هاروكي موراكامي: لاكتشاف موهبتك اقفز في الماء فإما أن تسبح أو تغرق

الكاتب الياباني يفتح الطريق أمام الراغبين في خوض رحلة الكتابة.
الأحد 2024/12/01
الروائيون لا يصادقون بعضهم بعضا (لوحة للفنان تحسين الزيدي)

لكل كاتب آراؤه الخاصة حول الكتابة وطرقها وأشكالها وأساليبها، تتنوع الآراء، وأحيانا تتصادم بشكل عنيف أو تتجاور دون مبالاة ببعضها البعض، لكن في النهاية تثبت تعدد أساليب الكتابة وغياب الوصفة الجاهزة، غير أن هذا لا ينفي أن رؤى كل كاتب من الكتاب تختزن تجربته كاملة، ومن هنا تكون أهميتها وجدارتها خاصة لإضاءة جزء هام من الطريق للكتاب الجدد.

قراءة الرواية نوع من التواصل مع العالم، وما يصحب هذه العملية باستمرار هو التطلع إلى استكشاف الذهنيات الإبداعية، فلا يكتفي المتلقي للأعمال الروائية بتموقع زاوية النظر للشخصيات اللغوية ورؤية المعطيات والتأمل في الأسئلة بالصيغة التي يناقشها المؤلف على لسان كائناته المتحركة في فضاء النص، بل يتابع إلى جانب ذلك كل ما يترشح من محترف الكتابة حول تفاصيل آليات التأليف الروائي والمصادر التي يستقي منها الكاتب أفكاره وما يعول عليه لتحديد بصمته الفارقة في سيرته الإبداعية.

لعل ما يستأثر بالاهتمام في هذا الإطار هو معرفة الموجة التي يلعب عليها الروائي لكسب ثقة القارئ، وإقناعه بأن مختبره الإبداعي لا يتوقف عن سبك تشكيلات جديدة للتعبير عن الأفكار والمواضيع، كما أن استعادة الكاتب للحظة التي غامر فيها بالتحرك في ملعب الرواية تلبي فضول القارئ بالانفتاح على بدايات الوعي الإبداعي وتراكم الخبرة في مطبخ الكتابة.

سايكولوجية الكاتب

حدا الأمر بعدد من الروائيين للعودة إلى كواليس التأليف والحديث عن تجاربهم في فك أسرار الصنعة. وهنا من المناسب الإشارة إلى ما نشر للكاتب الأميركي بول أوستر بعنوان “كيف أصبحت كاتبا”، وهو يضم سلسلة من اللقاءات والشهادات عن انطلاقته الأولى في مجال الكتابة.

يعترف أوستر في كتابه بأن بداية نموه وتطوره كروائي كانت بطيئة، لافتا إلى مبادرته بكتابة القصائد لأنه كان يتوقع أن هذا الجنس الأدبي أقل صعوبة. ومن ثم يتغير المصير وتكون عناوين رواياته إضافة نوعية إلى الإبداع العالمي، وعلى ذات المنوال يكشف الروائي الياباني هاروكي موراكامي عن تكوينه الإبداعي وفهمه لأعراف الرواية في كتابه الموسوم بـ”مهنتي هي الرواية”.

الصورة الأجدر للروائي أن يكون حرا يفعل ما يحب وقتما يحب وبالطريقة التي يحب دون أن يهمه ما يقوله الآخرون

قبل الحديث عن سيرته المهنية يناقش موراكامي البعد النفسي في شخصية الكاتب وما يشهده معترك الكتابة من ظواهر قد تكون غريبة بالنسبة إلى المتابع. وهو يعلن من البداية أن أغلب الروائيين ليسوا من صنف الذي يمكن وصفه بالمنصف والودود، كما لا يصلح من يزاول هذه المهنة أن يكون قدوة حسنة ولا يستثني موراكامي نفسه من هذا الحكم.

ويفترض جل الروائيين بأن أسلوبهم صحيح فيما لا يخلو ما يكتبه غيرهم من الخطأ والشوائب. لذلك يندر وجود الصداقات الحميمة بين هذه الفئة من الناس. وللإبانة عن صحة هذا الرأي يشير موراكامي إلى مناسبة جمعت بين جيمس جويس ومارسيل بروست دون أن يتبادل الاثنان الكلام، علما بأن مكان جلوسهما كان متقاربا.

 ولكن ما يميز الروائيين هو رحابة الصدر قياسا بأصحاب المهن الأخرى إذ لا تصادف روائيا يرى في تعاظم عدد المنضمين إلى نادي الرواية حالة مثيرة للريبة أو يتوقع منها عاملا يبعد عنه الأضواء أو يضيق مجال حركته، بخلاف ما هو سائد وسط البيئات الفنية الأخرى قد يلقى من يريد اختراقها اعتراضا أو عدم القبول.

 ويتطرق  مؤلف “الغابة النرويجية”إلى تجربته في مجال الترجمة وما لاحظه من حساسية المترجمين المحترفين بانخراطه في نقل الروايات من الأدب الأميركي، إذ سمع منهم كلاما مثبطا للعزيمة “الترجمة الأدبية ليست للهواة، والكاتب الذي يحاول التجريب في الترجمة مجرد تشويش،” وعندما نشر كتابه غير التخييلي “المترو” انهالت عليه سهام النقد، ووصم بأنه كاشف للجهل بالقواعد الأساسية للكتابة غير التخييلية. وهذا ما أكد له حقيقة وهي أن المتخصصين في أي مجال ينظرون بريبة إلى الأشخاص الذين ترمي بهم الأقدار إلى ملعبهم.

يعزو موراكامي سبب ترحيب الروائيين بأي قادم جديد إلى طبيعة الكتابة الروائية ومرونتها. وفي الواقع لا يتطلب تأليف الرواية الأولى مراسا وتدريبا شاقا، بل يمكن لأي شخص أن يسحب من رصيد تجاربه الذاتية وقراءاته مادة لكتابة باكورة أعماله. ولا يكون للتخصص في الأدب دور على هذا الصعيد إذ لا يصعب على الأصوات الجديدة الشروع في كتابة الرواية، حتى ولو كانت الموهبة متواضعة.

اكتشاف الموهبة

موراكامي ينصح الروائيين بتجنب الكتابة عن الأشياء المعقدة والتخفف من الأفكار المسبقة عن شكل الرواية والأدب

يستدعي كلام موراكامي عن متطلبات كتابة الرواية الانتباه، فحسب رأيه أن أصحاب الثراء المعرفي قد لا يحتاجون إلى اختيار الرواية للتعبير عن أفكارهم، لأن النص الروائي مادة ضبابية غامضة، إذ يؤكد أن النقاد يسبقون الروائيين الذين تصبح نصوصهم موضع النقاش والجدل التحليلي، لكن قد يواجه معظم المهتمين بالنقد الأدبي صعوبة في التنظير والفهم لبعض الروايات المعينة، لأن المزاج الذي يتابع الخيط الإبداعي لا يكون إلا بطيئا، فيما يتحرك النقد بوتيرة أسرع، والحال هذه لا عجب إن حاول الناقد معالجة النص على موجته.

ومن واقع معاينته لتجارب نفر من الأذكياء الذين نجحوا في كتابة رواية أو روايتين لاحظ موراكامي أن من بين هؤلاء لم يواصل رحلة الكتابة إلا نزر يسير، فقد غادر معظمهم الحلبة. كأن الغاية ليست أكثر من مذاق هذه المهنة، أما التفرغ لها فدونه الصعاب.

والسبب الآخر لقلة من يحتملون الاستمرار في الكتابة الروائية هو شح المردود الذي لا يرقى إلى مستوى التوقع، لذا يكتفي صاحب الذكاء العالي بنشر رواية أو روايتين وبذلك يسجل اسمه في نادي الأدب. وهذا يجب أن يكون مفهوما لأن الروائيين هم من سلالة تشعر بالحاجة إلى فعل أشياء غير ضرورية حسب تعبير موراكامي، وبالطبع إن الشغف بهذه المغامرة بالنبش عن وجه آخر للواقع في تلك الدوائر غير الضرورية سيتلاشى إلا لدى الأقلية ومن يؤتى تجلدا.

وما يذكره موراكامي في هذا المبحث أن الذكاء لا يصلح إلا لسنوات معدودة بعدها على الروائي أن يصقل الموهبة ويفطن إلى ضرورة استبدال آليات الكتابة واختيار ما يناسب أشواطه الإبداعية. وإذا لم يكتسب مرونة على هذا المستوى فعلى الأرجح ينتهي به المطاف إلى منطقة الراحة التي تقضي على النفس الإبداعي.

الذكاء لا يصلح إلا لسنوات معدودة بعدها على الروائي أن يصقل الموهبة ويفطن إلى ضرورة استبدال آليات الكتابة

ويعترف صاحب “ما بعد الظلام” بأنه لا تصعب على المرء كتابة رواية وحيدة، وليس من المستبعد أن تكون بجودة عالية، لكن التحدي الأكبر يتمثل في إضافة عناوين جديدة إلى رصيدك سنة تلو أخرى. ويأتي رد موراكامي صادما على سؤال قد يهجس به كل من يهمه التأكد من حظوته في الكتابة الروائية؛ إذ يقول بأن الطريقة الوحيدة لاكتشاف موهبتك هي أن تقفز في الماء فإما أن تسبح أو تغرق.

المتوقع من الروائي الذي قد راكم خبرة وقبض على موجته الأثيرة في الكتابة أنْ يضمر كلامه عن تجربته نتفا من الوصايا التي تفيد من يستهويه الحفر في تربة الرواية باحثا عن الرمية الأمثل في بداية اللعبة الإبداعية. وينصح موراكامي بتجنب الكتابة عن الأشياء المعقدة والتخفف من الأفكار المسبقة عن شكل الرواية والأدب لأن كل ذلك لا يصلح لأن يكون مصدرا ملهما للتأليف بل ما ينفع هو الثقة بما تجود به السجية والكتابة الحرة والابتعاد عن الأفكار المختبرية.

وبالرغم من أن موراكامي لا يعاني من حبسة الكتابة ولا يتوجس من الشعور بالشقاء، فإنه معتكف على التأليف، لكن يناور بالترجمة على ما يتطلبه الإبداع الروائي من النفس الطويل، إذ يستمد التوازن الذهني بالانصراف إلى الترجمة مؤقتا، ويعتبر ذلك فسحة يستريح فيها دون أن ينقطع عن الكتابة.

يعترف هاروكي موراكامي بأنه كان ينجز قدرا وافرا من الكتابة في مرحلة معينة خارج البلاد، مشيرا إلى أن العيش في مكان آخر يفيده جدا في الكتابة، إذ يتمكن من تحديد وتيرة العمل وترتيب أوراق مشروعه الجديد. من الواضح أن موراكامي يستمتع بالحديث عن كواليس التأليف ويفضل الاهتمام بهذا الجانب بدلا من التعليق على أعماله. ومن الأمور الهامة التي يذكرها في هذا الإطار أنه يلزم نفسه بالتوقف بعد كتابة عشر صفحات، وحين يشعر بالفتور وتنفد الرغبة في الاستمرار لا يستسلم إلى أن يكمل القسط اليومي.

موراكامي يعترف بأنه كان ينجز قدرا وافرا من الكتابة في مرحلة معينة خارج البلاد، مشيرا إلى أن العيش في مكان آخر يفيده جدا في الكتابة

بالطبع هناك تفاوت في الخط اليومي، كأن يكتب المرء اليوم بغزارة لكن لا يضيف غدا شيئا إلى غلته، وهو يقتفي خط الكاتبة الدانماركية التي صرحت بأنها تكتب قليلا جدا كل يوم من دون أمل ودون يأس. فالصورة الأجدر للروائي برأي موراكامي هي أن يكون حرا؛ بمعنى يفعل ما يحب، في الوقت الذي يحب، وبالطريقة التي يحب دون أن يهمه ما يقوله الآخرون.

يستعيد هاروكي موراكامي حيثيات المدة التي كان فيها منكبا على كتابة “كافكا على الشاطئ”، فالمسودة الأولى من هذه الرواية وصلت إلى ألف وثمانمئة صفحة. كتب موراكامي معظم أجزاء الرواية في الساحل الشمالي بجزيرة هاواي. وتزامن شروعه في كتابة الرواية مع موسم البيسبول لذا لا يصعب عليه تذكر الأجواء والتاريخ. يبدأ موراكامي بالكتابة دون مخطط ثابت ولا يسبق الأحداث قبل اكتشافها، وبذلك تأخذ الأشياء مجراها ويستمتع الكاتب بالاسترسال في تسجيل ما يداهمه من الأفكار والصور.

صحيح أن ليس كل ما يدونه المؤلف مناسبا بل تتطلب خامة النص المراجعة والتنقيح. تقول هيلاري مانتل إن تدفق الكلمات يشبه الحفل المجنون الصاخب الذي يستمر دون توقف، لذا يستدعي الوضع وجود من يعيد النظام إلى الفوضى. إضافة إلى مراجعة العمل الروائي يترك موراكامي الرواية لأن العمل الإبداعي لا تستوي أجزاؤه إذا لم ترتحْ فترة من الزمن. وهذا ما يحيل إلى رأي ماركيز الذي أسرّه لأحد أصدقائه “أحيانا يجب ترك الكتب كي ترتاح.”

من الواضح أن موراكامي لا يعجبه التراشق الكلامي والسجالات الأدبية غير أن ذلك لا يمنعه من إعلان رفضه لانتقائية النقاد وبترهم لجزء من النص وتقريعهم للكاتب بسبب تراخيه وإهماله في المقطع المقتبس. فمن الطبيعي ألا يكون العمل الإبداعي خاليا من العثرات لأن النص الأدبي عموما والرواية على وجه الخصوص أشبه بالإنسان يعيش ويتنفس، لا بد أن توجد فيها أجزاء رخوة وغير مقنعة، حينها يتحقق التأثير الكامل للجوانب المحكمة.

يفرد صاحب “رقص رقص رقص” قسما من كتابه لمناقشة معدن الشخصيات الروائية والمصادر التي يستلهم منها الكتاب صورة الشخصية الورقية. فمن أكثر الأشياء التي يتشوق إليها موراكامي أن ينجح في بناء أي شخصية يتخيلها. ويفهم مما يقوله عن أعماله المفضلة أنه يعيش حالة من الافتتان مع الروايات التي تحفل بالشخصيات الهامشية، ويشير في هذا الصدد إلى “الشياطين” لدوستويفسكي وعالمها الضاج بالشخصيات، كما يبدي إعجابه بالكاتب الياباني ناتسمي سوسكي وتفوقه في نحت شتى أنواع الشخصيات حتى الشخصيات التي لا يكون حضورها إلا وامضا، يجدها المتلقي شخصيات فريدة. والأهم على هذا المستوى هو إدراك الروائي لضرورة تعجين شخصياته بحس واقعي مطبوع بمواصفات لافتة. لا ضير إن كانت الشخصيات تتصرف على نحو غير متوقع.

العداء والروائي

Thumbnail

لازمت الكتابة في رأي الأغلبية نشاطا ذهنيا والصورة التقليدية للكاتب هي وجوده في غرفة شاحبة جالسا على الكرسي يفكر أو يبارز الكلمات، وفي الحقيقة إن ما يبذله الروائي من الطاقة البدنية لا يقل عما ينفقه من الكد الذهني بدءا من الطباعة وما يتبعها من الحركات وصولا إلى المعاينة والتجوال في الأماكن التي قد تتحول إلى خلفية لحركة الشخصيات في الأعمال الروائية.

يذكّر موراكامي بما ساد عن الكتاب من أنهم أشخاص غير صحيين وغير اجتماعيين ومخالفين للأعراف لذلك فإن موضوع الصحة واللياقة البدنية يقع خارج مجال تفكيرهم.

وموراكامي ليس مهتما بدحض هذا الاعتقاد في الفصل الذي يتناول فيه علاقة الكتابة بالنشاط البدني بقدر ما يريد الكشف عن شغفه بالجري وما يفيده ذلك في عمله الإبداعي، ومن نافلة القول إن هاروكي قد نشر كتابا تدور مراوحه حول تجربته مع الجري، موضحا ما يجمع بين الكتابة والجري.

وحسب رأيه المرء لا يصبح عداء لأن ثمة أحدا نصحه بذلك كما لا يختار مهنة الرواية بطلب من الآخر. مجمل ما يمكن قوله في هذا المدار أن الرشاقة الذهنية والإبداعية لا تنفصل لدى موراكامي عن الرشاقة الجسدية. فالخصم الوحيد الذي يتعين على العداء أن يهزمه في جري المسافات الطويلة هو نفسه، وما اعتاد أن يكونه. كذلك الأمر بالنسبة إلى الروائي يجب أنْ ينافس نفسه ولا يستسلم لما يثبط عزمه على المضي قدما في الكتابة والتجدد.

وما يجدر ذكره في هذا المقام أن هاروكي موراكامي يكتب بالإنجليزية ويتقاطع في ذلك مع تجربة الكاتبة المجرية أغوتا كريستوف، إذ يكتشف الأخيرة وينجذب إلى أسلوبها الجديد وتفردها في صياغة الجمل القصيرة والوصف الخالي من الحمولة العاطفية تعتقد صاحبة “أمس” بأنه يصعب على المرء الكتابة بلغة الأم فمابالك باللغة الأجنبية؟ وقد يكون الإبداع بغير لغة الأم محاولة لرؤية المعطيات بلون آخر وبحثا عن نغمة أخرى في الأشياء كما تتجلى في لغة جديدة.

11