الدولة الوطنية ضرورة إقليمية

منطقة الشرق الأوسط في أشد الحاجة إلى استعادة مفهوم الدولة الوطنية، لتكون ركيزتها الأساسية في مستقبل الاستقرار والازدهار. كلما اشتدّت التحديات، تُفتح أبواب الفرص، خصوصاً حين تواجه عدة دول عربية مخاطر الميليشيات المسلحة التي تدعمها أجندات خارجية مزعزعة للأمن. في توقيت جيوسياسي صعب، المنطقة أمام مفترقين، الأول هو نموذج الدولة الوطنية التنموية التي تركز على تعزيز الاقتصاد وتنوعه، وبناء المؤسسات استعدادًا للمستقبل، بينما الثاني هو نموذج الميليشيات التي تغذي الصراعات لتحقق مكاسبها الخاصة، ولو كانت على حساب الدول والشعوب.
الدول الوطنية التي تمثل اليوم محور الاعتدال العربي، مثل الإمارات والسعودية ومصر، تسعى إلى تحقيق التنمية المستدامة، بعيداً عن الأيديولوجيات الدينية والسياسية التي تسببت في إشعال الحروب والنزاعات. تبنت هذه الدول رؤى تنموية طموحة. الإمارات بنت سياسة حديثة تترجم أهدافها للمستقبل، وتنطلق من رؤية “نحن الإمارات 2031” وصولاً إلى تحقيق “مئوية الإمارات 2071” ومبادئ الخمسين سنة المقبلة. السعودية كذلك تسير على نفس النهج من خلال “رؤية 2030”. هذه السياسات لا تبني مؤسسات الدول فحسب، بل توسع قاعدة الاقتصاد وتحسن حياة الشعوب، وتعزز من قدرة الدول الوطنية على مواجهة التحديات الإقليمية والدولية.
بينما تفتقر الدول التي تسيطر عليها الميليشيات أو تتأثر بها إلى مثل هذه الرؤى المستقبلية، ما يفسر أنها تعيش في حالة من الفوضى الأمنية والسياسية والجمود الاقتصادي. تستخدم الميليشيات القوة لفرض نفوذها على حساب الدولة الوطنية ومؤسساتها، مما يؤدي إلى شلل في الخدمات الحكومية، واستنزاف الموارد الاقتصادية، كما يجري في لبنان الذي يعاني من أزمة اقتصادية غير مسبوقة، بسبب سيطرة حزب الله على القرار السياسي والاقتصادي في البلاد، وسياسات الحزب التي تخدم مصالح داعميه في إيران على حساب مصالح الشعب اللبناني. وليس بعيدا ما تصنعه الميليشيات في شمال اليمن والعراق وسوريا من اتباع النهج الذي يستغل الفراغ السياسي، وفرض السيطرة عبر العنف والترهيب، لتتحول دول غنية بمواردها النفطية مثل العراق إلى بيئة غير مستقرة، بسبب نفوذ تلك الميليشيات.
◄ مع استمرار الصراع في غزة ولبنان، تتجلى أهمية استعادة الدولة الوطنية لبناء مؤسسات قوية بعيدة عن الأيديولوجيات المتطرفة، وبعيدة عن الأجندات الخارجية،
تاريخ المنطقة يظهر بجلاء أن الميليشيات المسلحة لم تقدم أي حلول لمشكلات الشرق الأوسط، بل على العكس تسببت في تفاقم الأزمات وتمددها وتوسعها. مشروع إيران في المنطقة يقوم على نشر الفوضى واستخدام أدواتها من الميليشيات لتحقيق مصالحها الإقليمية. ولو أنها نجحت في زرع شبكة من الوكلاء المحليين في لبنان والعراق واليمن وسوريا وغزة، لكنها فشلت في حل قضايا تلك الدول الأمنية، أو تقديم نموذج تنموي اقتصادي قادر على تلبية احتياجات شعوبها، لتحولها إلى ساحات للصراعات التي لا تنتهي، ما جعلها غير قادرة على النهوض. ولذا، الخلاف القائم بين الدول الوطنية والميليشيات المسلحة ليس مجرد صراع سياسي، بل صراع حول مستقبل المنطقة ككل. الاختلاف يكمن في جوهر توجهات الطرفين. فبينما تبحث الدول عن بناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة، تسعى الميليشيات إلى استغلال الفوضى لتحقيق غايات آنية.
التصعيد بين إسرائيل وإيران، وتداعيات حرب غزة ولبنان تعكس بوضوح الفجوة بين مشروع الدولة الوطنية ومشروع الميليشيات. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، تبينت أنانية حركة حماس التي غامرت بشعب غزة الأعزل، وكشفت عن عجزها في إدارة الصراع دون تحقيق نتائج ملموسة، غير الدمار والخراب للشعب الفلسطيني. بل امتدّت الحرب إلى جنوب لبنان، حين حاول حزب الله التصعيد مع إسرائيل في مغامرة أخرى على حساب سيادة وشعب لبنان، ليتبين مدى هشاشة الحزب الذي كان يعد نفسه قوة إقليمية مهيمنة، وليتلقى ضربات متتالية طالت قادته ومواقعه في انهيار سريع، يعكس فشل مشروع الميليشيات في تحقيق أي نوع من الاستقرار والتقدم.
ومع استمرار الصراع في غزة ولبنان، تتجلى أهمية استعادة الدولة الوطنية لبناء مؤسسات قوية بعيدة عن الأيديولوجيات المتطرفة، وبعيدة عن الأجندات الخارجية، وقادرة على حفظ أمن وكرامة شعوبها. ولذا، سيظل النموذج الوطني التنموي هو الخيار الأمثل لمستقبل أفضل للمنطقة قائم على الأمن والاستقرار، وليس على الحروب والصراعات التي تروج لها الميليشيات.