حمزة نمرة بين الغناء للقضايا الإنسانية والتهرب من الحديث عنها

تنويع بين الأغاني الوطنية ونظيرتها الاجتماعية في أول لقاء له مع جمهور قرطاج.
الاثنين 2024/07/29
فنان ملتزم بمشروع موسيقي خاص

يمتلك الفنان المصري حمزة نمرة مشروعا موسيقيا مميزا، لكنه عرف أيضا بتصريحاته الجريئة التي عرضته للكثير من الانتقادات والتي كادت تعرقل مسيرته. لذلك غيّر إستراتيجيته الفنية حيث اختار أن يغني للقضايا والمواضيع الإنسانية والتهرب من الحديث عنها في لقاءات صحفية مفتوحة وغير معد لها مسبقا.

“الفن أداة أو سلاح سحري في يد الجماعة الإنسانية في صراعها للبقاء”، هذا المفهوم الذي يتبناه المفكر الألماني إرنست فيشر، وهو خير ما يمكن أن نصف به مسيرة الفنان المصري حمزة نمرة، وتحديدا بدايات شهرته الفنية عربيا التي تزامنت مع ثورة 2011، حين قرر أن يكون صوت آلاف الشباب المصري ومن ثمة العربي، ليتكلم بألسنتهم جميعا ويغني لهم عن الحرية والكرامة والأمل وكل مظاهر الإنسانية.

تعود مسيرة هذا الفنان الذي اعتلى لأول مرة خشبة مهرجان قرطاج الدولي في دورته الـ58، ليلة السبت، إلى العام 1999، حيث التحق بفريق “الحب والسلام” بقيادة الموسيقي نبيل البقلي، وأثرت تلك الفترة بشكل عميق في تكوين شخصيته الموسيقية والإنسانية، حيث تعلم فيها التأليف الموسيقي والتلحين، ثم توالت التجارب حيث ترك “الحب والسلام” ليقدم مجموعة موسيقية خاصة أطلق عليها اسم “نميرا” وقدم معها لمحة أولية عن مشروع موسيقي لم يكن قد نضج بعد، وكان آنذاك حمزة مغني الفريق وعازف الغيتار. واستمر هذا الفريق الموسيقي حتى عام 2004.

ثم جاء العام 2008، حيث أصدر نمرة ألبوما موسيقيا بعنوان “احلم معايا”، وفي ظل موجة الأغنيات العاطفية الخفيفة، جاء ألبوم حمزة ليكون واحدا من الألبومات الموسيقية الملتزمة بقضايا اجتماعية ونفسية تعزف على أوتار أحلام الشباب من جيله ورغبتهم في تغيير الأوضاع بعد العودة بنظرة عميقة إلى الماضي والطفولة الجميلة.

للمرة الثانية، يرفض نمرة حضور مؤتمر صحفي بتونس رغم أنه غنّى في قرطاج لأول مرة في مسيرته

وحين اندلعت ثورة 2011 وثار الشعب المصري على نظام الرئيس حسني مبارك، ضمن موجة ما عرف بالربيع العربي، كان نمرة أول المشاركين في التظاهرات، كشاب مصري حالم أولا، وكفنان رفع صوته عاليا مطالبا بحق الشعوب في اختيار مصيرها. في هذا العام، صدر له ألبوم “إنسان” الذي أحدث ضجة كبيرة، وسلط الأضواء على فنان شاب ومختلف يذكر اختلافه بمحمد منير حين تحدى الوسط الفني المتشابه حد التطابق ليقدم مشروعه الخاص ويقنع به الجمهور.

اختار الفنان من ألبومه أغنية بالعنوان ذاته للألبوم، هي “إنسان” التي صورها بتقنية الفيديو كليب مركزا على البسطاء والمزارعين والعملة المصريين ومختارا معان إنسانية عميقة. كما صارت أغنيته “احلم معايا” تميمة حظ للثائرين في وجه الاستبداد.

غنى حمزة نمرة ربما رغبة في التعبير، أو في إيصال رسائل إنسانية واجتماعية يؤمن بها، لكنه لم يتردد من التعبير عن رأيه والإدلاء بتصريحات تتعلق بالشأن العام. ومن تصريحاته القديمة قال في إحدى تغريداته القديمة “من ذاق طعم مصر التي في ميدان التحرير لن يستطيع أن يرضى عن مصر التي عصرنا على سيئاتها لمونة وبلعناها، لن يستطيع أن يرضى بالخوف والخنوع بعد ما ملأ رئتيه بالحرية والكرامة”. وكان الفنان من أول المعارضين لثورة 30 يونيو وإطاحة الجيش المصري بالرئيس الإخواني محمد مرسي.

كانت النتيجة أن منع حمزة نمرة من الغناء في مصر، وحظرت أغانيه من الإذاعة رغم أن رئيس الإذاعة المصرية آنذاك، عبدالرحمن رشاد، نفى المنع السياسي، موضحا أن الفنان غير معتمد في الإذاعة المصرية، وهو أحد شروط إذاعة أعمال المغنين. وهي حجة لم يصدقها جمهور الفنان.

إثر التضييقات، لم يختر نمرة الصمت، بل ظل ناقدا لكل الأحداث المثيرة للرأي العام واختار الهجرة نحو لندن، أين يعيش وينتج فنا، لكنه لم يكمل في النسق الفني ذاته حيث أحدث عليه بعض التغييرات فبعد أن كانت أغنياته أقرب إلى التغني بالوطنية والحرية والأمل والتحدي (مثل “فتح شبابيك عينيك”، “شد الحزام”، “يا مصري”، “ابن الوطن”، “بلدي يا بلدي”)، صارت أغانيه ذات طابع اجتماعي نفسي أكثر، حيث أصبحت تخوض إن صح التعبير في موضوعات أقرب إلى “التنمية البشرية/الذاتية” و”الردح” (السب) (مثل: “كله بيعدي”، “داري يا قلبي”، “الواد العبيط”، “فاضي شوية”، “رايق”، “معلش”).

حضور بارز
حضور بارز

نمرة مصر منذ سنوات على نفي انتمائه للإخوان، ويصنفه الكثير من النقاد والصحافيون في خانة مطربي “الحزن” و”النكد” حيث يصر على تقديم أغان بألحان وكلمات حزينة ينفر الكثيرون منها على غرار ألبومه ” مولود سنة 80″.

رغم ذلك، يعود نمرة من حين إلى آخر إلى الأغنية الملتزمة والوطنية، حيث ينبش في تراث الموسيقى العربية، ليعيد تصوير أغان وطنية وشعبية شهيرة صحبة فنانين من دول عديدة، وهي أغنيات يختارها بعناية لتتقارب مع مشروعه الموسيقي مثل “يا ظريف الطول” و”يا يمة في دقة عبابنا” و”يا ديرتي” و”يا المنفي”.

ظل حمزة نمرة بعيدا عن مصر حتى العام 2022، حين أعلن عن عودته للغناء في وطنه. ومنذ ذلك الحين تجنب الفنان الخوض في الشأن العام والسياسي، وأصبح يبدي تهربا واضحا من اللقاءات الصحافية المباشرة مع وسائل الإعلام.

وبعد أن كان فنانا “جريئا في تصريحاته”، صار يعبر عن بعض مواقفه بالغناء فقط، وللمرة الثانية على التوالي، يرفض الفنان المصري حضور مؤتمر صحفي بتونس، ورغم أنه غنّى في قرطاج لأول مرة في مسيرته، ورغم إبلاغ الصحفيين بالاستعداد لمؤتمر صحفي، عاد الفنان ليعتذر كما سبق وفعل ذلك في مهرجان الحمامات الدولي عام 2022، متعللا بوجوب سفره، ومكتفيا بلقاءات خاطفة مع وسائل الإعلام الشريكة للمهرجانات التي يشارك فيها والتي تطرح عليه عادة أسئلة تتجنب الخوض في مواضيع قد تحد من شهرته، أو توقد نيران المشاكل مجددا، وتكتفي بأن تناقشه في الحفل وأجوائه، في نوع من الدعاية غير المباشرة للمهرجانات.

فلماذا يتهرب حمزة نمرة من الحوارات الصحافية المباشرة مع الصحافة التونسية التي لا تجهز أسئلتها تحت الطلب وقد تحرجه بأسئلة عن انتماءاته وآرائه السياسية ومواقفه من الشأن العام وربما عن تغيير مواقفه وأيضا عن السر وراء عودته لإقامة حفلات في مصر؟ ولم لا عن سبب نسيانه اسم قرطاج، المهرجان الذي منحه فرصة اعتلاء خشبته التي صعدها أشهر الفنانين ويحلم بها آخرون؟

نمرة يصرّ منذ سنوات على نفي انتمائه للإخوان، ويصنفه الكثير من النقاد والصحافيون في خانة مطربي "الحزن" و"النكد"

يبدو أن نمرة الذي بدأ حفله بأغنية “رايق”، قد فهم فعلا المعادلة وأنه “مفيش للدنيا عدلة”، لذلك قرر الاكتفاء بالغناء فقط متجنبا أي فرصة قد تورطه في تصريحات تضر بمسيرته الفنية.

ووصف بيان المهرجان الفنان أنه روى “بموسيقاه المتشبعة بالفلكلور المصري والممزوجة بموسيقى الروك والبوب والجاز، حكايات من الواقع على إيقاعات موسيقية متنوّعة فغنى ‘رايق’…و’لعلّه خير’ و’رياح الحياة’ و’أنا الطيّب’ التي تروي قصة شباب يسعى إلى افتكاك حقوقه التي يعرف أنها ستنتزع منه إن لم يدافع عنها”.

وحتى في الفقرة التفاعلية التي اختار أن يعزف فيها أنغاما موسيقية على أن يبحث الجمهور عن الأغنية، اختار أغنيات غير بعيدة عن مشروعه الموسيقي، مثل “كتاب حياتي” لحسن الأسمر و”أنا مش عارفني” لعبدالباسط حمودة، تصب كلها في خانة الأغنية الاجتماعية، محاولا كسر حدة “النكد” بأغنيتي “على حسب وداد” لعبدالحليم و”لولاكي” للفنان علي حميدة.

كما غنى “ارضى علينا يا لميمة” وهي أغنية تونسية ذات ظرفية تاريخية وسياسية ترتبط بالفن الشعبي التونسي الذي كان محظورا من الانتشار إبان فترة استقلال تونس وحتى تسعينيات القرن الماضي، حيث حاصره النظام السياسي، ولم يتحرر إلا بثورة 2011، حيث صار التونسي يستمع إليه دون خوف أو ريبة من تنمر أو سخرية ووشاية.

والسؤال الذي يفرض نفسه، هو هل أن أي فنان في المنطقة العربية، مثل حمزة نمرة وفناني الأندرغراوند والأغنية الثائرة من أجل الحياة والإنسانية والقيم، لا يزالون اليوم – ورغم كل الانفتاح التكنولوجي – لا يمكنهم أن يحققوا نجاحا عربيا وضمانا للاستمرارية إلا إن ضمنوا رضا السلطة عنهم؟

15