مزارع الزيتون في تونس: الأزمة أكثر تعقيدا من توقيف رجل أعمال

في ظل غياب رواية رسمية واضحة عما جرى في الشعال وأسباب التوقيفات التي طالت عناصر من بينها رجل أعمال تنشط التفسيرات والتأويلات التي تقوم على نظرية المؤامرة والإيغال في سيناريوهات عديدة.
الأربعاء 2024/11/13
رهان على القطاع الزراعي

زاد منسوب زيارات الرئيس التونسي قيس سعيد إلى مزارع الزياتين الحكومية، التي تسمى في تونس بـ“هناشير الدولة” وتشمل مساحات كبيرة من الزيتون تم استرجاعها من الفرنسيين بعد الاستقلال شأنها شأن العقارات الأخرى التي تركها معمرون (استعمروا الأرض وعمروها) فرنسيون.

يوجه قيس سعيد بهذه الزيارات، التي شملت أكبر المزارع مثل “الشعال” في محيط ولاية صفاقس، أو هنشير النفيضة التابع لولاية سوسة، رسائل واضحة منها أن الحرب على الفساد والاحتكار جادة ومستمرة ولا ترتبط بحملة انتخابية ولا بولاية رئاسية أولى أو ثانية.

ويؤكد الرئيس التونسي، كذلك، أن رهانه في المرحلة القادمة سيكون منصبا على القطاع الزراعي، الذي هو مفتاح رئيسي من مفاتيح التنمية وتحقيق الاكتفاء الذاتي. والأهم استمراره في تأكيد مسعاها لاستعادة ممتلكات الدولة وحقوقها التي سطا عليه الخواص من مواطنين ورجال أعمال في فترات سابقة خاصة بعد الثورة بعد أن تراجعت هيبة الدولة.

◄ الدولة ليست فقط خطابا من رئيس يكافح الفساد، هي شبكة معقدة من التوليفات يصعب إصلاحها بقرار، وإلا ما كان استمر الفساد إلى الآن، وما وجدنا معضلات مثل معضلة الشعال

لكن هناك مشكلة تعترض هذه الحملات، وهي أنها لم تخرج عن حملات كانت انطلقت قبل ثلاث سنوات ولا تزال تراوح مكانها من خلال زيارات قيس سعيد لمحليات ومدن ومؤسسات ومزارع صغيرة أو كبيرة ثم توجيهه اتهامات للوبيات أو دوائر فساد بالتخريب والإرباك متعهدا باستعادة حق الدولة ومحاسبة المتسببين.

ويتم بالتوازي توقيف بعض المتهمين بمستويات مختلفة من رجال أعمال ومسؤولين كبار أو مسؤولين محليين صغار وينتهي الأمر عند ذلك من دون أن يرى الناس دور الحكومة والوزارات والإدارات في الولايات والمحليات. الأغلبية من المسؤولين يتابعون المشهد كما لو أن التغيير مهمة قيس سعيد.

تركت السلبية الجماعية الأمور على حالها. وفيما يحارب قيس سعيد الفساد والاحتكار والمحسوبية واستضعاف الدولة ظل أغلب المسؤولين مطبعين مع هذه الظواهر إما من خلال مشاركة العاجز الذي لا يقدر على فعل أي شيء، أو من موقع الشريك المستفيد. وساهم هؤلاء المسؤولون في عرقلة الحرب على الفساد رغم أنهم يعلنون صباح مساء أنهم مع قيس سعيد وفي صفه، وإلا كيف يمكن تفسير استمرار مظاهر الفساد بهذا الحجم.

هل أن الولاة الذين تعاقبوا على ولاية صفاقس أو سوسة وغيرهما من الولايات لم يسمعوا ولم يروا ما يجري حولهم، أم أنهم لا يريدون الاصطدام مع دوائر الفساد حتى لا يثيروا المشاكل من حولهم ويضمنوا البقاء في مناصبهم لوقت أطول. مع العلم أن هناك مزارع أخرى تابعة للدولة في مناطق أخرى مثل الكاف وسليانة والقصرين وسيدي بوزيد قد يزورها قيس سعيد ويكتشف فيها ما قد يفوق ما وجده في الشعال أو النفيضة.

يفترض أن الرئيس حين يزور مؤسسة من المؤسسات الحكومية ويتحدث عن الفساد وضرورة مواجهته يكون قد أعطى إشارات انطلاق الحملة في كل مكان، وعلى المسؤولين أن يبادروا ولا ينتظروا حتى لا يبدو وكأن قيس سيعد هو من يريد أن يفعل ذلك بنفسه وكأنه يقوم بنشاط دعائي.

تحتاج الولاية الرئاسية الجديدة لقيس سعيد إلى خطاب جديد وأدوات تتجاوز التوصيف والزيارات، وهو أمر لا يقف عنده هو شخصيا، خاصة أن مهمته هي الإشارة إلى المشاكل ووضع اليد على الصعوبات وضبط التوجهات العامة، والبقية مهمة الحكومة والمجتمع المدني والسياسي والاجتماعي، ومهمة الإعلام التقليدي والجديد.

◄ الرئيس التونسي يؤكد أن رهانه في المرحلة القادمة سيكون منصبا على القطاع الزراعي، الذي هو مفتاح رئيسي من مفاتيح التنمية وتحقيق الاكتفاء الذاتي

من المهم ألا يقف نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين باتوا يشكلون الرأي العام مثل الرئيس نفسه أو أكثر من ذلك، وأن يلعبوا دورا إيجابيا يدفع إلى الأمام، ولا يكتفوا بالتثبيط والعرقلة والتيئيس من فرص التغيير، وهو المرض الذي ساد البلاد بعد ثورة 2011.

يمكن لأي كان معارضا أم داعما للرئيس أن يقوم بدور الكشاف بالنسبة إلى قضايا الفساد والتجاوزات التي تحصل في حق الدولة من خلال الإشارة إلى المشكلة ومكانها وترك الأمر للدولة ومؤسساتها لتقوم بالتقصي والتحقيق لمعرفة إن كان هناك فساد أم لا، من دون اللجوء إلى التشهير وتصفية الحساب بنشر أخبار مضللة أو تشويه الناس. ثمة خيط رفيع بين استقصاء الفساد وشبكاته والتأشير عليها وبين افتعال القصص لأغراض وأولها الشماتة وتصفية الحساب.

ومن المهم التحذير من خطر تصفية الحساب حين يخرج من دائرة الاستهداف الشخصي إلى استهداف فئات بعينها وخاصة موضة هذه الأيام، وهي استهداف رجال المال والأعمال واختلاق قصص للتشهير بهم وإيغار صدر الدولة ضدهم وجرهم إلى السجن والقضاء.

وفي ظل غياب رواية رسمية واضحة عما جرى في الشعال وأسباب التوقيفات، التي طالت عناصر من بينها رجل أعمال، تنشط التفسيرات والتأويلات التي تقوم على نظرية المؤامرة والإيغال في سيناريوهات لإظهار الموقوفين في موقع يضر بصورتهم وصورة عائلاتهم ومؤسساتهم.

تحتاج البلاد إلى الكثير من الهدوء في معالجة مثل هذه الأزمات. لو أخذنا موضوع الزيتون وهنشير الشعال كمثل، فإنه ليس من المنطقي أن تبادر الدولة، التي تظهر إلى الواجهة من جديد بعد غياب طويل تركت فيه الحرية الكاملة للخواص ليتولوا المهمة بدلا منها، إلى تحميل المسؤولية كلها لهؤلاء.

على الدولة أن تنظف بيتها من الداخل، وتفهم الأسباب التي خلقت هذا الوضع. ومن المعروف أن “المال السائب يعلّم السرقة”، كما يقول المثل التونسي، أي أن المال المتروك دون حرص من صاحبه ومراقبة فهو يشجع الناس على سرقته. وكذلك أمر المؤسسات الحكومية وبينها مزارع الزيتون.

◄ قيس سعيد يوجه بهذه الزيارات، التي شملت أكبر المزارع رسائل واضحة منها أن الحرب على الفساد والاحتكار جادة ومستمرة ولا ترتبط بحملة انتخابية ولا بولاية رئاسية أولى أو ثانية

لا بد من إعادة هيكلة “ديوان الزيت”، المؤسسة التي تدير القطاع، وفتح تحقيقات ضد من سهلوا أو تساهلوا مع السرقة، والأهم وضع آليات للرقابة تمنع العودة إلى هذا الوضع. لكن أن تذهب الدولة مباشرة إلى محاسبة الخواص ووضع البعض في السجن، فلن يحل المشكلة، وعلى العكس فقد يرسل إشارات عكسية تماما لرجال الأعمال المحليين والأجانب.

كان يمكن أن تظهر الحكومة وجها آخر وأن تعالج الأزمة بعقل الدولة البارد لا بعقل الخطاب السياسي والشعبي، الذي يضع الناس كلهم في سلة الأعداء والفاسدين وأن مكانهم السجون.

وإذا وجدت أن الشركة، التي مكنتها في سياق اتفاق بإدارة المزارع الحكومية، عاجزة أو مهملة أو متآمرة، فالمفروض أن تسلم المهمة لشركة أخرى وفق اتفاق بشروط واضحة ولمدد دقيقة ثم تراقبها وتقطع الطريق على أساليب التلاعب، وهي كثيرة، ونتاج عقود من البيروقراطية الفاسدة التي لم تجد من يقاومها. وفي نفس الوقت تحيل ملف الشركة المتخلية إلى القضاء ليتولى بنفسه التحقيق ويصل إلى النتائج التي في ضوئها يتم توقيف المعنيين بالفساد.

التوقيف بعد التحقيقات وليس العكس حتى لو كانت القضية واضحة والتهم ثابتة لأن ذلك قد يعطي إيحاء معاكسا ويدفع إلى تردد المستثمرين وعزوفهم عن التعامل مع الدولة. اللجوء إلى القضاء خطوة تبدد شكوك رجال الأعمال والمال والمستثمرين في مختلف القطاعات ويضمن حق الدولة ويضمن نزاهتها ومصداقيتها.

البعض ينادي بأن الدولة لا تحتاج إلى شركاء من القطاع الخاص، وهي بنفسها تشرف على جمع الزيتون وتبني معاصر خاصة بها وتفعّل شبكاتها لتصديره في الداخل والخارج. نظريا هذا الكلام ممكن، ولكن ليس الدولة الراهنة. الدولة ليست فقط خطابا من رئيس يكافح الفساد، هي شبكة معقدة من التوليفات يصعب إصلاحها بقرار، وإلا ما كان استمر الفساد إلى الآن، وما وجدنا معضلات مثل معضلة الشعال. الفساد منظومة يحتاج تغييرها إلى الكثير من الوقت. ولو أخذت على عاتقها المهمة الآن ليس ثمة ما يحول دون إعادة إنتاج نفس الأزمة لأنها أكبر من توقيف رجل أعمال أو موظفين في مؤسسة حكومية.

9