زياد محافظة لـ"العرب": عكس ما يتوهم البعض.. الكتابة ليست عملية ممتعة

كاتب لا يتقصد التنقيب عن مخاوف الإنسان على كثرتها، قدر حرصه على منح شخوص رواياته الحق في التعبير.
الأحد 2024/11/24
الصورة الكلاسيكية للأديب انتهت ولم تعد موجودة

يتألق الكاتب والروائي الأردني زياد محافظة بنتاجه الأدبي الغني والمتميز، حيث يعكس بوضوح سرد العمق فكرياً وقدرته على استكشاف التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية والعلاقات الإنسانية، وقضايا مجتمعية وإنسانية وإبداعية. في هذا الحوار مع "العرب"، نستكشف المسارات المهنية، والأفكار التي يستمد منها محافظة نصوصه، ونقترب أكثر من شخصيته، ونناقش معه رؤاه حول الأدبيات في التعبير عن هموم الإنسان العربي.

حصلت رواية زياد محافظة “نزلاء العتمة” على جائزة أفضل رواية عربية لعام 2015 ضمن جوائز معرض الشارقة الدولي للكتاب، كما اختيرت روايته “يوم خذلتني الفراشات” للقائمة الطويلة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2012. وصدرت له إضافة إلى هذين العملين الروائيين، أعمال أخرى هي رواية “بالأمس كنت هناك”، ورواية “أنا وجَدّي وأفيرام”، ورواية “أفرهول”، ورواية “حيث يسكن الجنرال”، ورواية “سيدة أيلول”، ومجموعة قصصية بعنوان “أبي لا يجيد حراسة القصور”.

يحمل محافظة درجة الماجستير في الإدارة، وهو عضو رابطة الكتّاب الأردنيين، ورابطة القلم الكندية، واتحاد كتّاب وأدباء الإمارات، والاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، وقد كتب في العديد من القضايا الفكرية والأدبية، كما شارك في تحكيم عدد من الجوائز والمسابقات الأدبية، ما وفر له تجربة غنية انعكست على كتاباته.

بوكس

الرواية تشبه الحياة

العرب: هل ترى أن الرواية عالم متكامل يعرض من خلاله الكاتب تصوره للوجود ويحدد موقفه وموقعه من الكون والحياة؟

زياد محافظة: من لا يأخذ عملية الكتابة على محمل الجد، عليه أن يتخلى عنها وينصرف لأمر آخر. الكتابة بشكل عام وكتابة الرواية على وجه الخصوص فضاء شاسع على تجليات الحياة الإنسانية، علينا أن نتذكر أن الشعر بسطوته الجارفة هو النمط السردي الذي عبّر طويلاً عن روح العالم القديم ومعتقداته، لكن الرواية بعوالمها الرحبة والمتشعبة، استطاعت أن تسطّر ملحمتها الخاصة متنقلة بسهولة ويسر بين عوالم البرجوازية الأوروبية وأدب الفروسية في فترات زمنية، والحكايا الشعبية وقصص الطبقات الاجتماعية المهمشة، والأساطير والفولكلور، وواقع العصر الحديث وقيمه المعقدة وقضاياه المتشابكة.

الكتابة يجب أن تواكب عمق قضايانا الراهنة وسخونتها، لكن لا يُمثّل لجوء الروائي للسخرية أو توظيفه العوالم الغامضة أو حتى الأكاذيب الجميلة على سبيل المثال، انتقاصاً من جدية الكتابة أو قدرتها على إحداث التأثير المنشود. الرواية تثير الأسئلة الجارحة، وتشاكس، وتقض مضجع الكثيرين، وهي الأمثل برأيي إن لم تكن لجهة تغيير الواقع، فعلى الأقل لجهة فضحه وتعريته وبيان زيفه. عن نفسي، أنا وفيٌّ ومنحازٌ دوماً لقيم الإنسانية والجمال والحق والمحبة، لا أتقصد التنقيب عن مخاوف الإنسان على كثرتها، قدر حرصي على منح شخوص رواياتي الحق في التعبير عن أحلامهم وآرائهم وتطلعاتهم وهواجسهم بحرية تامة، دون أن أفرض عليهم رؤية أيديولوجية أو خطاً فكرياً ما.

دائماً ما أقول إن الرواية تشبه الحياة في كل شيء، في قصصها وخيباتها وأحلامها وفرحها وانكساراتها. اليوم أرى أن قضايا مجتمعاتنا متشابكة ومتداخلة بصورة يصعب فرزها، فجميع مسارات الحياة وقصصها وحكاياها وهذه الشبكة المعقدة من العلاقات والتبدلات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، تتمحور بشكل أساسي حول الإنسان، فأي طريق ستسلكه روائياً، سيقودك إلى سؤال الحياة الجوهري حول هذا الإنسان، وأي تناول لحكاية هذا الإنسان أينما كان، يجب أن يتسم بالجدية والرصانة.

بوكس

العرب: لماذا في معظم رواياتك يعلو النص ويتجه إلى البعد الفلسفي؟

زياد محافظة: من المهم برأيي أن تكون أفكار رواياتنا حيوية ومتجددة، بعد ذلك ترسم كل حكاية مسار السرد الخاص بها. الموضوعات التي نعايشها في منطقتنا وفي العالم اليوم، تكاد تكون متشابهة ومتقاربة، فإذا كنت تقصد تقليدية الموضوعات وفق هذا المنظور فأنا أتفق معك، لكن علينا هنا أن نلتقط وبذكاء، الخط الفاصل بين الأدب الجيّد الذي يسعى لخلق مقاربة جديدة للكيفية التي سيتم بها تفكيك القضايا الشائكة، وذاك الذي يُصر على تناول هذه القضايا بالطريقة ذاتها التي عولجت بها روائياً من قبل.

ولأن الرواية لا يمكن لها أن تنفصل عن الواقع، والواقع يتسم بالتكرار والرتابة أحياناً، لذا فإن تطوير تقنيات وأساليب الكتابة والسرد مسألة مهمة لكل روائي، وأرى أن من الضروري لأي كاتب يتعامل مع نصه الروائي بوصفه انعكاساً لتطورات الحياة وتبدلاتها، أن يفكر دوماً في تطوير أساليبه سواء على مستوى تقنيات الشكل واللغة وطرق السرد وبنية المكان وحركة الزمان وزوايا الرؤية والمعالجة واستخدام الحيل السردية وتوليد الحكايا، على أن يوظّفَ هذا التجريب أو تطوير أسلوب الكتابة لخدمة العمل الروائي ولإيصال رسالته بالشكل الأمثل.

البعد الفلسفي الذي أشرت إليه في سؤالك والذي تجده مبثوثاً في ثنايا أعمالي، تفرضه بالعادة سيرورة الحكاية ومستويات وثقافة أبطالها وخلفياتهم الفكرية، فكل شخصية من شخصيات العمل الروائي، تحكي بلسانها الخاص، وتعكس بالتالي ثقافتها ونضجها ورؤيتها للحياة وحركة العالم من حولها، وهذا ما يمنح عملية السرد التوازن المطلوب، لأن هذه ببساطة المعادلة ذاتها التي تتوازن وفقها الحياة.

مسألة شاقة

العرب: هل تختار العزلة والابتعاد عن الضجيج ونصب الحياة لتستبطن ذاتك وتكتشفها ومن ثم تعيد اكتشاف العالم من خلالها؟

زياد محافظة: لا توجد وصفة سحرية للكتابة، فلكل روائي أسلوبه المتفرد في تخليق الفكرة، ومزاجه الخاصة في إنضاج هذه الفكرة والمضي بها قدماً. اليوم لم تعد الصورة الكلاسيكية للأديب والتي انطبعت في أذهان الكثيرين ولسنوات طويلة، موجودة على أرض الواقع، وربما لم تكن هذه الفكرة أساساً سوى حالة من الاستعلائية التي ساقها الأدباء على القراء والبسطاء.

بوكس

عن نفسي أرى أن أعقد القضايا الإنسانية وأعمقها قد تصادفنا على ناصية الشارع أو عند إشارة المرور أو في صالة مطار أو في وجه متعب، وكلما كان الروائي على تماس مع قضايا البسطاء والمهمشين والمتعبين، كان أقدر على تحسس أوجاعهم والبوح بلسانهم. أنا أبحث دوماً عن الأفكار الجديدة والزوايا المختلفة التي سأطرق من خلالها هذه الأفكار، ما يهمني بعد ذلك هو الكيفية التي أستطيع عبرها تحويل الفكرة التي تدور بمخيلتي بما تحويه من أحلام ورؤى وقصص وأحداث وملامح وشخصيات وصراعات، إلى نص إنساني قابل للتأمل، وحين تختمر الفكرة ومحاورها وشخوصها وتجلياتها في داخلي، احتاج حينها مساحة خاصة جداً لرسم خيوط الحكاية وتشييد أركانها. عن نفسي أحب أن أكون على صلة وثيقة بالحياة ومشاكساتها.

العرب: كيف تخلق الرواية أو عملية الكتابة السردية؟

زياد محافظة: عكس ما يتوهم البعض من أن الكتابة عملية ممتعة وسلسة وحافلة بالألق والتحليق، الكتابة بالنسبة إليّ مسألة شاقة ومرهقة، لأنها تدفعني لعوالم جديدة، وتجبرني على تقمّص شخصيات لا تشبهني البتة، أنت كروائي عليك أن تكون محاطاً وعلى الدوام بشخصيات وأمزجة روائية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وعليك أن تمنح كل صوت، حقه الوافي ليقول ما عنده ويحكي حكايته بالطريقة التي يراها مناسبة.

الكيفية التي تنبثق بها فكرة الرواية تختلف من حكاية لأخرى، في أحيان كثيرة يكون الواحد منا مسكوناً بهاجس ما، وكل ما يريده هو تلك الشرارة التي تتيح لهذا النص الخروج على الورق. أنا أولي اهتماماً كبيراً للتفاصيل الدقيقة في كل عمل روائي؛ فكرة العمل ورسالته، عنوانه ومضامينه، بناء الشخصيات وتداعياتها، أمزجتها وأهوائها، أصواتها وصراعتها ونزعاتها، تبدلاتها وتوتراتها، فجواتها وتخوفاتها، كل هذه المحاور تتصارع وتتداخل فيما بينها خلال رحلة الكتابة، وعليك أن تتخيل مقدار الإرهاق الناجم عن التعامل اليومي مع شخصيات الرواية التي تريد كل واحدة منها أن تقود عربة الحكاية وتستأثر بالنصيب الأكبر من مساحة السرد. بشكل عام تجذبني البؤر السردية الساخنة في عالمنا العربي.

العرب: كيف تضع عناوين لمؤلفاتك رغم أنها غريبة عن المتلقي العربي، واحيانا تكون غريبة ومبهمة لأنها شديدة البساطة مثل ”نزلاء العتمة”، و”أنا وجَدّي وأفيرام”، و”أفرهول”؟ ماذا تعني بالنسبة إليك هذه العناوين ومن أين استقيتها؟

بوكس

زياد محافظة: المضامين بالنسبة إليّ أهم بكثير من العناوين، وأنا أحاول قدر الإمكان أن أجدد في كل عمل روائي لي، وأن أعثر على خيط سردي لافت وجديد في كل مرة. مثلاً روايتي “نزلاء العتمة”، تمحورت حول فلسفة الموت وجدوى التأويلات الميتافيزيقية التي تظل تؤجل الخلاص إلى عالم الماوراء، من خلال فرض جدلية بين ثنائية الموت والحياة توظيفاً لفكرة الموت كفكرة وجودية ذات امتداد غامض، يسمح للخيال أن يطرق أبواب السرد بهدوء.

ورواية “يوم خذلتني الفراشات”، دشّنت مشروعي الروائي الذي يبحث عميقاً في العلاقة الشائكة بين السلطة وأدواتها ورجالها من جهة، ومصير الفرد العربي وخيباته ونكساته من جهة أخرى.

وركّزت رواية “حيث يسكن الجنرال” على الشخصيات المشتتة والهائمة التي يمكن أن تسكن الجسد الواحد فترهقه وتستنزفه، وكانت بمثابة بحث عميق في غموض الروح الإنسانية وتوترها وانهياراتها، وسعي جاد لفهم حاضر الإنسان وخساراته ومصيره المجهول.

أما رواية “سيدة أيلول”، فقد انبثقت شرارة السرد فيها مع اندلاع أحداث أيلول عام 1970 في مدينة الزرقاء الأردنية، لتغطي تفاصيل وأحداث على امتداد أكثر من نصف قرن وفي أكثر من مكان، حيث يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل بطريقة عصية على التمييز، لتكون بهذا رواية المرأة والحرب والخسارات.

ورواية “أنا وجدّي وأفيرام” تتأمل في النظرة إلى المحتل، بوصفها اختزالاً لحالة تعكس مكابدات الفرد وعذاباته، وذلك عبر محاولة اشتقاق فهم أكثر عمقاً وشفافية، لمستويات الصراع التي تنشب داخل الفرد، حين تدفع به الحياة لمواجهة غير متكافئة مع عدو طالما تربص به، لتمضي الرواية التي تجري أحداثها في فلسطين وعمّان وبغداد، فتكشف الكثير من مصائر شخصياتها المعلقة، والمخاوف تتربص بهم من كل اتجاه.

وفي رواية “أفرهول”، كنت حريصاً على أن تكون الرواية صوت عمّان الحقيقي، والجرس الذي لابد من قرعه لإيقاظنا من سبات طويل. فهي تتخذ من مدينة عمّان مسرحاً لأحداثها، فتسبر عبر أصوات الشخصيات التي تناوبت على عملية السرد، جانباً مهماً من حياة المدينة، وتعاين التبدلات التي طرأت عليها وعلى ساكنيها خلال السنوات الماضية، وفي الوقت الذي تفكك فيه الرواية حاضر المدينة؛ بارتباكها وأسئلتها وقلقها، تؤشر في الوقت ذاته لملامح غد طافح بالتوتر والغموض والمجهول، فيما تؤشر مجموعتي القصصية “أبي لا يجيد حراسة القصور”، لزلاّت الحياة قبل أي شيء آخر، وبقدر ما تنبش في واقعٍ نتفادى التحرش به، بقدر ما تشفّ لتكشف ضعفَ الإنسان حين تتطلب الحياةُ قوةً وصلابة، وجبروته حين تقتضي الحاجةُ رفقاً وليناً.

بوكس

أما عملي الأحدث “تمهيد لعزلة طويلة”، فهي أكثر من مشروع سردي عن العزلة والاغتراب والذات الهائمة، إنها استكشاف أدبي ونفسي لأعماق النفس البشرية، إذ تجري أحداثها في أزمنة متداخلة، وأجواء تتشابك فيها العلاقات الإنسانية وقصص الحب والمصائر الغامضة، مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي تفرض نفسها على المشهد الروائي وتدخل طرفاً فاعلاً فيه.

القرب من القارئ

العرب: كيف ترى واقع الرواية العربية مع تعدد الجوائز المخصصة لها؟

زياد محافظة: الرواية العربية بخير طالما أنها تحكي بلساننا، وتنبش عميقاً في المسكوت عنه، وتسلّط الضوء على قضايانا الراهنة، ليس بقصد الإثارة، بل لتحريك هذا الواقع المتكلّس. قلتُ ذات مرة إن الروائي العربي ليس محظوظا بشيء قدر حظه بعشرات القصص والقضايا التي تحيطه به من كل جانب، وتتيح له الكتابة عنها، خذ عندك مثلاً قضايا الديكتاتوريات والكبت والقمع السياسي، انتهاك الحقوق، البطالة والفقر والفساد وسوء توزيع الثروة، التوتر بين التقليد والحداثة، الخوف على الهويات ومسألة الانتماءات الضيقة، قلق الاغتراب واللجوء والهجرات بمضامينها المتنوعة، المرأة وقضاياها الشائكة، التحولات العميقة في فكرة العدالة الاجتماعية، الإرهاب والخوف وانعدام الأفق في كثير من المجتمعات، الحرب وأهوالها وبشاعاتها، مثل هذه القضايا تفتح أمام الروائيين أفاقاً شاسعة لتفكيكها وتحليلها وقراءة انعكاساتها على واقع الفرد العربي ومصيره المبهم.

أما بالنسبة إلى سؤالك عن الجوائز، فمن العبث القول إن الجوائز تحدد قيمة الكاتب أو مكانته أو حضوره لدى القراء. بشكل عام ساهمت الجوائز بشكل كبير في خلق حراك ثقافي سنوي، وتسليط الضوء على العملية الإبداعية، ومنح الأعمال الفائزة ومبدعيها مساحة واسعة للانتشار، وربما تحفيز الكُتّاب على التجريب والتنويع في عملية الكتابة، وتناول موضوعات جديدة تعالج الواقع وتقدم قراءات للغد وتحدياته. ببساطة ما تفعله الجوائز الأدبية أنها تؤشر للقراء على أعمال بعينها وتخلق فضاءاً من الاهتمام لدى شريحة واسعة من القراء، الأمر الذي يمنح الأعمال الفائزة منبراً تطل من خلاله على قراء جدد. الإشكالية ليست في وجود الجوائز المخصصة للرواية فهذا أمر صحي وإيجابي، الإشكالية هنا أن تصبح هذه الجوائز هدفاً تكتب وتُهندس من أجله الروايات، من حيث المبنى والمعنى والغرض، وهذا مؤشر مقلق في فكرة الكتابة ودورها، أي أن تصبح الرواية جسراً للعبور نحو جائزة ما، بدل أن تكون صوتنا وتاريخنا الحقيقي، وشرفتنا التي نطل من خلالها على مشهد الحياة.

العرب: في أي سياقات كتبت روايتك الأحدث “تمهيد لعزلة طويلة”؟

بوكس

زياد محافظة: رواية “تمهيد لعزلة طويلة” هي عملي الروائي الأحدث، وقد صدرت قبل شهور قليلة، وأظن أنها عمل يغري القارئ بعوالم جديدة وفاتنة، بآفاق ومساحات رحبة من التأمل. الرواية القريبة من القارئ هي التي تحكي بلسانه، وتلامس خطوطه الحمراء وتسرد جانباً من حكايته دون أن يقصد أو يشعر.

 تتناول الرواية حكاية رجل يعمد إلى تغيير مصائر الآخرين والتلاعب بها، وإعادة رسمها وتشكيلها بصورة متخيلة أجمل من تلك التي قررها عليهم القدر، محاولاً بهذا منحهم شيئاً من البهجة الزائفة والطمأنينة المشتهاة، أو تجنيبهم لحظات قاسية أو موتاً محتماً، وهو إذ ينذر نفسه لهذه المهمة التي ينساق فيها لمخيلته الخصبة وسرده الأنيق، إنما يفعل هذا سعياً منه للتكفير عن زلاّته والتطهر مما علق بروحه من سقطات وأكاذيب وخيبات. لتكون الرواية بهذا، رواية الاحتمالات المتعددة، وجواز كل الوجوه وعدم جوازها في آن واحد. هي بحث في مصير الإنسان وتوتراته وعوالمه السحيقة.

تمضي فصول الرواية التي تجري أحداثها في عمّان، في أزمنة متداخلة، وأجواء تتشابك فيها العلاقات الإنسانية وقصص الحب والمصائر الغامضة، مع الأحداث السياسية والاجتماعية التي تفرض نفسها على المشهد الروائي وتدخل طرفاً فاعلاً فيه.

ومع تصاعد البناء الدرامي للحكاية، تتوالد القصص وتتعقد الأحداث لتميط اللثام عن تفاصيل صغيرة، كانت تتشكّل على مقربة من القارئ كتمهيد للحظة فارقة، تدفع بطل الرواية للانسحاب من الحياة، واللجوء لعزلة طوعية طويلة، يُخضع فيها نفسه وحياته لمحاكمات نفسية عميقة، ترهق ذاته المكبلة بالأسى، لتمسي العزلة ملاذاً، والألم مهرباً، ومواجهة الذات سبيلاً وحيداً للخلاص، ليدرك بطل الرواية في نهاية المطاف أن المسالك المختصرة لا تصل بنا عادة إلى الوجهة المنشودة، وأن ألاعيبنا، علاوة على عبثنا بأقدار الأخرين وتلاعبنا بها، لا يمكن له بأي حال من الأحوال أن تغيّر شيئاً من قدرنا نحن.

◄ السخرية وتوظيف العوالم الغامضة والأكاذيب الجميلة لا ينقصان من جدية الكتابة أو قدرتها على إحداث التأثير المنشود
 السخرية وتوظيف العوالم الغامضة والأكاذيب الجميلة لا ينقصان من جدية الكتابة أو قدرتها على إحداث التأثير المنشود

 

9