الرواية العراقية آلية للترميم الثقافي وتعويض الكينونة الغائبة

نصوص إبداعية تتفاعل مع البنية الثقافية والاجتماعية.
الثلاثاء 2024/10/08
"وشم الطائر" لدنيا ميخائيل تفاعلت مع الثقافة الإيزيدية

أي شكل اتخذته الرواية العراقية الحديثة؟ ذاك ما نتطلع للإجابة عنه عبر نماذج لأعمال روائية مهمة تتقاطع في مجملها حول الرغبة في الترميم الثقافي واتخاذ الأدب مساحة لاستعادة الكينونة الغائبة، عبر رموز ودلالات كلها مستقاة من الوقائع التاريخية التي عاشها العراق ومن بيئته الثقافية والاجتماعية.

إنَّ للرواية غاية معرفية إلى جانب ما توفره من متعة. وربما يتفوقُ فن الرواية على أشكال تعبيرية أخرى في نقل تضاريس فكرية وثقافية للمجتمع، هذا ناهيك عن أن الصراع بين الرؤى الحضارية لا يزال ثيمة محورية في الأعمال الروائية التي تتناول جذور الاختلاف بين المجتمعات ومقوماتها التاريخية. كما أنَّ التباحث للتعددية الثقافية في تركيبة الكيانات الاجتماعية صار ضمن تشكيلة المتون السردية، الأمر الذي لا يقتصر على إبانة طبيعة البيئات المرنة وتفوقها في إدارة التنوع الثقافي، بل أخذ القلق من تلاشي البنيات الثقافية المتعددة في إطار المجتمعات الواقعة على مرمى الغزوات الحضارية، والأفكار الإقصائية طريقه إلى مروحة العمل الروائي. ما يعني أنَّ السرد في هذا المنحى يلعبُ دورا صيانيا. ويكون آلية لترميم الهوية المعنوية.

بهذا يعولُ على السرد الروائي لتعويض الكينونة الغائبة في الواقع، لا شك أنَّ الحديث عن الثقافة يستدعي الإشارة إلى ما يعنى بهذا المصطلح فهو الشق الحضاري من المُجردات والصفات الإنسانية والقيم المعنوية التي تحمي الترابط الروحي والتاريخي في التكوينات الاجتماعية والتجمعات البشرية. وغني عن القول بأنَّ المكون الثقافي يتمظهر على المستوى الحضاري والجانب المادي في صيرورة المجتمع. إذن يوجد التشابك بين البعدين على صعيد الحياة المُعاشة.

كتب

ما يهدفُ إليه هذه الكلام هو رصد تمثلات التعددية الثقافية في الرواية العراقية. وما يجبُ التذكير به أنَّ الرواية تتسعُ للمستويات الثقافية المتباينة وتكشفُ وهم النظرة الأحادية في قراءة معطيات الواقع. وهذا ما يتأكدُ في صيغتها من خلال أشكال التعبير واللغة المُحملة بمؤثرات فكرية وبيئية. غير أنَّ ما هو قمين بالاهتمام هو خط آخر في محترف الرواية العراقية وذلك يتمثل في حفرها بتربة مُتراكمة على طبقات ثقافية مختلفة. والعامل الأساسي للالتفات صوب الاستقصاء عن الملامح الثقافية هو التصدي لظاهرة التداعي الهوياتي والتشرذم في الخطاب الفكري وتهالك المشاريع الرامية إلى تحديد أعراض الوعي المتهالك وآلية استجابته للتحديات الراهنة والمُستقبلية.

والانهمام بتأليف الروايات الباحثة عن أفق الإمكان قد صار ملمحا بارزا في الاشتغال الإبداعي بعد إدراك تبعات التأزم المجتمعي جراء تصاعد النفس الاستقطابي والتشظي الفكري، وبالطبع كل ذلك قد وضع الهوية الثقافية والحضارية على المحك ولم يعد هناك مجال للتستر على انهيار الثقة بمكونات الخصوصية وجدوى الانتماء. من هنا تمثلت أهمية الرواية في تقديم إمكانية وجود بنية التجاور مقابل إرادة الإلغاء، وتناول مفهوم التكامل مقابل الانقسام، ومناقشة التنوير مقابل التطرف والانسداد، والعودة إلى التاريخ مقابل الحاضر البائس. والملاحظ أنَّ التاريخ بجميع فصوله حاضر في الرواية العراقية من السحيق إلى القريب. معنى ذلك أنَّ حلقات استعادة التاريخ متعددة.

سميائية التاريخ

لا تتجلى وظيفة التاريخ في الروايات التي تنطلق من هموم المرحلة في الإسقاط على الحاضر فحسب أو الاستدلال بالمادة التاريخية على الركود الزمني والتدوير، بل يكتسبُ التاريخ طاقة سميائية حين يتواردُ في تضاعيف النص الروائي، وهذا ما ينطبق على رواية “بيت السودان” لمحمد حياوي، مع أنَّ ما يترشحُ من مضامين الرواية يفهمُ بأنَّ السرد يغطي مسافة زمنية قريبة لكن تستشفُ في النص خصوصيات الحضارة السومرية وذلك يتمثل بالصفات التي تسبغ على الشخصية الرئيسية. فالجميع كانوا يعشقون ياقوت ويخافون منها في الوقت نفسه وهذا يحيل إلى “إنانا” السومرية.

يستحضرُ الكاتبُ في تضاعيف السرد شخصيات أنثوية ذات بعد أسطوري مثل أنخيدوانا التي تعد مثالا لأدوار المرأة المتعددة في التاريخ، الشاعرة، ابنة الملك، الكاهنة، أضف إلى ذلك ما يوحي بوجود تناسخ للأرواح وتقاليد الكهنة السومريين في الملبس.

كتب

ولا يفوت القارئ إسناد السلطة في الرواية إلى الشخصيات النسائية كأنَّ “بيت السودان” صورة مستوحاة من الأساطير السومرية. وهذا الميل إلى بث الموروث الأسطوري في أعطاف النص الروائي تجدهُ في رواية “باب الطباشير” لأحمد سعداوي. لا يكتفي المؤلفُ بتضفير الأقوال المكتوبة باللغة السومرية أو ما يوهم بأنها نصوص مترجمة من اللغة المسمارية بل يجمع ما يُشَكِلُ خريطة العراق العقائدية والمذهبية، إذ يلوذ عمار بالأدعية الشيعية والسنية واللجوء إلى شعائر الأديان والملل الأخرى من المسيحية والصابئة والإيزيدية وغيرها، طلبا لشفاء أخيه، وفعلا يستعيدُ علي وعيه ويريدُ أن يتأكد مما شاهده في رحلته العجائبية.

وبدوره يفتحُ نزار عبدالستار قوسا على ثقافة الهامش عندما يتخذُ بلدة كرميلس في حدود قضاء الحمدانية في سهل نينوى مسرحا لروايته “يوليانا” إذ ما يتوسلُ من السردِ هو الكشف عن الثقافة المغمورة والميثولوجيات المطمورة، وكان تأليف هذا العمل الروائي متزامنا مع نكبة مدينة الموصل وما شُنَّ على أقلياتها من حملات التهجير والإبادة. ومن البديهيات التي لا تحتاج إلى التذكير أنَّ التوغل في جغرافية المكان محاولة لبناء الهوية السردية التي تختزنُ مكونات الذاكرة.

ويستعيدُ بطل رواية “النوم في حقل الكرز” لأزهر جرجيس مصدر ثقافته في بيئة المنشأ راجيا من ذلك تضييق الشرخ بينه وبين العشيقة النرويجية التي تُمثل الآخر المُختلف. ولا يمكن فهم موقع زهيرة الصافي الريادي في رواية “مشروع أوما” للطفية الدليمي وروحيتها المبادرة الشجاعة إلا بالاستناد إلى الخلفية المعرفية التي راكمتها الكاتبة بشأن الموروث الرافديني والرموز الأنثوية والثقافات البرية.

من هنا تقع في الرواية على فكرة الانبعاث الخصوبي وتسمية الأشياء التي تحملُ إيحاءات الرافدينية. كما تسربت نصوص من ملاحم وادي الرافدين إلى النص مضيفة إلى خطابه طاقة إيحائية عن قيمة الثورة الزراعية في التاريخ ومكانة المرأة على هذا الصعيد عبر اكتشافها لعملية الإنبات.

وتفاعلت رواية “وشم الطائر” لدنيا ميخائيل مع ما واجهه المكون الإيزيدي من التهديد الوجودي، إذ تمكنت الكاتبةُ من تطويع المعتقدات الشعبية والأعراف السائدة لدى أتباع الطائفة الإيزيدية في حياكة نصها الإبداعي. وتلمحُ في ذات السياق إلى هجمة هولاكو على بغداد مومئة إلى القصص القارة في ذاكرة المكان. وتتضافر البنية الميثولوجية مع لحمة الرواية، وذلك عن طريق تقنية التوازي بين ظاهرة خسوف القمر والتحولات التي تشهدها الحياة. إضافة إلى ما سبق، يتم التطرق في النص إلى الحروب التي توالت على المكان الأوسع -وهو العراق- والندوب التي خلفتها على النسيج الاجتماعي.

بناء على ما سلف ذكره يتضحُ أن الرواية العراقية هي مدونة للتشكيلات الثقافية وتكونُ الأولوية في برنامجها السردي لثقافة الهامش أو ما هو قيد الاندثار.

كتب

التقابل الزمني

يراهن النص الروائي على تقنية التقابل الزمني لتبيان وجه الاختلاف على مستوى الحراك الثقافي بين الماضي القريب والمرحلة الراهنة. واللافتُ أن الكفة في هذه المعادلة تُرجحُ باستمرار لصالح الماضي وهذا ما نراه في رواية “النبيذة” لإنعام كجه جي حيث تندمجُ معطيات التاريخ مع ما يمور به الحاضر من التطورات المتلاحقة في تجاويف نصها الإبداعي.

زيادة على ما سبق فإنَّ الشخصيات تكتسب بعدا رمزيا في فضاء الرواية. ترمزُ تاج الملوك إلى حقبة زمنية مفعمة بالأمل والعنفوان والطاقات الثقافية والفكرية الواعدة فيما تُمثل وديان الوجه الكارثي والانحلال القيمي في الأزمنة اللاحقة. ما يداهم المكانَ من التحولات وما يسودُ من الظواهر بالتزامن مع حركة التاريخ ونهاية فصلٍ منه وبداية صفحة جديدة من أفقه المفتوح، يندرج كل ذلك في سياق رواية “مقتل بائع الكتب” لمحمد سعيد رحيم؛ فالإشارات التي تتوارد في وثيقة “يوميات الخراب” التي تعودُ إلى محمود المرزوق تظهر التباين في الحس الثقافي والاهتمام الفكري والتبدل في المزاج والذائقة الفنية، والإحالة إلى كل عنوان في أوراق ” المرزوق” يكون الغرض منها الكشف عن روح العصر وديناميكيته الثقافية.

ونجحَ صاحب “استعادة ماركس” في تكثيف الزمن الثقافي من خلال الكتب التي تؤثثُ للمكون الفكري، هذا الجانب لا يغيبُ في رواية “بابا سارتر ” لعلي بدر، وما يهمُ مؤلف “لا تركض وراء الذئاب” هو إضاءة مستوى التلقي للأفكار في الوسط الثقافي العراقي، ويؤثر صياغة الرواية بأسلوب تهكمي لأنَّ ذلك يتسقُ مع الكسل العقلي للبطل الضد.

وما يفهمُ من توالي أحداث الرواية أنَّ النسق الثقافي لا يتغيرُ وتصعب زحزحته كلما كانت البيئة موبوءة بغريزة الاستهلاك الفكري والثقافي. وكل ما يتابعهُ القارئ من الجدال والتشدق بالملفوظات المنتزعة من سياقها ليس دليلا على حيوية فكرية بقدر ما يؤكد بؤس مفهوم الثقافة، وبالتالي فإنَّ ما يوهم بالتجدد والتنوع في الإطار الفكري مجرد مظاهر استعراضية للعقليات الموشومة بالوهم.

الرواية العراقية هي مدونة للتشكيلات الثقافية وتكون الأولوية في برنامجها لثقافة الهامش أو ما هو قيد الاندثار

مجمل ما يمكنُ قوله عن التعددية الثقافية وتجلياتها في الرواية العراقية أنَّ النصوص الإبداعية تتفاعل مع البنية الثقافية التي هي جزء من خصائص البنية الفوقية للمجتمع، لكن هذا لا يعني تبعية الثقافة باستمرار للبنيات الأخرى لأنَّ المبادرات التي يكون مصدرها إرادة ثقافية تعيد تشكيل الأنساق ولا تقف عند مستوى النقل.

ما يجدرُ بالذكر في هذا السياق أنَّ العودة إلى التاريخ وسيميائية الوقائع التاريخية بوصفها مظهرا للثقافة، وتقنية التقابل بين الأزمنة لمناقشة التعددية الثقافية تأخذ بقسط وافر من الرواية العراقية، لكن ما لا يتم التطرق إليه هو مآلات مفهوم التعدد الثقافي من خلال السرد الاستشرافي. هل مردُ ذلك أن جرح التاريخ أصبح الشغل الشاغل لجينات العقل المتأزم؟

12