شمال أفريقيا وأزمات الشرق: النأي بالنفس ضرورة

دول شمال أفريقيا لم تجد في موضوع الحرب بين إسرائيل وحزب الله أي حرج أو ضغوط شعبية تجعلها تتدخل أو تبالغ في تسجيل مواقفها.
الأحد 2024/12/08
المظاهرات الداعمة لغزة توقفت

مع بداية الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة في أكتوبر من العام 2023 خرجت تظاهرات في مدن تونس والجزائر والمغرب وليبيا تضامنا مع الفلسطينيين، ونشطت حركة التبرعات بجمع المساعدات والأدوية، ثم مع الوقت تلاشى الحماس في الشارع، وعاد الناس إلى حياتهم اليومية ليكتفوا بمشاهدة ما يجري على نشرات الأخبار.

يحدث أحيانا أن تتظاهر مجموعة هنا أو هناك أو تصدر بيانات وتصريحات من مسؤولين أو سياسيين معارضين من باب تسجيل موقف أو المزايدة على طرف داخلي، لكن النتيجة أن دول شمال أفريقيا باتت تكتفي بالإبقاء على موقفها التضامني مع الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، من دون الدخول حتى من بعيد في الأزمات التي تعتصر هذه الدول.

واقعيا، لا يقدر سكان شمال أفريقيا سوى على إعلان التضامن. أكثر من هذا لا شيء بسبب البعد الجغرافي. لكن هناك مخاطر أعمق، فهناك دول ترى أنّ فتح الباب أمام المظاهرات والاحتجاجات وحقن الشارع بالشعارات قد ينقلب إلى الضد تماما. فمن ناحية لن يغير في واقع الفلسطينيين شيئا، وإسرائيل لم تعد تقيم وزنا لتحركات الشارع العربي، وهي تعرف أن ما يقوم به حالة تنفيس عن عجز تاريخي، وأن الأنظمة تساير موجة الغضب لوقت لمساعدة الشعب على تفريغ شحنات العداء خاصة في منطقة تغلب عليها الشعارات وتياراتها الأيديولوجية ما تزال ثقافتها عابرة للدول.

لكن لهذا التنفيس حدود وضوابط على رأسها ألا ينقلب إلى فوضى وألا يمس من استقرار الدول أو يستهدف مكونات اجتماعية لاعتبارات دينية ومذهبية كما حصل في ستينات القرن الماضي من تحريض دفع بمكون اجتماعي أصلي في بلدان شمال أفريقيا مثل اليهود إلى المغادرة.

◙ الجزائر حصرت قرار التضامن مع غزة لنفسها ضمن مقاربة تقوم على استثماره في موقف محسوب لا يوتر علاقاتها مع الغرب

ووجدت بعض الدول نفسها مجبرة على كبح تيار المزايدات الداخلي من خلال وضع الدولة لاءات حمراء أمام الخطابات الشعبوية. ففي تونس، ظهرت الدولة لتقول إنه لا داعي لتمرير قانون تجريم التطبيع ليس لأن الدولة تريد عكس ذلك، ولكن لأن قرارا مثل هذا يهدد مصلحة تونس ويربط علاقاتها الخارجية.

ويمكن وصف سعي المجموعات الشعبوية لتمرير قانون تجريم التطبيع بلزوم ما لا يلزم، فلا شيء يستدعيه سياسيا خاصة أن تونس في قطيعة كاملة مع إسرائيل، ولا يمكن أن تكون بأيّ حال أكثر حماسا من دول عربية كثيرة اكتفى بعضها بإصدار بيانات التنديد أو التضامن وجمع التبرعات لفائدة سكان القطاع بالرغم من قربه الجغرافي من غزة.

ومن الواضح أن الرئيس قيس سعيد قد وصل إلى القناعة بأن الحيلة في ترك الحيل، أي ترك هذا القانون، أو على الأقل تأجيله إلى وقت آخر حتى لا يصطدم بالاستنفار الأوروبي - الأميركي الداعم لإسرائيل، حتى وإن كانت قناعاته تميل إلى تمريره والافتخار بأن رئاسته للبلاد قد حققت ما لم يحققه السابقون من وضع بصمة حاسمة لصالح القضية الفلسطينية.

في الجزائر وقفت الدولة ضد فوضى الاحتجاجات، وحصرت قرار التضامن العملي مع غزة لنفسها ضمن مقاربة تقوم على استثماره في موقف محسوب لا يوتر علاقاتها مع الغرب، وفي نفس الوقت يحدد نوعا من الدعاية لإظهار أن الجزائر تتبنى خيار دعم الفلسطينيين، لكن من دون تجاوز السقف المسموح به وتهديد مصالح الجزائر مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة.

في المغرب هناك تساوق بين الموقف الشعبي والرسمي في إسناد الفلسطينيين ودعمهم بالمساعدات، لكن وفق مقاربة رسمية واضحة. أما في ليبيا، فإن الأزمات الداخلية غطت على الاهتمام الرسمي والشعبي بالملف الفلسطيني ليبدو وكأنه حادث عرضي.

وعموما، فإن الدول المغاربية نجحت في تحييد الموضوع الفلسطيني عن خلط الأوراق أو إرباك الدول، التي يعيش بعضها أزمات داخلية سياسية واقتصادية، ولا تتحمل أي توتير أمني أو انخراط في فوضى إقليمية خاصة وهي تشاهد كيف يمكن لدوامة الأحداث أن تجتذب ثم تبتلع دول الإقليم، حتى تلك التي ظلت تحاول النأي بنفسها (نسبيا) عن التدخل المباشر كما حدث مع سوريا.

الالتزام بالقضايا القومية لا يمكن أن يكون نقيضا للمصالح الداخلية، التي لها الأولوية المطلقة. كما أن بعض دول شمال أفريقيا ليست في وضع يسمح لها بأن تملي شروطها، أو أن تختار مع من تتعامل، أو تضع مقاسات لمن يأتيها ومن لا يأتيها.

◙ في المغرب هناك تساوق بين الموقف الشعبي والرسمي في إسناد الفلسطينيين ودعمهم بالمساعدات، لكن وفق مقاربة رسمية واضحة

ومع تحول الحدث الفلسطيني إلى حدث خبري يومي ورويتني تراجع الاهتمام الشعبي، وتخلّت التيارات السياسية والاجتماعية عن المزايدة، وعادت الدولة تتصرف وفق مقاساتها التقليدية، أي إصدار البيانات والتصريحات الداعمة للفلسطينيين، وإظهار الدعم لهم بما لا يمس من مصالح البلد المعني، وحتى حملات جمع التبرعات والمساعدات فقد توقف أغلبها بعد معرفة مآل ما سبق منها في ظل رفض إسرائيل السماح بدخولها إلا في حالات محدودة.

ولم تجد دول شمال أفريقيا في موضوع الحرب بين إسرائيل وحزب الله أيّ حرج أو ضغوط شعبية تجعلها تتدخل أو تبالغ في تسجيل مواقفها. وبدا الموقف في غالبه، شعبيا وحزبيا ورسميا، شبه غائب. وهذا مفهوم، فالحساسية تكمن بالأساس في الملف الفلسطيني وميراثه التاريخي في الشارع ولدى النخب التي يحكم بعضها الآن.

أما في موضوع حزب الله، فالجميع يعرف أنها حرب بين حزب مدعوم من إيران ضد إسرائيل، وليست حرب لبنان ضد إسرائيل ليستدعي الأمر مساندة رسمية لبلد شقيق، أو يسعى إلى موقف عربي جامع ضد الهجوم الإسرائيلي رغم أن الضحايا لبنانيون والدمار يلحق ببلد عربي.

لا تجد أي دولة من دول شمال أفريقيا، بما في ذلك تلك التي لديها علاقات متطورة مع إيران، لأن تعلن وقوفها بقوة وراء حزب الله. التقييم الغربي للموقف من إيران وحزب الله يختلف عن موضوع غزة وحماس، وستعتبر أن هذا الانحياز سيكون له ثمن، وهو ما لا تريد أيّ دولة أن تدفعه لمجرد أن لديها علاقة مع إيران أو أن بعض نخبها تدعم حزب الله وتصفق له لكونه واجهة لـ”محور المقاومة”.

وإلى حد الآن تتعامل دول شمال أفريقيا مع ما يجري في سوريا من تطورات بتروّ إلى حين اتضاح الصورة، حتى وإن كان البعض يتعامل مع الرئيس السوري بشار الأسد على أنه الرئيس الشرعي ويصنف المجاميع المسلحة على أنها مجاميع إرهابية، لكن التروّي يرتبط بمعرفة مآلات الحرب وموقف القوى الغربية، وأساسا الولايات المتحدة، ممّا يجري، وتحديد مصالح دول المنطقة، هل ستكون مع رئيس لا يعرف إن كان سيبقى في السلطة أم مع إيران التي تثير أجنداتها في المنطقة غضبا أميركيا وإسرائيليا.

حسابات الدول غير حسابات الأفراد والأحزاب والمنظمات الاجتماعية، فقد تختار الصمت أفضل من أن تضع نفسها في موقف تكون تكاليفه كبيرة، ولذلك فإن دول شمال أفريقيا تحديدا تحتاج إلى سياسة النأي بالنفس وعدم الانجرار للشعارات وأن تضع نفسها في خدمات أجندات أخرى لا مصلحة لها فيها.

5