كان لهم حضورهم الكبير في الشارع الكردي، كان لهم أثرهم في رسم خرائط معرفة وثقافة هذا الشارع، فكل منهم بات نجما ذهبيا يزين سماوات البلاد ويضيء لياليها.

◙ الحسين يمارس عملية الحرق بكل وقائعها فهو يتعامل مع الشخصيات المختارة للحرق بنزعة من النرجسية الواضحة
◙ الحسين يمارس عملية الحرق بكل وقائعها فهو يتعامل مع الشخصيات المختارة للحرق بنزعة من النرجسية الواضحة

وإذا عرفنا أن مجمل معرض الحسين كان يضم ستين عملا، كان نصيب المبدعين منها خمسة وأربعين عملا، سيطول بنا البحث إذا دونا أسماءهم جميعا، لكن لا بد أن نذكر أسماء بعضها: محمد شيخو، ورفعت داري، وتحسين طه، وجميل هورو، وآرام ديكران، ومحمود عزيز، وشفان برور، وبافي صلاح، وسعيد كابوري، وسعيد يوسف، وجكرخوين، وتيريز، ويوسف برازي، وملاي جزيري، وأحمد خاني، وصالح حيدو، وشيركو بيكس، وحامد بدرخان، وسليم بركات، وعمر حمدي (مالفا)، ويلماز غوني، وآخرون.

كل اسم من هذه الأسماء هو حكاية طويلة لشعب عانى وما يزال من تيه لا يفهمه إلا من عاشه وذاق منه، هو حكاية تحررت إلى حد بعيد من طلاسمها حتى عانقت آفاقا كثيرة. وكل فصل من تلك الحكاية بتفاصيلها وقيمها من المغري لنا أن نقف عندها بعمق، وبرهانات فنية تؤسس جمالية الإبهار عندهم، فهيمنة مقام كل نجم من نجوم تلك الباقة لها مقوماتها التي لا تخفى علينا، أما الأعمال الخمسة عشر الأخرى فكان منها لقادة سياسيين لهم ظلالهم على التاريخ والواقع، لهم فعلهم الذي يكاد ينطق بصداها في كل الأمكنة في خارطة كردستان.

ومن الأعمال التي لفتت النظر أكثر وكانت تعتبر سيدة المعرض فمنها تلك اللوحة التي كانت تتصدر الصالة والتي تمثل بالأساس عما جرى ويجري في البلاد. وأشارت إلى الموضوع الأهم، موضوع المفقودين لدى الجهات جميعها والتي بلغت مئة وخمسين ألفا لم يعرف مصيرهم إلى الآن، وذلك برسم بورتريه لشخصية معروفة داخل الأصفار الأربعة المرسومة إلى جانب الرقم 15، أخذها كعينة أو أنموذج من كل حالة لدى جهة معينة، وهؤلاء الأربعة هم: حسين عيسو، وباولو دالوليو، ورزان زيتونة، وبهزاد دورسن.

أما اللوحة الثانية فكانت منفذة بتقنية الكولاج لمجموعة مفاتيح تعود وتشير إلى هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم، وبالتحديد من رأس العين المدينة التي ينتمي الحسين إليها، ولم يحملوا معهم غير ذلك المفتاح الذي قد يجدد الآمال لديهم بالعودة إلى ديارهم وبيوتهم وموطن ذاكرتهم وعشقهم، ولا يجب أن ننسى مفتاح الحسين نفسه والذي وضعه داخل شكل أسطواني شفاف، قائلا عنها: هذا ما تبقى لي، ترافقه في مجمل معارضه التي قدمها كرمز إلهامي أولا، وكتلويح بأن “أجراس العودة لا بد أن تقرع” فلا يجب النسيان، رغم يقيني بأن مدينته ووجعها قد تكون زمرته الدموية من كثرة ما يضج كل منهما بالآخر، فهي تضج به وهو يضج بها، تجري في عروقه، فلا تهدأ ولا تستكين.

مهدي الحسين لا يهرب من الواقع ولا يتوسل الرموز والألغاز، وليس شغوفا بالإغراب لغواية متلقيه أو الترويج لرسوماته بقصد البيع أو الإفلات من الرقابة التي تصادف كل من يعمل ويتحرك في هذا المجال. فهو على استعداد لتلقي كل التبعات، يلتقط كل الأخبار والآهات المرسومة على الوجوه بلا غربال، يطوف بين أصقاعها المتباعدة والمتقاربة في آن واحد، يعرف تماما بأن ما يرويه ليس مختلفا، ما هي إلا تراكمات معلقة في رأسه منها ما يعرفه، ومنها ما لا يعرفه، منها ما أخبره به الآخرون، ومنها ما يضج في دواخله، ما هي إلا تراكمات تحمل أسئلة كثيرة لا حدود لطرحها، أسئلة لا سبيل للوصول إلى معرفة أجوبتها إلا حين تعمم الغيوم سماوات البلاد وتبهت شموسها.

حكاية مهدي الحسين ليست حكايته لوحده بل هي حكاية سرب كبير، حكاية تقرأ ذاتها وتفسر نفسها، ولا عجب هنا إن وصلت به الحال إلى هذا الانتقال والتداخل بين وجوه سقت بدمائها قمم الجبال حتى باتت أكثر شموخا وأكثر سطوعا، وبين من هز قلمه أو ريشته أو صوته وآلته الموسيقية أو كاميرته حتى اهتزت الأماكن بكل حساسياتها، فلم تخنه الذاكرة حول ما حدث ولا حول من مر بها وترك أثرا.

◙ "باقة من النجوم الذهبية" هي تلك الأسماء من الكرد الذين أثبتوا وجودهم لا في وسطهم الكردي فحسب بل في الأوساط الأخرى

الواقع بأحداثه الغريبة التي تقارب الخيال، يلتجئ إليه الحسين في سرده عبر عرضه على متلقيه بقراءته لمرويات الوجوه التي اقتنصها من هذا الواقع المر والمرعب، عبر عرضه لتقاسيم تلك الوجوه الشاهدة وهي تدلي بشهادتها لتوثق بشكل من الأشكال أحداث ذلك الواقع وتحدد رؤية السارد لها على نحو خاص، وللعالم على نحو عام، رغم يقيننا بأن الكثير منها تفسر مروياتها من داخل النص ذاته.

والحقيقة أن ما ينتجه الحسين ليس مجرد وجوه لمشاهير كردية لها وزنها فحسب، بل هو اقتراف وانطلاق وتعاقد واعتراف بأنه ناقل أمين وبريء، أمين لأحوال الآخرين وبريء من المبالغة والتحريف والتهويل وانطلاق نحو شخصياته ليقف أمامها مرددا صدى ملامحها، يفسح المجال لها كي تتلفظ صوتها مفردا حينا وجمعا حينا آخر.

وعندما نقرأ وجوه شخصيات الحسين ستحيلنا بنفسها على ذاتها، بما تحمله من نحيب وحزن أو بما تديره من لجام أوصالها، وتعاقد ممكن بينه وبين متلقيه أساسه البساطة والوضوح بعيدا عن كل ما هو مناورة وتربص وخداع. هو يسارع كي يتخذ من الوجوه وحكاياتها مسندا، يلتقيها جميعا ويروي عنها للآخرين، لا لبس لديه ولا التباس، لا صعوبة لديه في تحديد احتمالات القراءة ولكنه يرميها إلى وضع مريح ومطمئن حتى تتحول تلك القراءة إلى ضرب من فك شفرة لا عسر في فكها، دون أن يضع متلقيه في أتون الحيرة والعجز. لا ألغاز هنا ولا رموز، فكل الدروب التي يسلكها تحول أي التباس إلى بداهة قائمة.

ويمكن في هذا السياق أن نقف عند منتجه بأنه نصوص مفتوحة لا مداورة فيها ولا غموض، جميعها قائمة على مخاطبة قارئ ضمني يتحول بدوره إلى سارد يسرد مروياتها، بنهاياتها وإضاءاتها وبكل ما يساعدها على ترتيب كل العلاقات بين وجوه شخصياته، لا ليضع حدا لاسترسالها بل لفتح ينابيعها تتدفق في كل الأحوال والمصائر.

من يحرق من؟ هل الحسين الذي يحرق الخشب؟ هل هو قادر على تسجيل كل شيء؟ هل هو قادر على تفسير كل ما لحق العالم من تخلخل واهتزاز بهذا الحرق أم أن الحقيقة غير ذلك تماما؟ قد تكون الحقيقة معكوسة فكل حواراتنا مع وجوهه المحروقة تشي بذلك، تشي بشظاياه المحروقة، ففيه حيز من الواقع والحقيقة تحترق معه، مهما حاول تحويلها إلى رسومات لوجوه محروقة، فهو يتعامل مع تلك الوجوه لتلك الشخصيات من باب الحوار معها وترجمة التقاطعات بينه وبينها ليتم حرقها، إن كانت على الخشب أم كانت في دواخله، مهما انخرط فيها، فهو لا يجد صعوبة في اكتشاف بعضها على الأقل.

كل هذا يذكرنا بتفاصيل الشخصيات لا بأسمائهم وألقابهم، يذكرنا بهيئاتهم وأفعالهم وبتقاسيمهم بكل مقاطعها، وهذا يجعل الحسين يمارس عملية الحرق بكل وقائعها، فهو يتعامل مع الشخصيات المختارة للحرق بنزعة من النرجسية الواضحة. ثمة هوس كبير للحرق لديه وهو بالعموم شكل من أشكال إخراج حرائقه هو، وهذا يجعله حاضرا في نصه على نحو دائم. ها هو باسترخاء يتآلف مع شخصياته بطريقة غير محايدة، حتى أنه لا يقوض علاقاته التقليدية معها، فلا فرار لديه من قيود واقعية وسط بقعة من الحريق، كما لديه استمتاع كبير بهذا الحرق وكأنه يعالج ثآليلا وبثورا ودمّل قبل أن تتحول إلى أمراض خبيثة، أو كأنه يقف أمام جروح مفتوحة بعد أن تم تنظيفها من كل ما تجمع فيها من قيح ودم فاسد، فيسرع ليذر الرمل الساخن عليها. هنا لا يخرج مهدي الحسين عن المألوف فهو ما زال يتساءل من يحرق من؟ هل هو الذي يحرق على الخشب أم أن الخشب يحرق عليه؟

مبدع البورتريهات

 

14