واحة الراهب لـ"العرب": خطابي الروائي مكمل لمشروعي السينمائي والفكري

كاتبة وفنانة سورية تجمع بين رواياتها وأفلامها لفضح اختلاط الجنون بالعقل.
الخميس 2024/07/04
أنا لست شخصياتي

بوعي حاد تجمع المبدعة السورية واحة الراهب بين عوالم الإخراج والتمثيل وكتابة السيناريو وكتابة الرواية والفن التشكيلي، في مزيج إبداعي فريد سمح لها بتكوين تجربة فنية مختلفة لها رسالتها ووعيها وتوجهاتها التي تنتصر للإنسان. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الفنانة والكاتبة حول كتابتها للرواية.

بدأ شغف الكاتبة والفنانة السورية واحة الراهب بالكتابة منذ الصغر إذ نشأت قارئة نهمة للكتب، وساهم المحيط الأسري الذي عاشت فيه بتنمية بذور الموهبة الكتابية في داخلها، فوالدها الراحل هلال الراهب كان روائيا ورساما وديبلوماسيا، وعمها الدكتور الراحل هاني الراهب روائي معروف نال العديد من الجوائز الأدبية، ودرست واحة في أكاديمية الفنون الجميلة بدمشق قبل أن تنتقل إلى باريس لدراسة السينما، وهناك أنجزت أول سيناريو في السنة الأولى لدراستها، وأتيح للسيناريو أن يُنتج كفيلم سينمائي بعنوان “منفى اختياري” نال الجائزة الفضية في مهرجان “قليبية” بتونس عام 1987.

بعد تخرجها وعودتها إلى سوريا عملت الراهب في المؤسسة العامة للسينما، ونشرت كتابين عن وزارة الثقافة بدمشق أحدهما بعنوان “صورة المرأة في السينما السورية” والثاني “سيناريو فيلم رؤى حالمة”، كما كتبت سيناريوهات لأفلام سينمائية وتلفزيونية ومشاريع مسلسلات كثيرة، لكن لم تكتب لها فرصة الخروج إلى النور.

العقل والجنون

بعد اضطرارها للخروج من سوريا بسبب ظروف الحرب كتبت روايتها الأولى “مذكرات روح منحوسة” وأتبعتها برواية “الجنون طليقا”، التي صدرت عام 2020 عن “دار هاشيت أنطوان” ببيروت، وتتخذ الرواية من مشفى للأمراض العقلية على أطراف دمشق مسرحا لها، حيث يتم تصوير فيلم سينمائي فيه، وترتكب أثناء التصوير جرائم تجعل من الكل يشكون بأنفسهم وببعضهم البعض، وتصبح هذه الجريمة الفردية مرآة تعكس صورة حقيقية للمجتمع في ظروف الحرب ليغدو الجنون شاملا وعاما.

بوكس

تتحدث واحة الراهب لـ”العرب” حول اختيارها “الجنون طليقا” عنوانا لروايتها ودلالات هذا العنوان ورمزيته، تقول “اخترت هذا العنوان لأن الجنون والعقل باتا في عالمنا المعاصر على حافة واحدة وعلى شفير الهاوية، واختلط الجنون والعقل اختلاطا وتداخلا بما ضيّع الفواصل الفارقة بينهما، حين تعم الجرائم لتصبح عامة، فيصبح حينها الجنون حقا طليقا”.

وتضيف “إن الجرائم الصغيرة عادة ترتكب بشكل فردي ولكن عندما تصبح جرائم عامة على مستوى شعب ووطن وتدمير مدن بأكملها تصبح جرائم جماعية كبرى تطال البشر الأبرياء. وتتحدث الرواية التي تقع في 200 صفحة من القطع المتوسط عن جرائم تتوالى على فريق يصور فيلما سينمائيا في مشفى للأمراض العقلية، وتكشف عمق الدواخل النفسية للجميع، ودوافع بعضهم لارتكاب تلك الجرائم، بحيث يختلط الجنون بالعقل. وتضمحل الفوارق وتزول بينهما في ظل إطباق حصار فُرض على جميع المقيمين وحتى الضيوف من فريق التصوير بسبب الحرب الدائرة حولهم منذ سنوات، ولم يعدْ بمقدورهم التحرك من هذه المنطقة – مشفى الأمراض العقلية – ويتفاقم الخوف من وجود القاتل طليقا مما يدفع الجميع للاشتباه ببعضهم البعض وحتى بأنفسهم، ويعجز المحقق عن الوصول إلى القاتل”.

نسألها بماذا تختلف “الجنون طليقا” عن عملها الروائي الأول “مذكرات روح منحوسة” على المستوى الفني والمضمون، لتجيبنا “لا يوجد اختلاف بين العملين من حيث جوهر الأفكار، وإنما من حيث الأسلوبية ومضمون الحكاية المختلفة تماما، فالرواية الأولى تشرح حالة الخوف من خلال بطلها الأساسي كنان تلك الحالة التي ينتجها الاستبداد، ومدى تأثيره على عطب أبناء المجتمع وإخصائهم وامحاء شخصيتهم جسديا ونفسيا وفكريا، وحتى على المستوى الوجودي فلا يعودوا يعرفون أنفسهم إن كانوا أحياء أم موتى. والأمراض النفسية التي تلم بكنان تجعله يحس بتناقض عبثي فيشعر نفسه في لحظة ما دودة مسحوقة، ويتملكه بالوقت ذاته إحساس طاغ بتضخم دماغه إلى حد تفوقي”. 

وتبين أنها في “مذكرات روح منحوسة” لجأت لاستخدام اللهجة العامية وعندما يحس كنان بأمراضه لا يعود متمكنا من السيطرة على لغته الفصحى، وهو يصوغ مذكراته هذه، فقلب اللغة من الفصحى إلى العامية مؤشر على تغير نفسي وانتكاسة لحالة البطل النفسية، كما أن تخيلاته هي انعكاس لحالته ولرواسب بيئته وتربيته، بينما تطغى على رواية “الجنون طليقا” اللغة الفصحى وتتناول العوالم النفسية لشرائح عدة من المجتمع، إن كانوا فريق تصوير في فيلم سينمائي أو نزلاء مشفى للأمراض العقلية، أو كانوا مدراء ومسؤولين يحكمون المشفى، ويكتشف القارئ في النهاية أن للجرائم الفردية جذورا جماعية هي المؤسس لها.

“في الحرب تضيع الهويّات. قد تُكتسب هويّة جديدة بقرار، وقد تُفرَض عليك هويّة لمجرّد خطأ. قد تكون امرأة محجّبة رازحة تحت سلطة زوجٍ ذكوري وجمعية دينية متشدّدة وأهلٍ غير متسامحين” هذا مما جاء في تقديم الراهب روايتها الجديدة “حاجز لكفن”، الصادرة عن دار “نوفل” بيروت.

حول فكرة الرواية تقول كاتبتها “كنت أبحث عن موضوع لكتابته كسيناريو لفيلم روائي قصير، لكن حين بدأت الفكرة تتبلور، وجدت نفسي أميل لكتابتها كرواية، مما جعلني أغوص في أعماق الشخصيات وأتبحر لغويا في عوالمها بشكل أغنى وبأريحية أكبر. وتطرح الرواية موضوع استباحة الديكتاتوريات لحياة الناس وتحويلهم إلى مجرد عبيد وأدوات لخدمتها ومصالحها، بحياتهم، وموتهم، وكل شؤون وجودهم. ما يجعل منهم مجرد أحياء أموات، يحملون كفنهم بكل خطوة يخطونها، فهي كفيلة بدفعهم للانتقال إلى الضفة الأخرى من البرزخ الفاصل بين الحياة والموت، والرواية تربط تاليا بين الظلم السياسي لهذه الديكتاتوريات، والظلم الاجتماعي، المعاملة الدونية للمرأة في أغلب مجتمعنا في ظل الاستبداد والفساد والاستغلال والتخلف والتفاوت الاجتماعي والنظرة الدونية للمرأة”.

وتتابع الكاتبة التي تعيش في القاهرة “موضوع الرواية الجديدة يختلف عن موضوعي روايتي السابقتين اللتين تختلفان بدورهما عن بعضهما البعض كموضوع وكأسلوب، فللتعبير اللغوي في ‘حاجز لكفن‘ حيز واضح كأسلوبية للتعبير عن الحالة والهواجس والتداعيات، أكثر مما هي تركيز على الموضوع وتسلسل الأحداث. وأكثر إبحارا في بواطن النفسية البشرية تعشق الغوص في أعماقها بمجازفة أكبر للجمع بين الخيال والواقع الذي طالما استهواني تحقيقه حتى في الأعمال التي أخرجها، واعتدت على دفع شخصياتي لخلق هذا الجمع كتعبير عن المفتقد في عالمي الواقعي أيضا، والذي يتم التعويض عنه عبر الخيال والغوص في العالم الداخلي وصراعاته وأحلامه”.

بوكس

وعن تناولها لثنائية القمع والاستبداد الممارس ضد المرأة من قبل المجتمع والسلطة الديكتاتورية في روايتها “حاجز لكفن”، تقر بأنه لاشك أن كل أبناء الوطن يتعرضون للاضطهاد وقمع الحريات وما يستتبع ذلك من تعذيب على كل الأصعدة. نفسية وجسدية، لكن المجتمع بقوانينه وتقاليده وأعرافه التي يصيغها الرجل، كلها مسخّرة لإتاحة المجال حتى للمضطهد منهم للتنفيس عن هذا الاضطهاد، عبر حرف معركته الحقيقية عن مضطهِدِهِ الحقيقي المستبد. بتقليبه ضد شريكته في الحياة. باتجاه اضطهاد زوجته أو أخته أو أمه أو ابنته، لذا تكون معاناة المرأة مزدوجة، من المجتمع ومن الرجل المسيطر على هذا المجتمع وعلى مصيرها وحقوقها وحياتها.

لهذا السبب تبقى المرأة، في رأيها، هي الأكثر تهميشا في المجتمع وحملا لعبء صراعاته وتناقضاته الغنية دراميا. وعالم المهمشين هو أكثر ما يستهويها الكتابة عنه، لكونه يحرض بداخلها أقصى الانفعالات التعاطفية، ويشكل أرضية خصبة لتنهل من عالم صراع التناقضات الإنسانية والطبقية المتنوعة فيه من بابها العريض.

الكتابة مشروع

في سياق قراءته لرواية “حاجز لكفن” رأى الناقد سلمان زين الدين أن واحة الراهب تفكك في هذه الرواية آليات القمع في الفضاءات المختلفة بدءا من البيت، مرورا بالمجتمع، وصولا إلى الدولة. وهي آلياتٌ كثيرا ما يتم فيها تبادل الأدوار، فالأوسط هو جلاّد الأدنى وضحية الأعلى، في متوالية قمعية، تسألها العرب عن رأيها في هذا الطرح وإلى أي حد يمكن اعتبار تجربة التعبير عن القمع بكل أشكاله في “حاجز لكفن” تعبيرا عن تجربتها الذاتية؟

تقول الراهب “لا يمكنني اعتبار ‘حاجز لكفن‘ تجربة شخصية تعكس حكايتي الذاتية، وكذلك كل رواياتي السابقة، كما في روايتي الأولى مثلا ‘مذكرات روح منحوسة‘، اعتبرها أحد النقاد وغيره من القراء سيرة ذاتية، رغم أن بطلها رجل وليس فتاة، وهي أبعد ما تكون عن ذلك. والرواية تاليا تعكس درجة عالية من صدق التعبير عن عالم شخصياتها وسبر أغوار أعماقهم بإحساس مماثل لمعاناتهم، وتمكنت من مشاركتهم به لكوني أتألم لألمهم وأعيش معهم معاناتهم كأنها معاناتي الشخصية، وهو ما أقوم به أيضا في أدواري الفنية متعددة المعاناة والمتناقضات كممثلة. وهو ما يدفع بعض النقاد خطأ للظن بأنها تجربة ذاتية”.

نتطرق في حوارنا مع واحة الراهب للحديث حول طبيعة علاقتها بشخوص وأبطال رواياتها، والخيط السري الذي يربطها بها، تقول “أبطال رواياتي هم من يستدعوني للتعبير عن عالمهم وهمومهم وأحلامهم وصراعاتهم، بل  كثيرا ما تطلق هذه الشخصيات نفسها على سجيتها بمعزل عني وعن أي تشابه أو تقاطعات بيني وبين تلك الشخصيات التي لا تشبهني لا من قريب ولا من بعيد، إن دوري هنا كدور المايسترو المحقق للهارموني بين آلات متعددة، لكنها تعزف فقرات لحن موسيقي واحد، أو كمحلل نفسي، يساعد على البوح بمكنونات أفئدتهم وما خفي من ذكرياتهم مهما غاصت في الأعماق ليتحرروا منها، دون أن يسمح لنفسه بالوصاية والتوجيه، إلا بحدود ما يساعد على تحريض الذاكرة وإنضاج الاستنتاجات في النهاية”.

نسألها أخيرا عن ملامح خطابها الروائي إلى جانب كونها مخرجة درامية وسينمائية شهيرة، وإلامَ تطمح على مستوى الرواية؟ فتقول “لطالما كان خطابي الروائي مكملا لمشروعي السينمائي والفكري عموما الذي بدأته بأفلامي السينمائية الطويلة والقصيرة كـ ‘رؤى حالمة‘ و‘هوى‘ و‘جداتنا‘ و‘قتل معلن‘، وكذلك التلفزيونية كمسلسل ‘بيت العيلة‘ و‘النقمة المزدوجة‘ وغيرها من المشاريع البصرية التي تتيح لي الالتفاف على الرقابة النصية عبر إيحاءات الصورة، للبوح بالكثير من المحظور من الكلمات والأقوال وتمت مصادرته وإعاقة استكماله كما استكمال أي مشروع سوري وطني حقيقي إلى أجل غير مسمى لأسباب عدة لا مجال لذكرها”.

12