الدولة الاجتماعية في تونس.. البطة العرجاء

يتحرك الرئيس التونسي قيس سعيد بعد انتخابه لولاية ثانية في كل اتجاه من أجل تنزيل مقاربته لمفهوم الدولة الاجتماعية التي ترعى الفئات الضعيفة ومحدودة الدخل وتمكينها من خدمات تليق بها. وخلال الأيام الماضية ركز قيس سعيد أغلب لقاءاته على هذا المنحى، من خلال الاهتمام بالخدمات الاجتماعية والسكن والتصدي للمضاربات ورفع الأسعار في تمش يتعارض مع خيارات الدولة.
ومن الاجتماعات المهمة نشير إلى لقاء قيس سعيد بوزير الشؤون الاجتماعية عصام الأحمر، مؤكدا على ضرورة “تطوير طرق عمل الوزارة، وضرورة التدخل العاجل لشد أزر المحتاجين."
ودعا الرئيس التونسي إلى تطوير واقع الصناديق الاجتماعية، مؤكدًا على “الحق في التغطية الاجتماعية للمواطنين تغطية سريعة وكاملة." وأكّد على “إعادة مشروع تنقيح مجلة الشغل بما يضمن حقّ العمال بإنهاء عقود المناولة،” و”وضع حدّ لما يسمّى بالعقود المحدودة في الزمن في أسرع الأوقات." وخلص إلى التأكيد على أن الاستقرار الاجتماعي لا يمكن أن يتحقّق إلا على أساس العدل.
◙ السؤال، كيف سيحصل هذا الزخم الذي يبحث الرئيس سعيد عن تأسيسه في علاقته بالناس؟ ومن سينفق على هذه المقاربة ومن أين وهل تقدر الدولة على بناء "الدولة الاجتماعية"؟
ومن الواضح هنا أن الدولة تضع على رأس أولوياتها تحسين الخدمات الصحية وزيادة المساعدات للفئات محدودة الدخل بشكل دائم، وليس في سياق مناسبات دينية أو وطنية كما كان يحصل في السابق بخلفية تبريد الغضب. والسؤال، كيف سيحصل هذا الزخم الذي يبحث الرئيس سعيد عن تأسيسه في علاقته بالناس؟ ومن سينفق على هذه المقاربة ومن أين وهل تقدر الدولة بإمكانياتها الحالية على بناء “الدولة الاجتماعية” التي تقف في صف الفقراء وضعاف الحال؟
نظريا هذا ممكن، وهو واجب الدولة، وهي أمور تُحسب لقيس سعيد، الذي لم يتناس رد الجميل للناس الذين انتخبوه ووقفوا في صفه ضد المنظومات السابقة التي كانت تطلق الوعود ولا تطبق منها شيئا. تبقى المشكلة في طريقة التطبيق ومن أين تأتي الدولة بالاعتمادات التي ستنفق منها على تطوير الخدمات الاجتماعية وتوسيع دائرة الشغل العادل ليشمل الجميع وعلى أساس العدل.
ليس هناك شك في أن هناك فسادا كبيرا عمّ البلاد في حقب ماضية ما قبل 2011 وما بعدها، وأن الدولة تستطيع أن تستعيد أموالها وأراضيها وعقاراتها المختلفة التي تم السطو عليها أو استعمالها بطرق فيها تحايل على الدولة واستهانة بها. وإلى حد الآن تحركت الدولة في اتجاهات مختلفة لاستعادة حقها بدءا بمزارع الزياتين والأراضي الزراعية المختلفة في أكثر من ولاية ومدينة بدءا من هنشير الشعال (صفاقس) والنفيضة (سوسة)، وهو دفع الولاة (المحافظين) وشجعهم على التحرك لاستعادة العقارات الكبيرة والصغيرة التي سلبت من الدولة بالتحايل أيا كانت الجهة التي استولت عليها، هيئة أم شخصيات مهمة أو مواطنين، وسواء انتزاع مباشر أم عن طريق التحايل مثل بيع أراضي الدولة للبناء.
هذا وجه مهم للدولة القوية، ويمكن أن يحل ولو جزئيا أزمة التمويلات في منظومة الدولة الاجتماعية، ولكن إلى متى ستقدر على تجميع أموال الفساد وإعادة توظيف العقارات التي تستعيدها، وماذا ستجلب من عائدات للميزانية لتمكنها من بناء المستشفيات واستصلاح ما هو قائم وتوفير الأدوية بنسق ثابت وزيادة أعداد العاملين في قطاع الصحة والشؤون الاجتماعية ليقوموا على تنفيذ مقاربة الدولة.
صحيح أن الخطوة الأولى مهمّة، ولا يمكن التشكيك في مسار استعادة الدولة لممتلكاتها وممتلكات الشعب وقدراته، لكنها خطوة أولى مساعدة على الحل، وليست ضامنة له. ما يضمن هذا المسار هو تحريك الاقتصاد والاستثمارات سواء التي تقوم بها الدولة أو القطاع الخاص، والتركيز على تطوير أداء المؤسسات المتوسطة والخاصة. هذا هو المسار الذي يحرك الدواليب ويجلب المال ويحسّن الأحوال، وعلى الدولة أن تعطيه الأولوية في اهتمامها وإنفاقها، وإلا فإن سياساتها ستتحرك مثل حركة البطة العرجاء.
حين يتحرّك الاقتصاد ويصبح منتجا، تفتح أمام الدولة أبواب كثيرة لتحصيل الأموال، منها أموال الضمان الاجتماعي وإنقاذ الصناديق الاجتماعية المتهالكة التي يطلب منها أن توفر الخدمات الصحية وتدعم الأدوية والعمليات الجراحية، لكنها بلا أموال.
وقد يكون الأمر مرتبطا في جانب منه بالفساد وسوء الإدارة، لكن الجانب الأكبر هو تناقص العائدات المالية المتأتية من القطاع الخاص. وهو أمر مفهوم ومعلوم لدى الدولة التي تعرف أن عليها مساعدة المؤسسات المتضررة على النهوض من الأزمات التي ارتبطت بمخلفات أزمة كورونا، التي أثرت على العالم ككل، وليس على الشركات التونسية فقط.
◙ حين يتحرّك الاقتصاد ويصبح منتجا، تفتح أمام الدولة أبواب كثيرة لتحصيل الأموال، منها أموال الضمان الاجتماعي وإنقاذ الصناديق الاجتماعية المتهالكة
والشركات بدورها، كما المواطنين، تحتاج إلى دعم من الدولة لأجل التعافي من جائحة كورونا ومن أزمنة الفساد والإضرابات ومن خطاب معادٍ لرأسمال ورجال الأعمال ومن انكماش ناجم عن الغموض تجاه المستقبل. لكن التحذير من الصعوبات لا يعني أن الحكومة يجب أن تتوقف عن تصويب الخيارات القائمة ودعم مسار الإصلاح الشامل الذي يعنى بقضايا الناس المباشرة، وهو ما يحسب لقيس سعيد من ذلك إثارة قضية السكن والتفكر في مقاربة جدية لوضعها على سكة الحلول.
الخطوة الأولى كان تمكين الناس المحتاجين لمساكن من المساكن الاجتماعية التي تم إنجازها في سنوات ماضية ثم بقيت معلقة لسبب أو لآخر. الخطوة الثانية، البدء بإصلاح المؤسسات التابعة للدولة، والتي تعنى بموضوع الإسكان، وهو ما يفسر استقبال الرئيس سعيد للرئيس المدير العام للشركة الوطنية العقارية للبلاد التونسية، المعروفة في تونس (أف هاش)، وهي التي تحصل على الأرض وتهيئها ثم تبيعها بأسعار أقل من أسعار العقارات في السوق مساهمة من الدولة في التخفيف من أزمة الإسكان.
وذكر قيس سعيد بالدور الذي قامت به هذه الشركة منذ إحداثها سنة 1957 في بناء أحياء جديدة بأثمان كانت في متناول الكثيرين، وكانت الأراضي التي أُقيمت عليها أحياء كاملة تُمنح لها من الأراضي التي هي على ملك الدولة بالمليم الرمزي في تناغم واتساق كاملين مع الدور الموكول للدولة، هذا فضلا عن الطريقة التي تم اعتمادها وهي التسويغ الذي يُكلّل بالبيع، وقد استفادت منه شرائح واسعة من المجتمع التونسي من محدودي الدخل.
وتفاقمت معاناة التونسيين خلال السنوات الأخيرة، حيث وجدوا أنفسهم أمام صعوبات تحول دون امتلاكهم مساكن بعدما دخلت السوق في حالة من الركود بسبب ارتفاع كبير في أسعار العقارات والأراضي ومواد البناء والمضاربات. كما أن المستثمرين في العقارات يحصلون عادة على امتيازات من الدولة لتشجيعهم على إنجاز البنايات. لكن مع الركود وارتفاع الأسعار توقفت عمليات البيع.
وبالنتيجة، فإن الدولة تحتاج إلى مقاربة مرحلية لتثبيت الدولة الاجتماعية التي يريدها قيس سعيد خاصة أن الدولة لا تمتلك من عائدات غير الجباية وهي ليست دولة نفطية، وحتى الدول النفطية غيرت مقاربات الرفاه الاجتماعي وباتت تبني مقاربة تقوم على شراكة في الأعباء. مقاربة مرحلية تعمل فيها الدولة على تحسين الخدمات بمختلف وجوهها من دون التخلي عن الاقتصاد ودعم الدوائر الاقتصادية.