مسيرات متقدمة في الأجواء وتبوريدة مغربية تراثية على الأرض

من الضروري التهيؤ لحروب مستقبلية بمواصفات مختلفة واعتمادا على قواعد بشرية وصناعية وعسكرية راسخة كما يقدم النموذج المغربي وكما يحاول رهط من الجيوش في منطقة الساحل اللحاق به.
الاثنين 2024/11/25
تبوريدة من نوع آخر في طان طان

لا يخلو سوق مغربي تقليدي من قطع أسلحة، ومن السيوف والخناجر أو من الأسلحة النارية القديمة من مسدسات والمكحلة بندقية عرض التبوريدة المغربية التقليدي. الانطباع السائد أن هذه البنادق هي من بقايا ارث العلاقة المغربية – الإسبانية أو المغربية – البرتغالية. في الحقيقة، كان المغرب هو ورشة تصنيع الأسلحة على مدى قرون للجزء الغربي من البحر المتوسط. كانت الجيوش الأوروبية في ذلك الوقت جيوشا صغيرة العدد ومحترفة وتتكون بالأساس من جنود محترفين. وسواء أكان المطلوب سيوفا أم رماحا أم بنادق أم مدافع (بعد دخول تكنولوجيا البارود إلى الحرب كقوة دافعة للطلقات في البنادق والمدفعية أو قوة متفجرة في القذائف أو المتفجرات)، كانت الورش الحربية المغربية جاهزة لتوفير المطلوب.

تغيرت الحروب كمّا ونوعا مع عصر النهضة والعصر الصناعي الحديث، لكن ثقافة الحرف الصناعية تمكنت من البقاء في المغرب. جرب أن تتجول في أيّ سوق شعبية مغربية وسترى المستوى الرفيع الذي حافظت عليه اليد الماهرة في المغرب جيلا بعد جيل.

قبل أيام، أقر البرلمان المغربي قرارا بتقديم التسهيلات الضريبية لشركات الصناعات الدفاعية. كان عدد من الشركات الصناعة الدفاعية الأميركية والأوروبية والهندية والصينية والإسرائيلية قد تحرك مبكرا لإنشاء خطوط إنتاجية في المغرب. المغرب اليوم هو النقطة الأكثر استقرارا في منطقة الشمال الغربي من أفريقيا، وركن يوفر نقطة انطلاق بمواصفات عالية لأكثر من مبادرة أمنية وصناعية متقدمة.

◄ المغرب بشريا وجغرافيا في موقع الوصل الآمن بعد أن استثمر طويلا في الثقة بالعلاقة بين محيطه الأوروبي – العربي والأوروبي – الأفريقي بعيدا عن المزاجية التي سممت علاقات الآخرين في الإقليم

هذه الأمور لا تحدث بالصدفة. فثمة بنية تحتية مدنية وتعليمية توفر الأساس الصناعي لمثل هذه المشاريع. وقد سبقت صناعة السيارات الصناعات العسكرية إلى المغرب، البلد الذي استبق غيره من دول المنطقة بتشييد شبكة طرق سيارة وقطارات بمستويات عالمية وموانئ هي الأكبر والأكثر تقدما إقليميا.

تفرض طبيعة الصراعات الجارية في غرب أفريقيا نمطا مختلفا من السلاح والتكنولوجيا العسكرية. تستطيع قوة من بضع مئات من الإرهابيين أو المتمردين أن يتسببوا باضطرابات أمنية كانت في ما سبق من تخصص جيوش بعشرات الآلاف. وكما شهدنا مع الفشل المدوي لقوة برخان الفرنسية، فإن التقنيات والتدريبات التي بعمر عقد أو أكثر صارت تبدو خارج العصر وتحتاج إلى تحديث على مستوى النظرة، أو كما يسمى بـ”ثورة في الشؤون العسكرية”. لمراقبة كل تلك الآلاف من الكيلومترات المربعة من الرمال والصحارى ورصد ما يحدث فيها من عمليات تسلل وتهريب للسلاح والمخدرات والبشر، تحتاج دول المنطقة إلى معدات عسكرية بمواصفات أخف وأكثر مطاولة زمنيا (تحليق لمسيّرات بلا طيار على مدى أيام) وبقدرات نارية حاسمة وانعدام للاستعراضية العاجزة (كما تخبرنا اليوم كل تلك المسيّرات الإيرانية التي تطلقها إيران وميليشيات حزب الله وحماس والحشد الشعبي والحوثي على إسرائيل). وتحتاج المنطقة إلى منظومات رصد ومتابعة متكاملة بين الدول المجاورة لبعضها بعضا للقيام بمهمات تجمع بين البشري والتقني بكفاءة عالية، من دون أن ترهق ميزانيات دول نامية هي في الأصل تعاني من تسرّب بشري نحو أوروبا بحثا عن فرص العيش الكريم.

لا أحد يريد أن يرى كل تلك الاستعراضات المجلجلة لطائرات بمحركات تصرخ في السماء من أجيال الستينات والسبعينات، وستكون روسيا في غاية السعادة أن تبيع المزيد منها للجيوش الهرمة في المنطقة. ولا أحد يريد كل تلك الدبابات والمدرعات التي فشلت في الحركة على أرض أوروبا كما نرى في حرب أوكرانيا، بينما يتسابق الإرهابيون أو مهربو المخدرات مع قوى الحدود في منطقة الساحل بسيارات الدفع الرباعي المزودة بدروع خفيفة وأجهزة رصد وبمسيّرات بسيطة تساعدها على التقاط تقدم القوات الحكومية المكلفة بمهمة قطع الطريق عليها من دون أمل يذكر على رمال وكثبان ترسم كل يوم جغرافيا مختلفة الشكل وتزيد من صعوبة حركة الدبابات الثقيلة.

هذا المشهد في “الثورة في الشؤون العسكرية” يجمع الحركية العالية بالتدريب والتصنيع الخاص لمعدات من مسيّرات وأسلحة وصواريخ ذكية، مع انضباط عال بمنع تسرب المعلومات في دول مستقرة غير مخترقة أمنيا، تتعامل مع الأمن المعلوماتي بأعلى درجات الحرفية، بعيدا عن الاستهانة والاستسهال والاستعراض.

كشفت نظريات “القص واللصق” التي اعتمدتها إيران في تطوير صناعتها العسكرية خطورة الاستسهال في مجال البحث والتطوير. فوضع اسم مقدّس على مسيّرة بدائية لن يجعلها قادرة على اختراق دفاعات الخصم والعدو. “شهاب” و”بدر” و”رعد” ومن أمثالها من الأسماء التي تستخدم في تسمية المسيّرات والصواريخ الإيرانية، قد تكون جذابة كملصقات لجداريات أو عندما تمر محملة على عربات الصواريخ، وقد تساعد المخطط العسكري الإيراني لو تطابق الاسم مع القدرة على الفعل. لكننا نعرف أننا في عصر جديد. وقبل أن نسأل الإسرائيلي إن كانت هذه الأسماء الرنانة للصواريخ والمسيّرات بقادرة على أن تخيفه، يجب أن نسأل الأوكراني: كم بقي من تلك الصواريخ الإيرانية التي باعتها إيران لروسيا لم تسقطه قوات الدفاع الأوكرانية، ولماذا عادت موسكو إلى العلم والمنطق وأعلنت عن استخدامها صواريخ فرط صوتية حقيقية ومسيّرات مناورة بمواصفات متقدمة؟

◄ المغرب اليوم هو النقطة الأكثر استقرارا في منطقة الشمال الغربي من أفريقيا، وركن يوفر نقطة انطلاق بمواصفات عالية لأكثر من مبادرة أمنية وصناعية متقدمة

الحروب قد تكون تدور في أوكرانيا وجنوب لبنان وقطاع غزة. لكن تجتمع هذه الحروب بمواصفات مشتركة أساسها أن أحدا لا يحارب بأسلحة الحرب السابقة ولا بعقليتها، وإن من الضروري التهيؤ لحروب مستقبلية بمواصفات مختلفة واعتمادا على قواعد بشرية وصناعية وعسكرية راسخة، كما يقدم النموذج المغربي، وكما يحاول رهط من الجيوش في منطقة الساحل اللحاق به، أو كما شهدنا (من دون أن يلاحظ أغلبنا) الطريقة التي حاربت وانتصرت بها القوات الإماراتية خفيفة الحركة والمعززة بالرصد والمسيّرات والتدريب العالي في جنوب اليمن.

تجتمع هذه الكتلة الحرجة في المغرب، من إرادة سياسية وتدفق للتكنولوجيا والمعرفة ورأس المال، واطمئنان لسلامة نقل التكنولوجيا من دون أن تتسرب تقنيات عالية إلى الأيدي الخطأ، وهو هاجس غربي كبير خصوصا مع الانتشار الواسع لتقنيات الذكاء الاصطناعي.

المغرب، بشريا وجغرافيا، في موقع الوصل الآمن بعد أن استثمر طويلا في الثقة بالعلاقة بين محيطه الأوروبي – العربي والأوروبي – الأفريقي بعيدا عن المزاجية التي سممت علاقات الآخرين في الإقليم. ولا نقصد هنا فقط تقلبات علاقات الجزائريين بمحيطهم الاقتصادي والبشري، بل تعثّر علاقة الفرنسيين بإقليم الساحل والصحراء، والذي دفعت جرّاءه المنطقة الكثير من أمنها.

إلى حين تنتبه دول تعتبر نفسها متضررة من أن ما تتحدث فيه عن اختراقات، مرة غربية ومرة صهيونية ومرة إماراتية، إنما هي مرحلة أوهام على لسان عاجز عن مسايرة خطوات المغرب نحو التقدم، يكون المغرب قد قطع أشواطا كبيرة تجعل من المدرّعات والدبابات الكثيرة التي تتآكل بحكم رمال الصحراء وعوامل التقادم بحكم دخول البديل المرن والمؤثر، تجعله مجرد حديد خردة لا يصلح حتى للاستعراضات.

تركض الخيل في مهرجان طان طان التقليدي على بوابة الصحراء المغربية، ويمتشق الفرسان مكاحلهم ويطلقون النار في التبوريدة التراثية الجميلة. لكن في الأفق، يمكن أن ترى مسيّرات مسلحة متقدمة وهي تتحرك متجهة في دوريات قتالية أو تدريبية، تضمن أمن البلاد وترسم وعيا للآخرين ممّن يريدون أمن بلادهم على هذا المستوى الذي تجتمع فيه الثقة بالعلاقات بالسلام.

9