الشاعرة عائشة بريكات لـ"العرب": الكاتب يستحضر فكرته الأولية من المجتمع والواقع

كتابة الشعر مختلفة نوعا ما عن غيرها من الكتابات، إذ هي الأكثر التصاقا بالذات الكاتبة ومشاعرها وتجاربها الخاصة، ومن هنا فإن أغلب الشعراء يستلهمون من ذواتهم الكثير في ما يكتبون، بل بعضهم ينجح في تحويل حياته ومشاعره إلى نصوص مميزة. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الشاعرة السورية عائشة بريكات حول تجربتها في الكتابة انطلاقا من ذاتها.
عائشة بريكات شاعرة دمشقية المواليد لم تواتها الظروف لإتمام دراستها الجامعية، لديها شهادة خبرة في التشخيص المبكر لأطفال التأخر العقلي، وقد استفادت في استكشاف عوالم الذوات البشرية من عملها وحياتها الخاصة.
الشاعرة زوجة وأم وجدة، يميزها طفلها الملاك المتوحد الذي صار شابا تحت رعايتها، وهي تجد أن لقب شاعرة فضفاض عليها.
تجربة خاصة
عن البدايات ولماذا اختارت بريكات الشعر تحديدا؟ تقول لـ”العرب”: “كبيرة كلمة البدايات لأنه لم يكن مخططا لها، بصدفة كبيرة تزامنت مع يوم التوحد العالمي وزعت أوراق وأقلام على أمهات أطفال التوحد في مركز للتأهيل وطلب منا كتابة ما نشعر فقلت: عندما علمت بأن طفلي متوحد شعرت بأن شيئا في داخلي قد مات، شيئا لن يعود إلى الحياة أبدا، وصارت حياتي لا تشبه حياة الأمهات الأخريات، وأحلامي لا تشبه أحلام الأمهات الأخريات، ولكني سأظل أحكي عنه وأقول إنه أجمل هدايا القدر، من قال إن الملائكة لا تمرض، بعدها صار الجميع يطالبوني بالمزيد، وكانوا يقصدون الأحاسيس المترجمة ببراعة الكلمات، هذا جل ما حدث وقتها.”
وحول العلاقة السرية بينها وبين الشعر تقول “لماذا لا نعكس هذا السؤال ليصبح الشعر ماذا يريد من عائشة؟ لأنه بمثابة رسالة مقدسة لا تتنزل إلا على من يكون أهلا لحمل عبئها، وتُلمس فيه قوة على حمايتها ونشرها. أما عن الشق الآخر من السؤال فالشرح يطول، العلاقة بين الشعر وكاتبه معقدة جدا، تتغير هيئتها بتواتر غريب.”
وتتابع “مرة يأتي الشعر كآلام المخاض فننتبذ به مكانا قصيا حتى نأتي ببشراه، قصائد أصيلة الأنساب، ومرة يأتي كسيل جارف يقتلع الكثير من المعتقدات البالية، يغير ضفاف الرؤيا، ويصب في بحر عميق من الجمال، مرة يأتي ساطعا كشمس آب، يحيل عنب اللغة إلى سطور حبرية يترنح من خمر نشوتها القارئون. وبعد لا تهتموا للعلاقة بينهما فقط استمتعوا بذاك النتاج المغاير.”
أما عن علاقتها بدمشق فتقول الشاعرة “دمشق سيدة المدن، الفاتنة ببساطتها، العفيفة بطهرها، ذات الرئات السبع، والأبواب السبعة، شام شريف، مدينة الياسمين، باب الكعبة، فردوسنا، فتنة الألق، سرة التراب، قطعة من جنة الرب على الأرض، أنا نتاج محبتنا المتبادلة… دمشق أمي حملتني حبا على حب، وما جف لها نهر، تبسم لها بشموخ قاسيون.”
ونسألها عن عائشة بريكات الإنسانة، من أي معطف شعري خرجت؟ ولمن تقرأ من الشعراء العرب؟ فتجيبنا “جربت جميع صيحات تفصيلات المعاطف التي ذكرت ولم أجد منها ما يناسب الشعر إلا ما كان قماشه من حرير صدق خالص موشى بزركشات مضيئة من المشاعر الراقية، معطف لا مكان له في خزانة التقاليد، بل رداء ستر لغوي لا يشف ولا يرق ولا يتجاوز الحشمة… وللشق الثاني أقول: قرأت ما يكفي للكبار ولن أباهي بذكر أسمائهم لأفتعل لقب التثقيف، لكني وبمتعة عارمة أتابع حروف الأصدقاء في هذا العالم الأزرق وأجد فيها تذاكر سفر تجعل مني رحالة من فكر إلى فكر تحصد به المتع السبع.”
وعن مجموعتها الشعرية “إني آنست حبرا” تحدثت بإيجاز قائلة إنها “قبس من الشعر المشتعل ينير طرقات العلاقات الجدلية بين الرجل والمرأة، تتعسر الرؤى أحيانا فنسلك طرقا فرعية للاختلاف الصحي بينهما ثم نعاود المسالك الإنسانية الصحيحة متجاوزين العثرات الحياتية من حفر ومطبات أملا في الوصول إلى تكامل يليق بخلق أحدهما من ضلع قلب آخر، هو ديوان شعري يعكس عشقي لصفات الرجل في عالم يغص بالذكورة والزيف.”
الكتابة وواقعها
قصائد الشاعرة لا تخلو من الأمومة وأعراضها الجانبية الجميلة والمتعبة معبرة عن كل شعور يتطاول في داخلها
تسأل “العرب” بريكات عن واقع الشعر العربي الحديث كما تراه، فتقول “أعتقد أنه وصل إلى العالمية لكنه كطفل غير شرعي، لن ينال إرثه الذي يستحق من وصية والده الألق حينما لم يترجم نسبه بما يليق به، وأضيف لم يصل إلى هناك إلا القليل منه بعد موجة الهجرة العظيمة مؤخرا وربما ستكون خطوة أولى في ماراثون الإبداع العربي، وستصل لا محالة لشعلة الإدهاش.”
إن كان الشعر عندها حالة ثورية تقول بريكات “الشعر عندي هو ما وقر في الروح وصدقه الأمل، لا أجدني ثائرة وإلا لكنت غيرت في حياتي الكثير، إلا أني بالشعر أحاول الانتفاض وكتابة قناعاتي،” مضيفة “لا بحر محددا لتلك المصبات كيفما جاء الإلهام سايرت ماء لغتي رياحه، بعضها في العشق والحب، بعضها في الكره والعتب.”
وتتابع “لم تخل سطوري من الأمومة وأعراضها الجانبية الجميلة والمتعبة. لكل شعور يتطاول في داخلي، ظل يتناسب طردا وتوقيت حدسي حينها. لي شطحاتي التي أفتعلها في قصد مني لاستعراض عضلات تمكني.”
أما عن اللون الشعري لقصائدها، والأقرب إليها العمودية أم التفعيلة أم قصيدة النثر؟ تقول “جربت مرة كتابة العمودي ببيتين اثنين قلت فيهما: ‘في الشام يصطف الحمام مصليا/ في الجامع الأموي يتلو الخاشعة/ شهداء سوريا التي ضاقت بهم/ يبنون في الجنات شاما شاسعة.’ وأقسم أني لم أستعذبه. أرى في النثر أرضا وملعبا، أرى فيه حبلا ومشنقة، أرى فيه مخالب وجروحا أراه نايا بثقوب تناسب وجع قصبي.”
الشاعرة جربت جميع صيحات تفصيلات المدارس الشعرية ولم تجد منها ما يناسب الشعر إلا ما ترتاح فيه روحها
وتتابع متحدثة عن موقع المرأة في خارطة الإبداع الشعري “المرأة هي أساس الإبداع أينما وجدت تربة خصبة أنبتت ما يدهش الناظرين. المرأة استبسلت لتحقق أحلامها وبجهد شخصي وقفت في وجه المجتمع ابتداء من سلطة الأسرة، وانتهاء بكسر القيود المقيتة، تحررت فكريا فكتب الجمال الملفت، منذ أيام أعلنا نحن الشاعرات السوريات عن ديواننا المشترك النسوي ‘محابر على ذمة العطر’، وستأتي لاحقا الكثير من التجارب المماثلة لنثبت بصمتنا الحبرية الياسمينية كمسامير ذهبية على جدران الشعر.”
نسأل الشاعرة عن الواقع المعيش والمعاناة اليومية للمواطن العربي اليوم، وكيف يحضران في قصيدتها؟ لتجيبنا بقولها “لنهرب من الواقع المعيش، نكتب ونحلم ونتمنى ونحن مصابون بلعنة الأمل وبأن الأفضل للغد. ولأننا نتاج المعاناة وكل هذا الهراء الاجتماعي والسياسي، ترانا في قهر تام وعجز لما يحدث حولنا… ولأن قلة حيلتنا باتت تتفوق لاإراديا على الأحداث الكبيرة، التزمنا حواف السطر بأضعف إيمان الرغبات ندعو ونغامر بمعاودة الثقة بالقادم كمسكن موضعي لألم مرضنا العربي العصي على الشفاء.”
وتتابع “من أين يستحضر الكاتب عناصر فكرته الأولية إلا من بضائع أسواق المجتمع ومحلات الواقع المنتشرة حوله. لن يقصد المجرات الأخرى إذ لديه على الأرض من خذلان ما لا يكفيه المداد ولو كان بعدد قطرات البحر. ولنقل إن قريحة الكاتب الحق لا تجف إلا أننا الآن مصابون بالجدب نتابع الأحداث المحيطة بصمت المتفرج الحائر.”
نسأل بريكات إلى أي المدارس الأدبية تنتمي؟ وأي من نصوصها الشعرية والأدبية الأحب إلى قلبها؟ وهل هي راضية عن كتاباتها؟ فتقول “أينما وجدت كياني الشعري جلست على مقاعده وأرى في النثر حاليا ما يستهويني. كتبت كل نصوصي بحب أمومي فكيف تطلب مني أن أفرق بين الإخوة، لن أميز أحدهم عن الآخر ولو بقبلة.”
وتضيف “أراني أتحلى ببعض الرضا عما كتبته، وأجزم بأني لن أصل إلى تمام الرضا لأنه سيكون وقتها بمثابة القمة التي تتبعها هاوية الغرور، لذلك دوما بالرضا أراني على حصير المشاعر أجلس وأتعلم، أما عن جفاف القلم فهو تعبير مجازي يحدث حينما تتجاوز المشاعر الأخرى عتبته لشدتها، إلا أنه لا غنى لنا عنه سنعود إليه في مسيرة الإياب.”
وتختم الشاعرة عائشة بريكات حديثها لـ “العرب” قائلة “فلتقرأوني بعيون أرواحكم، ولتستروا على حرفي برداء حسن ظنكم به وبصاحبته.”