زيارة ترامب تكرس حقيقة واحدة: الخليج صانع للمستقبل

تحمل زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى منطقة الخليج دلالات مختلفة كليا عن زيارته الأولى في عام 2017. لم تعد العواصم الخليجية تنتظر المظلة الأمنية الأميركية، بل تستقبل ترامب اليوم وهي تمسك بزمام المبادرة، وتقدّم نفسها كصانعة للسلام، ومحرّك للاستثمار، وركيزة للاستقرار في نظام عالمي يمر بتحولات عميقة.
الفرق الجوهري اليوم أن الخليج لم يعد ساحة نفوذ تتنازعها القوى الكبرى، بل أصبح مركزا فاعلا في هندسة التوازنات، من الصين شرقا إلى روسيا وأوكرانيا شمالا، ومن مضيق هرمز حتى غزة. لقد غادرت دول الخليج، مرحلة الاعتماد الأحادي على واشنطن، وراكمت خلال السنوات الماضية أدوات قوة اقتصادية، تكنولوجية، وسياسية جعلت منها شريكا لا غنى عنه، لا تابعا.
ففي الوقت الذي تتخبط فيه القوى التقليدية في إدارة الحروب والملفات الشائكة، من فشل في حسم حرب غزة، إلى التردد الأميركي في حسم موقفه من طهران، ومن تعقيد الحرب الأوكرانية إلى تصاعد التوترات في البحر الأحمر، اختارت دول الخليج أن تستثمر في التهدئة لا التصعيد، وفي التنمية لا الاستنزاف.
ما يجعل زيارة ترامب اليوم مختلفة في أبعادها أن الرئيس الأميركي الذي لطالما رفع شعار “أميركا أولا”، يعود ليبحث عن استثمارات خليجية ضخمة، وتحالفات تضمن لبلاده موقعا في عالم يتجه نحو التعددية القطبية. والاستثمارات الخليجية المعلنة والمتوقعة في الاقتصاد الأميركي خلال العقد المقبل تعكس تحولا في منطق الشراكة، من الحماية العسكرية إلى صناعة المستقبل الاقتصادي والتكنولوجي.
◄ الخليج لم يعد فقط من يملك النفط، بل من يملك الرؤية... وزيارة ترامب، بكل ما تحمله من رسائل، تُكرّس حقيقة واحدة، الخليج اليوم ليس مجرد متلقٍ للسياسات، بل صانع للمستقبل
وفي نفس الوقت، الخليج لا يساوم على القيم من أجل المصالح. ففي ظل الصمت الدولي تجاه الحرب في غزة، تتمسك العواصم الخليجية بموقف متوازن يُصرّ على حل عادل وشامل، ويرفض ترحيل الفلسطينيين أو تحويل المأساة إلى فرصة للهندسة الجيوسياسية. دول الخليج تدرك أن أيّ ترتيب إقليمي جديد لا يمكن أن يُبنى على أنقاض حقوق الشعوب أو على حساب العدالة.
وفي مقابل اندفاع حكومة نتنياهو نحو سياسة الأرض المحروقة في غزة، يواصل الخليج مدّ يده للمبادرات الإنسانية والدبلوماسية، في إصرار على أن إعادة الإعمار، وخلق الأمل، وتنمية المجتمعات هي الطريق الوحيد لاستقرار طويل الأمد. ما يفسّر أيضا الموقف الخليجي المتوازن تجاه إيران، في واقعية لا تتجاهل التهديدات، لكنها لا تسعى لصدام، بل تعمل على بناء بيئة إقليمية آمنة تضمن النمو وتكبح الفوضى.
وأثبتت العواصم الخليجية في الملف الأوكراني قدرتها على لعب دور الوسيط، والتعامل مع كل الأطراف بنضج وواقعية. الإمارات، على سبيل المثال، شاركت في جهود تبادل الأسرى، وحافظت على تواصل دبلوماسي فاعل مع كييف وموسكو على حد سواء، ما عزز من مصداقيتها وموثوقيتها الدولية.
ونجح التوجه الخليجي في ملف اليمن في الدفع نحو التهدئة، بينما أعلنت واشنطن عن وقف ضرباتها ضد الحوثيين ضمن تفاهم غير معلن. وكل ذلك يعكس تبلور كتلة خليجية عقلانية، لا تندفع نحو الحرب، بل تسعى لتجنيب المنطقة المزيد من الدمار.
لم تعد المنطقة رهينة لمزاج العواصم الكبرى. بل يمكن القول اليوم إن من يريد صياغة نظام إقليمي جديد لا بد أن يمر عبر الخليج. لقد أصبحت دول مجلس التعاون طرفا لا يمكن تجاهله في الحسابات الكبرى، سواء أكانت تلك الحسابات نووية أم اقتصادية، أمنية أم إنسانية.
الخليج لم يعد فقط من يملك النفط، بل من يملك الرؤية، ومن يطرح الأسئلة الصعبة، ويقدّم الأجوبة العملية. وزيارة ترامب، بكل ما تحمله من رسائل، تُكرّس حقيقة واحدة، الخليج اليوم ليس مجرد متلقٍ للسياسات، بل صانع للمستقبل.