جمانة الطراونة لـ"العرب": في الأدب لا وجود لخطاب يميز بين رجل وامرأة

الشعر والمحاماة كل منهما يغذي الآخر فعندما أكتب القصيدة أستعين بفطنة المحامي وعندما أترافع أستعين بحنكة الشاعر وفصاحته.
الثلاثاء 2024/11/19
الخطاب الشعري إنساني يجتاز حاجز اللغة

ما يميز الشعر أنه مساحة مفتوحة على الفنون الأخرى بما يمثله من جوهر إنساني رؤيوي عند كل شاعر، وبالتالي ليس الشعر مجرد تجربة لغوية ولعب بالكلمات، إنه رؤية شعورية واعية للإنسان والحياة، وهو تبعا لذلك فعل يتجاوز كل الحدود حتى ولو كانت حدود اللغة التي يكتب بها. "العرب" تحاور الشاعرة الأردنية جمانة الطراونة التي تتبنى هذه الرؤية.

تعتبر الشاعرة والمحامية الأردنية جمانة الطراونة مثالا للتكامل بين الفنون الأدبية والمهنة القانونية، حيث تربط بين العواطف والمواقف الإنسانية والرؤى الدقيقة المحايدة. وقد لمع اسمها في سماء الشعر العربي بقوة في وقت قصير إذ استطاعت تثبيت قدميها بين شعراء جيلها.

نسأل الطراونة كيف توفق بين القانون والأدب؟ لتجيبنا بأنه “لا يمكن الفصل بأي حال من الأحوال بين العلوم الإنسانية أو الاجتماعية؛ فكل علم يحيل إلى الآخر ويفيض عليه”.

الشعر وعوالمه

تقول الشاعرة الأردنية في حديثها لـ”العرب”: “لم أشعر يوما بأن الشعر أخذني من المحاماة أو شغلني عنها بل غذّى كل منهما الآخر؛ فعندما أكتب القصيدة أستعين بفطنة المحامي وحذاقته في ربط الخيوط ببعضها البعض وتفكيكها أنّى احتجت إلى ذلك ومن ثم إعادة بنائها وتركيبها وعندما أترافع أستعين بحنكة الشاعر وفصاحته وتمكنه من اللغة التي تجعلني أسبك مرافعتي سبكا جيدا محكما، فالشعر والمحاماة صنوان والقواسم المشتركة بينهما لا تعد ولا تحصى، يلتقيان بقوة الحجة ووضوح الرأي وعدم الرضا بأنصاف الحلول.”

◄ ليس للشعر قواعد تحكمه على الإطلاق لأنه كائن لا يمكن تقييده ضمن أطر محددة أو قواعد معينة مسبقا
ليس للشعر قواعد تحكمه على الإطلاق لأنه كائن لا يمكن تقييده ضمن أطر محددة أو قواعد معينة مسبقا

وتضيف “لقد قلت بخصوص ذلك الأصل أنَّ الشعراء محامون فأساس العدل هو الميزان وأساس الشعر هو الميزان وأساس الصرف هو الميزان، وأنا كوني من أهل القانون يشغفني الميزان، ولأنَّ التأويل يقوم على الحجة والتخريج النحوي يقوم على الحجة ومجاز الشعر قرينته حجة وأنا بنت القانون أكثر مَنْ يعرف بالحجة قد كان البوح نوافذ فهمي للتشريع فسماعي للطرفين بغير حيادٍ يشبه في الشعر التصريع.”

ترجمت بعض قصائد الطراونة من ديوانها “قبضة من أثر المجاز” إلى اللغتين الإسبانية والإيطالية، تعلق الشاعرة “الخطاب الشعري هو خطاب إنساني، ولا بد أن يجتاز حاجز اللغة حتى يصل إلى الآخر، وكل شاعر يحلم بأن يصل نتاجه إلى المتلقي خارج إطار الحدود المكانية التي يعيش فيها، ويسعى لأن تصل رسالته في الحياة شعرا إلى جميع أنحاء العالم، وبالنسبة إلي ساهمت الصديقة الشاعرة المترجمة والدكتورة تغريد بو مرعي بترجمة نصوصي إلى أكثر من خمس لغات أجنبية ليس فقط الإيطالية والإسبانية.”

وتضيف “رغم إيماني المطلق بأنَّ الترجمة خيانة للنص وأنه سيصل إلى اللغة الأخرى وقد فقد ولو قليلاً من روح شاعره فإن ما يجعلني أطمئن إلى ما تقدمه الدكتورة تغريد هو أنَّها شاعرة أثق بذائقتها وبتمكنها من أصول الترجمة الشعرية وأنها لن تقدم النص مترجما ترجمة حرفية جافة، وأنَّها ستحاول أن تكتب نصا موازيا يحمل فكرة وروح النص المترجم، ولا أعتقد أن ترجمة الشعر إلى لغات متعددة هو الطريق إلى العالمية فالشعر كما ذكرت خطاب إنساني ومن هنا -أي ‘الإنسانية’- يكتسب عالميته، ويكفيني أن يهدي حبيب حبيبته قصيدة من قصائدي أو أن يستشهد متابع من متابعيني على مواقع التواصل الاجتماعي ولو ببيت شعر يعود إلي بأي أمر يخصه، هنا بالذات أشعر بأنني تجاوزت العالمية إلى الإنسانية.”

نسألها ما الذي ترفضه ويعتبر عاملا أساسيا في تحريك وجهتها الشعرية؟ فتجيبنا “أرفض كل ما يقيدني ويبقيني ضمن دائرة محددة، لا أحب أن أدور في فلك نفسي أو ضمن جغرافيا محددة، أحب أن أتحرك ضمن فضاءات مفتوحة يضمنها لي الشعر ولا يحققها إلاّ هو، أحب أن أغرد خارج السرب دائما خارج أطر الأدلجة، وكما قال الشاعر سعدي يوسف “أسير مع الجميع وخطوتي وحدي.“

نسألها ما الذي تريده من الشعر وهل يمكن إفشاء العلاقة السرية بينكما، والتي لا يعرف عنها القارئ شيئا؟ فتقول “أعجبني هذا السؤال بقدر ما أقلقني، والعمر بأكمله لا يكفي للإجابة ولو بالقدر اليسير لوصف ما نريده من الشعر، يقول هايدغر إن ‘الشعر مصدر للحكمة والفلسفة، وإنه يمكن أن يساعد الإنسان على فهم الحياة والوجود’. لا يوجد أقدر من الشعر على جعل الكون أكثر اتساعا، فبالشعر أدرك ما لا يدرك وأعي ما لا يوعى وأعقل ما لا يعقل، فما نريده من الشعر لا يمكن وصفه بعبارات محددة إنما نعيش ما نريده من الشعر. أما العلاقة السرّية بيني وبين الشعر فالشعر عموما مستودع أسرار الشعراء نلقي على كاهله خيباتنا وحسراتنا ونحمّله عبء همومنا فلا يقيل عثرات الشعراء إلا الشعر.”

◄ جمانة الطراونة ترفض رفضا باتا أن تلتصق الحداثة الشعرية بشكل معين أو بقالب محدد
جمانة الطراونة ترفض رفضا باتا أن تلتصق الحداثة الشعرية بشكل معين أو بقالب محدد

غالبا ما نقرأ توصيفات كثيرة عن الخطاب الشعري لدى المرأة، لكن الطراونة تشدد على أن الخطاب الشعري لا يتجزّأ، ولا يحيّد، ولا وجود لخطاب يميز بين رجل وامرأة، والشعر كعمل إبداعي لدى كلا الجنسين وليد المعاناة والحرمان والعوز والوحدة والحزن، وبالنتيجة يخرج الخطاب الشعري بحالته التي هي عليه كيف كان دون تأنيث أو تذكير، فنحن نعيش في عالم واحد وجميع القضايا المطروحة تخصنا جميعا ولا يعيش أحدنا بمعزل عن الآخر، فما يكتبه الرجل تكتبه المرأة وما يشعر به الرجل تشعر به المرأة والخلاصة خطاب شعري واحد يؤدي رسالته ومهمته المرجوة منه.

أما عن مفهومها للحداثة في الشعر وما هي معاييرها للقصيدة الحديثة، فهي ترفض رفضا باتا أن تلتصق الحداثة الشعرية بشكل معين أو بقالب محدد، فالشعر هو الشعر والقصيدة هي القصيدة سواء كانت عمودية أو تفعيلة أو قصيدة النثر. والحداثة من وجهة نظرها أن نخرج من الأطر القديمة، أي أن تحاكي القصيدة الواقع وتعالج القضايا الإنسانية التي تشغلنا، وأن تخرج بحلول لا أن تكون مجرد فضفضات نصفق لها في لحظتها ولا تؤدي مهمتها، الحداثة تعني التجديد بما يتماشى مع المتطلبات الإنسانية. ولا توجد للشعر قواعد تحكمه على الإطلاق لأن الشعر كائن لا يمكن تقييده ضمن أطر محددة أو قواعد معينة.

عالم الشاعرة جمانة الطراونة يموج في أحيان كثيرة في مساحة أدبية وفنية تلبس عدة أجناس أدبية في آن واحد، تقول الشاعرة “المحاماة مهنتي التي أعتد بها، والشعر موهبة أعتز بها، أما المسرح العامل المشترك بينهما فهو صوت الحق والمنصة التي تدافع عن الحقوق المسلوبة. الشعر الحاضنة الأولى للمسرح فالمسرح الابن الشرعي للشعر، صحيح أن هذه المساحات تختلف في بعض الاشتغالات لكن القواسم المشتركة بينها كثيرة وكل مجال منها ينفتح على الآخر.”

نسألها بمن تأتَّرت من الشعراء العرب والعالميين؟ لتجيبنا “فتحت عيني على مكتبة مليئة بكنوز التراث العربي ونهلت منها مما وقعت عليه يدي من كتب الشعر العربي القديم وخاصة شعر ما قبل الإسلام، وقد ساعدني على إثراء ذخيرتي اللغوية اطلاعي على كتب الفقه والسيرة النبوية لكن على وجه التحديد لم أتأثر بأي تجربة شعرية، كتبت الشعر بوحي الفطرة، كنت أكتبه لأطهّر روحي من شوائب الحياة فوجدت به الخلاص من كل ما كان يؤرقني.”

وتتابع “كما ذكرت في حوار سابق فإن ممارستي لمهنة المحاماة ومشاغل الحياة وتعلقي بالفروسية أخذت الكثير من وقتي على حساب الشعر، ولم أتفرغ للكتابة المتواصلة إلّا بعد جائحة كورونا، إذ منحتني تلك الفترة الوقت الكافي لأجمع ما كتبت سابقا ولتشذيب الكثير الكثير من أشعاري، اقتربت خلالها من المشهد الشعري من خلال مواقع التواصل الاجتماعي التي خدمتني كثيرا، فساعدتني بالاطلاع على تجارب الآخرين والاستفادة من النقاشات والمساحات الصوتية التي كنت مواظبة على حضورها ومنها مساحة الدكتورة شفيقة وعيل التي أخذت بيدي وسلطت الضوء على مواطن الجمال في قصائدي وكنت كلما عرضت عليها نصا من نصوصي كانت تبدي إعجابها وتثني على ما أكتب وتحثّني على كتابة المزيد، وهذا الأمر جعلني أطمئن لأنها كانت تنظر للقصيدة مرتين مرة بعين الناقدة والثانية بعين الشاعرة.”

◄ الحداثة الشعرية ليست شكلا بل أن يخرج الشعر من الأطر القديمة ويحاكي الواقع ويعالج القضايا الإنسانية التي تشغلنا
الحداثة الشعرية ليست شكلا بل أن يخرج الشعر من الأطر القديمة ويحاكي الواقع ويعالج القضايا الإنسانية التي تشغلنا

تجربة الكتابة

حفلات إشهار الكتب أصبحت موضة العصر، ولا تجد الطراونة ضيرا في إقامة مثل هذه الفعاليات، فهي من جانب احتفاء بالكاتب ومن جانب آخر تسويق للكتاب تساهم في نشره وتجعل الكاتب على مقربة من القرّاء، وتذكر أنها كانت لها تجربة واحدة في هذا المجال وهي إقامة حفل إشهار ديوان “قبضة من أثر المجاز” في معرض مسقط الدولي للكتاب، كانت تجربة فريدة جعلتها على مقربة من متابعيها الذين حضروا من ولايات بعيدة من أجل الحصول على ديوان موقع من قبلها، تقول “كنت سعيدة جدا بهذه التجربة وسعدت أكثر بمناقشتهم للمواضيع التي أتطرق إليها في شعري.”

تسألها “العرب” عن رأيها في مكانة المرأة العربية، وهل نالت حقوقها، أم أنها مازالت تعاني وينقصها الكثير؟ لتجيبنا “لدي تحفظ على هذا السؤال ولا أريد أن أتحدث عنه لأن تشعباته كثيرة ولن أستطيع أن أفيها حقها، خصوصا لأنني امرأة أولا وحقوقية ثانيا، ومروري سريعا عليه لا يرضيني أبدا.”

اليوم نعيش في عصر الإنترنت، نجول في مواقعها، أغلبهم أصبحوا شعراء، تقول الطراونة “أصبح العالم قرية صغيرة تعمل ضمن منظومة واحدة متكاملة، لذلك تتوجب علينا مواكبة التطورات، ومما لا شك فيه أن مواقع التواصل الاجتماعي تساهم مساهمة فاعلة في احتواء الكتابات الأدبية بشتى أنواعها وتساهم في انتشارها وإيصالها إلى المتلقي.”

وتضيف “على مستوى تجربتي الشخصية في ما يخص مواقع التواصل الاجتماعي أصبحت على مقربة من المتلقي الذي يترك تعليقه ويبدي رأيه باللحظة والتو وبذلك أتمكن من معرفة أصداء ما أقدّمه عن قرب، ولا يستطيع أحد أن ينكر صعوبة الوصول إلى الكتاب الورقي وصعوبة حمله والتنقل به وكلفة نقله من بلد إلى بلد، لذلك لا بد من مواكبة التطورات التكنولوجية واللجوء إلى البدائل التقنية الحديثة التي تقوم بدورها بنقل المنتج الأدبي إلى القارئ خصوصا وأن الجميع منا يمتلك هاتفه أو كمبيوتره الخاص به ويستطيع الرجوع إليه متى شاء وفي أي وقت.”

وعن رأيها في ظاهرة صناعة النجوم الأدبية، مع انتشار العديد من برامج المنافسة الشعرية على الفضائيات، تقر بأنه لا يستطيع أي برنامج مهما كان ومهما رصدت له من طاقات وميزانيات ضخمة وتنظيم صناعة نجم أدبي، من الممكن أن تسلط عليه الأضواء لحظة البرنامج أو المسابقة أيا كانت التسمية، لكن القول الفصل يعود إلى ذات الشاعر والرغبة في الاستمرارية والعطاء وتقديم الأفضل في كل مرة.

أما عن مشاريعها الأدبية مستقبلا فتقول “انتهيت قريبا من كتابة ديوان شعري بعنوان ‘خاتم الياقوت’، وسوف يطبع في الفجيرة بالإضافة إلى كتاب ‘تمثلات الحداثة وما بعدها في المسرح العماني’، وسيصدر عن الهيئة العربية للمسرح، ولدي مشروع أعمل عليه حاليا وهو رواية بعنوان ‘حوش الصوايح’.”

يذكر أن جمانة الطراونة محامية وناشطة حقوقية، شاعرة وأديبة أردنية، عضو الجمعية العُمانية للمسرح، وعضو الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء، صدر لها: سنابك البلاغة، قبضة من أثر المجاز، قصائد مشاغبة، عتاب الماء.

 

12