الأفكار وحدها لا تصنع أدبا حقيقيا

سامر أنور الشمالي لـ"العرب": لن أتنازل عن حقي المشروع في حلم نقي.
الأربعاء 2024/07/24
يحزنني أن كتاباتي لم تخضع لدراسات نقدية جادة

كرست منابر الإعلام الثقافي والجوائز الأدبية جنس الرواية على حساب أجناس أدبية أخرى، ولم يمنع هذا التكريس الكثير من كتاب القصة القصيرة من مواصلة تجاربهم الصعبة، ومن بين هؤلاء الكاتب السوري سامر أنور الشمالي. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الكاتب حول رؤاه الأدبية والثقافية وتجربته الخاصة.

الأديب سامر أنور الشمالي مبدع سوري استطاع أن يحقق حضورا لافتا في سيرورة الأدب السوري المعاصر، ولكن هذا الإخلاص لم يمنعه من الكتابة في النقد والمسرح وأدب الأطفال، وفي كل هذه الأجناس يبدو الكاتب (الشمالي) مغرما بالمغامرة المفتوحة على شتى الاحتمالات إلا احتمال الاحتراف.

يرى الكاتب أن الاحتراف كما هو معروف يقترن بالعادة، والعادة تقترن بالمألوف والعادي، وهما يميتان هوى الكتابة ويقتلان الشغف ويحدان من حرية الإبداع التي تبدو كنهر متدفق في غابة عذراء. وفي كل ما كتب هناك دائما هامش لما هو مدهش وغير متوقع.

فن الرجل الصغير

القصة الناجحة هي التي لا يظهر فيها الكاتب بشكل مباشر حتى يستطيع المتلقي التواصل مع شخصيات القصة
القصة الناجحة هي التي لا يظهر فيها الكاتب بشكل مباشر حتى يستطيع المتلقي التواصل مع شخصيات القصة

برز الشمالي بصفته كاتب قصة قصيرة على الصعيد المحلي والعربي، حول كتاباته القصصية يقول لـ”العرب”: “لعل هذا الإجماع يعود إلى حرصي على ألا تتشابه قصصي مع قصص غيري من كتاب القصة، فكان الاختلاف الذي هو أولى درجات التميز، فأنا دائم البحث عن الأفكار الجديدة. وأعتقد أن أهمية أي أديب تنبع قبل كل شيء من تفرده في اختيار الأفكار التي يطرحها في كتاباته، ثم يأتي الأسلوب والمعالجة الفنية. مع التنويه إلى أن الأفكار وحدها لا تصنع أدبا حقيقيا، فيجب أن يكون هناك سرد متقن أيضا. ولا أغفل افتراض المتعة الروحية في عملية التلقي، فهي تهدي للنص تفرده عن الكتابات التي لا تنضوي تحت الراية الأدبية”.

نستشف من جوابه أن المضمون يتغلب على الشكل بعكس المدارس والمذاهب الأدبية السائدة منذ منتصف القرن الماضي تقريبا، يعلق الكاتب “أجل، إنني أرى أن الأفكار هي الركيزة لأي عمل إنساني لأنها الجوهر الذي يعطي للأفعال قيمتها. حيث يضعها في مسارها التاريخي، ويمنحها معناها في الحياة. أما الشكل فهو مكمل لا بد منه، وتابع له دور كبير في إتمام العملية الإبداعية، وضرورة لا غنى عنها”.

ويؤكد هنا جانبا مهما وهو أن عدم العناية الكافية بالشكل يسيء إلى الأفكار على الرغم من أهميتها. أما الدراسات التي تعنى بالشكل على حساب المضمون فهي عرض زائل حتما، والدليل أن التيارات الشكلية تتراجع الآن حيث لم تعد بالقوة التي انطلقت منها، ولا يبرئ الجهات التي تقف وراء هذه التيارات التي تريد أن تبعد المتلقي عن مشاكله الحقيقية، وتحيد الأدب عن دوره التنويري، وتجعل من الأدب تحفة تزيينية لا روح فيها.

تسأله “العرب” هل ما زالت القصة القصيرة فن الرجل الصغير كما سماها أحد النقاد العرب؟ ليجيبنا “أنت تشير إلى الناقد أحمد محمد عطية، وتحديدا إلى ما قدمه في كتابه ‘فن الرجل الصغير في القصة العربية القصيرة’. أرى أن القصة القصيرة منذ كانت وحتى الآن مؤهلة للكتابة عن الإنسان البسيط في شؤونه الصغيرة، كما هي صالحة أيضا للكتابة عن أهم القضايا البشرية وأخطرها، وتناول الشخصيات المعقدة والمركبة. القصة القصيرة تمتلك إمكانيات لا حصر لها لهذا السبب لا تستطيع النظريات النقدية على أهميتها تحجيمها وإغلاق باب التجريب فيها. فالقصة القصيرة تستقي حيويتها من البيئة التي تنمو فيها، إضافة إلى أنها نتاج ذاتي للكاتب الذي يعيش ضمن حيز جغرافي ومكاني، لهذا يتأثر بالمجتمع من حوله وبالأيديولوجيات السياسية أيضا”.

ويلاحظ في قصص الشمالي غياب عنصر المكان والبيئة المحلية، يقول عن ذلك “المكان في قصصي ليس حيزا من تراب، إنه مساحة من الأفكار الممتدة دون حدود أو أسوار تقف عندها. ولا أرى البيئة عبارة عن تسميات لأشياء قريبة مني، البيئة هي الإحساس والشعور بما يدور حولك. ربما إذا أعدتَ قراءة قصصي بهذا المفهوم قد تكتشف أنني مفرط في استحضار المكان والبيئة”.

ويتحدث الكاتب عن علاقته بشخوصه القصصية التي يشكلها على الورق معتبرا أنه لا يمكن فصل الشخصيات في القصة عن مؤلفها، فهي نتاج فكره وأحاسيسه ومشاعره، وهي الحامل لمقولاته الفكرية ولمعاناته. ولكن على مستوى الدراسات الأدبية يمكن إجراء هذا الفصل بحسب ما تقتضيه الإجراءات النقدية.

قراءة الرواية تتناسب مع مزاج أغلب القراء الذين يتأثرون بالإعلام الأدبي والثقافي الذي يروج للروايات فقط

ويضيف “في جميع الحالات على القاص احترام شخصياته كي يمنحها استقلاليتها التامة، فالقصة الناجحة هي التي لا يظهر فيها الكاتب بشكل مباشر حتى يستطيع المتلقي التواصل مع شخصيات القصة التي يقرأها دون أن تكون لديه معرفة يقينية بالكاتب الذي يختبئ خلف النص، لهذا أحاول قدر استطاعتي ألا أقسر شخصياتي على التحدث بلساني، وأعمل على أن تكون لكل شخصية عوالمها الخاصة التي أحرص على إبرازها بعيدا عن حضوري الشخصي، ولكن هذا لا يعني أن القصة كنتيجة لا تعبر عن موقفي من الحياة”.

مارس الشمالي كتابة القصة القصيرة للكبار وقصص الأطفال، يقول “للقصة القصيرة شروط عامة متفق عليها، وهذا لا يلغي الفروق بين قصص الكبار والصغار على أكثر من صعيد، فالخطاب الموجه للطفل له شروطه الفنية التي تبرز في الأفكار التي يجب أن تنسجم مع عالم الصغار واللغة الميسرة والأسلوب البسيط. ولكن هذا لا يعني أن نتوجه للأطفال بقصص سطحية. الكتابة للطفل تخصص قائم بحد ذاته، أي ليس بالضرورة أن من يكتب قصصا للكبار يستطيع الكتابة للصغار، والعكس صحيح أيضا. فلكل جنس خصوصية تميزه”.

أما حول رأيه بسوية الأدب المكتوب للأطفال في سوريا، فيقول “من المؤسف القول إن هناك استسهالا في الكتابة للأطفال، لاسيما في غياب النقد الأدبي المتابع لما يصدر من كتب موجهة لهم، لهذا نجد الصيغ التربوية الجاهزة مسبقا التي يغلب عليها الطابع الوعظي طاغية في قصص الأطفال، عكس ما هو مطلوب في هذا النوع الأدبي الذي يجب أن يكون ثريا وغنيا بالمتعة كي تنمو ذائقة الطفل وتستهويه القراءة. فما يميز السرد الأدبي عن سواه أن فن الإمتاع أحد شروطه، سواء كان النص موجها للمتلقي الصغير أم الكبير”.

ويتابع “لكن الرغبة في القراءة نادرة في مجتمعاتنا، فالكبير لم يتعلم القراءة الأدبية في طفولته، والصغير يكبر دون أن يتعود على القراءة في طفولته، إنها دائرة الجهل التي لم نخرج منها حتى الآن، فالقراءة لم تتحول إلى عادة يومية في مجتمعاتنا التي تجهل أهمية المعرفة في تطور الإنسان والمجتمع”.

الكتابة المتنوعة

عرف عنه إخلاصه للقصة القصيرة
عرف عنه إخلاصه للقصة القصيرة

إلى جانب تجربته المميزة في القص للشمالي تجربة مهمة في النقد الأدبي، حول دوافع اتجاهه إلى هذا الميدان الصعب يقول “توجهت إلى المواظبة على القراءة في النقد الأدبي قبل التفكير بالكتابة في مجال النقد الأدبي بسنوات، وذلك لشدة حرصي على امتلاك أدوات القص الجيد، وهذا ما منحي معرفة بأسرار القص وعوالمه، وزودني بخبرة نقدية مكنتني من اكتشاف محاسن ومثالب السرد القصصي الذي أتعامل معه، لهذا كان توجهي لكتابة النقد في مجال القصة القصيرة أمرا طبيعيا يتماشى مع مسيرتي الأدبية”.

كما يكتب النقد في مجالات أخرى أيضا، إذ كانت البداية مع نقد القصة القصيرة فقد بدأ قاصا. وتوسعت دائرة اهتماماته النقدية فكتب في نقد الرواية بعدما كتب الرواية. وكتب في نقد أدب الأطفال بعدما اشتغل في هذا النوع أيضا. ثم اتسعت دائرة العمل النقدي التي عمل ضمنها فلم تقتصر على الكتابة في الأجناس التي اشتغل فيها مبدعا، فرغم تعدد الأجناس الأدبية تلتقي في أنها منتج أدبي إنساني يستطيع الكاتب أن يلم بها في حال عمل بجدية على هذا الأمر.

شهرة الشمالي الأدبية كانت حصيلة كتاباته القصصية، لاسيما بعدما نال جوائز أدبية كبيرة في كتابة القصة القصيرة، يعلق الكاتب السوري “يسعدني هذا الأمر، وهذا يتناسب مع ميولي الشخصية، فالقصة القصيرة هي حبي الأول الذي لن أتخلى عنه. وسيرافقني حتى اللحظات الأخيرة من عمري. القصة القصيرة أشبه بلحظة البرق التي تكشف لك بطرفة عين ما قد يخفى عن العين لدهور. وهي زائر خفيف الظل يهديك أشياء في غاية الجمال. والقصة القصيرة حتى الآن لم تأخذ العناية التي تستحق، سواء على الصعيد النقدي أو على صعيد المتلقي”.

يكتب الشمالي الرواية ونقدها، تسأله “العرب” عن رأيه في الرواية العربية المعاصرة التي طغت على الأجناس الأدبية الأخرى، على صعيد الكتابة والنقد والقراءة اليوم، ليجيبنا “رواج الرواية هو الذي جعل الأدباء يتجهون إلى كتابتها رغم أن عددا كبيرا منهم يفتقر إلى امتلاك المهارة الكافية لكتابة نص روائي مقنع، وهذا ما جعل مستوى الرواية المعاصرة يشكو من الضعف، بل ويتراجع بالمقارنة مع كبار كتابها. وكأنني أرى أن الكثير من النقاد لا يلحظون مثالب الرواية التي تكتب في الوقت الراهن، أو لا يريدون التحدث عنها، ربما لأن أغلب الروايات تتشارك في هذا الأمر، وهم- أي النقاد- يريدون كتابة دراسات لطيفة لا تزعج أحدا ولا تسبب لهم العداوات، وهذا ما أسهم في الكف عن المطالبة بكتابة روايات جيدة تحرك الماء الراكد منذ سنوات”.

ويضيف “إذا جمعنا أشهر الروايات الصادرة في السنوات الأخيرة نجد تشابهها واتفاقها على الخطوط الرئيسية عامة، حتى بتنا لا نعرف اسم الروائي إلا إذا رأيناه على غلاف الرواية، فليس هناك بصمة خاصة وتميز فردي. أما الإقبال على قراءة الرواية فهو يتناسب مع مزاج أغلب القراء الذين يتأثرون بالإعلام الأدبي والثقافي الذي يروج للروايات فقط، ويغفل القصة القصيرة على سبيل المثال رغم أنها لا تقل عن الرواية أهمية، فمن منا لم يتأثر حتى على الصعيد الشخصي بقصص أنطون تشيخوف وزكريا تامر ويوسف إدريس، وقصص كتاب الرواية أيضا نجيب محفوظ وماركيز وعزيز نيسين، إضافة إلى أن القارئ فيما يبدو يفضل الاستسلام لنص واحد لأيام عدة، لاسيما أننا في المجتمعات العربية غير شغوفين بالقراءة المتعبة. كما لا نغفل الجوائز الأدبية التي تذهب في معظمها إلى الروايات والروائيين”.

نسأله عن رؤيته بصفته مبدعا وناقدا لأعماله الإبداعية، يقول “يحزنني أن كتاباتي لم تخضع لدراسات نقدية جادة، فالنقاد يتوجهون عادة إلى أصحاب السلطة في المؤسسات الأدبية والثقافية وأنا لست منهم، كذلك لا أنضوي تحت تيار سياسي يروج لكتاباتي، إضافة إلى أنني بعيد عن دوائر الشللية الرائجة في المشهد الأدبي المحلي، ولا أقطن في العاصمة حيث المؤسسات الأدبية والثقافية. أنا أكتب انطلاقا من مشروع أدبي شخصي بغض النظر عن الشهرة التي قد يمنحها النقاد وغيرهم، ولن أتنازل عن حقي المشروع في إطلاق حلم نقي غير ملوث برهانات محدودة”.

12