فيكتور فرانكل أول من عالج مرض القرن: شعور الناس بخلو الحياة من المعنى

طبيب نفسي يروي في سيرته بعضا من أفكاره ومعاناته من النازيين.
الجمعة 2024/07/19
فرانكل قاد ثورة في علم النفس

كانت أمام علم النفس منذ ولادته تحديات كبرى في فهم النفس البشرية وتحليلها وتفكيك عناصرها قصد علاجها في الحالات المرضية، والتخفيف من آلامها، ولكن توجهات كثيرة في علم النفس التزمت بنوع من البرود العلمي، متناسية الجانب الروحي في الإنسان، وهذا ما تداركه بشكل مبهر الطبيب النمساوي فيكتور فرانكل.

يتبع العقل الجمعي ما يسود في الواقع من العقائد والأعراف لتفسير الظواهر الطبيعية أو الإنسانية، ويستكين إلى المفاهيم الشائعة لتحديد ما يباغت الفرد من المشاكل التي قد لا تكون أسبابها ماثلة للعيان. ويستمر الوضع على هذا المنوال إلى أن يتم الكشف عن حقيقة الأسيجة المانعة للانطلاقة الفكرية.

ومن الملاحظ أن التطور المادي قد لا يعقبه بالضرورة النضوج العقلاني. يقول الكاتب النمساوي سيتيفان زفايغ بهذا الصدد “لم يبدل اختراع التيارات الكهربائية عالية القوة شيئا من موقف النفس إزاء ما هو ملغز”، مذكرا بفالانتان زيليس الذي كسب ثقة حشود من الناس عندما أعلن بأنه يطيب المعاناة النفسية بالكهرباء. معنى ذلك أن سوء الاستغلال للمعطيات العلمية أمر متوقع. وليس من المستبعد تدوير الخرافة والخزعبلات بمسميات علمية.

قلب المعادلة

التطور المادي قد لا يعقبه بالضرورة النضوج العقلاني
التطور المادي قد لا يعقبه بالضرورة النضوج العقلاني

من المعلوم أن اصطدام الإنسان بما هو غامض يعيد به دائما إلى الإيمان بالخوارق متوسلا المواساة. ولا يخرج عن هذا العرف سوى رواد الفكر الذين يتحركون على أرضية جديدة، وهذا ما يؤلب عليهم العامة، لأن ظهور الأفكار الجديدة دونه التحديات الجسيمة، وهم على موعد مع المعارك المستميتة. الأمر الذي اختبره رائد مدرسة التحليل النفسي سيمغوند فرويد. فتصريحه بأن كل الأنشطة النفسية هي قبل كل شيء نتاج للاوعي قد غير جغرافية التفكير وأثار حفيظة زملائه في المهنة وغضب العقول التقليدية.

 ومما زاد من هول المفاجأة هو سؤاله الإنكاري: إذا كان اللاوعي ليس مصدرا للأخطاء والزلات فأي قوة تعوض الوعي في نشاطه؟ وبذلك أضاء ما أطلق عليه تسمية “العقل الباطن” في منجم النفسية البشرية، ومن نافلة القول بأن المريض هو مجرد متلق بالنسبة إلى الطب العضوي ويكون قيد وصايا المعالج في ما لا تناسب هذه الآلية مهمة الطب النفسي. لأن المنهج النفسي كما يقول ستيفان زفايغ في كتابه “سيمغوند فرويد العلاج بالروح” يدعو المريض إلى الالتزام بتجميع قواه النفسية وتكثيفها في شعاع من الإرادة.

مما لاشك فيه أن فرويد قلب المعادلة وسحب الستار عن الغرائز المكبوتة في اللاوعي مبرزا دورها في تشكيل الشخصية الإنسانية وبالطبع ما قدمه على هذا الصعيد ما يزال له الامتداد، ومن المؤكد أن الرحلة لا تنتهي مع فرويد بل تتوالى بعده المحاولات للتنقيب في جغرافية التكوين النفسي والإبانة عن حقيقة الأعراض المرضية وما يمكن أن يرشح من البحث لإيجاد آليات جديدة في هذا الحقل المتشعب.

ويبدو أن مدينة فيينا بخلفيتها التاريخية والمعرفية قد أصبحت حاضنة للمزيد من الفتوحات في مجال الطب النفسي، ففيكتور فرانكل الذي كانت ولادته ونشأته من عاصمة النمسا قد نهل من أدبيات أسلافه قبل أن يعطف بدفة هذا العلم نحو منطقة جديدة، ومما يرويه في سيرته الذاتية “سؤال الحياة” بأنه قد ولد في المنزل الواقع في شارع تشيرنيجاسه رقم 6 وسمع من والده بأن الدكتور ألفريد أدلر مؤسس علم النفس الفردي كان مقيما في المنزل رقم 7 مقابل منزلهم، وكان مكان إقامة الموسيقار يوهان شتراوس الذي لحن النشيد الوطني للنمسا يقع في المنطقة نفسها.

لا ينكر أن البيئة بتضاريسها الثقافية والطبيعية تلقي بظلالها على رؤية المرء واستعداداته الذهنية فكان صاحب “صرخة من أجل المعنى” لم يزلْ في الثالثة عشرة من عمره عندما فاجأ أهله بأنه يريد أن يصبح طبيبا. واستبشر والده بما عزم عليه الابن. يشير فيتكور في سياق مرويته السيرية إلى أن البحث العلمي قد شد اهتمامه منذ يفاعته، وطاب له المضي في افتراضاته بشأن اختراع الأدوية.

يتذكر الراوي اللحظة التي داهمته فيها الفكرة بأنه سيموت لا محالة في يوم من الأيام. مؤكدا بأن هذه الحقيقة لم تؤرقه أبدا بل قادته إلى مسألة وجودية وهي إذا كانت محدودية الحياة تنزع منها المعنى وترمي بالإنسان في عالم أجوف؟ والجواب الذي ينجح في الوصول إليه لاحقا أن الموت هو ما يسبغ على الحياة معناها في المرتبة الأولى. ولا ينقلب المعنى عبثا بمجرد أن تقفل الحلقة، لأن الماضي لا يضيع ضياعا أبديا لا سبيل إلى استرجاعه. كل ما فعله الإنسان وما كسبته الأيدي لا يدركه الفناء.

قد يصعب التسليم بهذا الرأي لاسيما إذا كان قائله معروفا بخوضه في التجارب العلمية، فهو مطالب بكشف أوراقه المنطقية على ما يذهب إليه. وأيا يكن الأمر فإن الكائن الإنساني بغض النظر عن خلفيته وطبيعة نشأته وتشكيلة معتقداته لا يستغني عن المواساة. والتعويض عن هشاشة الحياة بنشدان الأبدية.

عاصر فيكتور فرانكل حربين عظميين فقد حال اندلاع الحرب العالمية الأولى دون تحقيق رغبته في الانضمام إلى فريق الكشافة، كما لم يتمكن من اقتناء دراجة هوائية نتيجة الظروف المتفاقمة، وبذلك حرم من مباهج مرحلة الصبا. غير أن تفوقه على أقرانه في المصارعة أضاف شيئا من لذة الفوز إلى الأجواء الخانقة، لذلك يستعيد هذا الحدث من أيامه المطوية محتفيا به.

فرانكل أراد التصدي للأخطاء التي كانت ترتكبها تيارات العلاج النفسي بسلب المرء خصوصيته وإنسانيته

من الواضح أن التنقيب عن الجذور يحظى بالاهتمام في النصوص السيرية ويفرد فرانكل الجزء الأول من ترجمته الذاتية للحديث عن شجرة العائلة فنسب أمه يمتد إلى بيئة مطبوعة بالتدين نشأ فيها فقهاء من الديانة اليهودية. الصفات التي ينسبها المؤلف إلى أمه تؤكد بأنها كانت شخصية طيبة النفس ورعة القلب وعلى نقيض من ذلك كانت شخصية الأب إسبرطية صارمة، فبالتالي صار الابن فرانكل توليفة من خصائص شخصية والديه.

وقد أجرى عليه أحد أصدقائه اختبارا فوجد هوة واسعة بين عقلانية متطرفة من جهة وعاطفية مسرفة من جهة أخرى في تركيبة شخصيته. ويفهم مما يسرده فيكتور فرانكل بأن والده كان متمسكا بالقيم الدينية. فكان يرفض تلبية أوامر رؤسائه بالوزارة في الأعياد اليهودية.

يستلهم الابن من أسرته مبادئ حياتية وأمثولات روحية بعدما أن يلفظ الوالد أنفاسه الأخيرة في معسكر تيريزينشتات يتوسل الابن بأمه أينما وجدها، كان يقبل يدها واجدا في ذلك ضمانا للافتراق على خير. فإذا كانت الحرب قابلة لفلسفة العبث والعدمية في الغرب فإن فرانكل قد تحصن بخلفيته الدينية بوجه التيار السوداوي حافرا عن المعنى في تجربته القاسية بمعسكرات الاعتقال.

يشير مؤسس مدرسة العلاج بالمعنى إلى أنه كان متدينا ورعا في مرحلة الطفولة وما يلبث أن ينكر الأديان عندما يكون بطور البلوغ. قبل أن ينتقل إلى تناول مفهوم اللوجوثيرابي “العلاج بالمعنى” وانخراطه الفعلي في هذا المعترك يقدم لمحات عن مفاتيح شخصيته ورؤيته للمعطيات العاطفية والعقلية هذا إضافة إلى هواياته وما تعني له روح الدعابة محددا دور هذه الأبعاد على الأمزجة النفسية.

 ومن الأمور المفضلة بالنسبة إلى فرانكل عدا مجال اختصاصه هو تسلق المرتفعات ولعب الروليت وجرح المخ. فبرأيه إن الطريق إلى اكتشاف طباع الإنسان وشخصيته يبدأ من معرفته هواياته. وما يجدر بالتنويه هنا أن فيكتور فرانكل قد تعلم جراحة المخ من بطون الكتب. فقد منعه البروفيسور شونباور بأن يتابع العمليات الجراحية التي كان يجرها. هو أو طاقمه الطبي لكن يكسب فيكتور نبوغه في إجراء العمليات الجراحية إعجاب الجميع.

التيار الثالث

كان مصدر معارفه الأولى في حقل الطب النفسي من خلال تلميذين نابغين من تلامذة فرويد هما إدوراد هيتشمان وباول شيلدر. أكثر من ذلك فقد راسل فرانكل صاحب “تفسير الأحلام”، فالأخير قد رشّح ورقته البحثية حول نشوء إيماءات التأكيد والنفي للنشر في المجلة الدولية للتحليل النفسي. لم يكتمْ فرانكل معارضته لآراء فرويد، لكن مع ذلك قد أبدى له مظاهر الاحترام والتوقير. ولا يمضي كثير من الوقت حتى يدرك فرانكل بأن جلباب أستاذه أدلر لا يتسع لأفكاره وأعلن إعجابه بأفكار الدكتور شارتس الذي كان خصما لعراب منهج علم النفس الفردي.

 وبدلا من الشعور بالامتعاض فقد رحب فرانكل بخروجه من جمعية علم النفس الفردية. يذكر أن التفصيل الوارد بشأن التجاذبات والتباين في الرؤية لوظيفة الطب النفسي قد يكون صادما وغير متوقع بأن يبلغ الصراع إلى حدود القطيعة الكلامية بين أصحاب المهنة. ما يدينه فرانكل في النزعة النفسانية التي تنكر دور الجانب الروحي والفكري في الطبيعة البشرية هو الظاهرة الاختزالية الممتدة إلى علم الاجتماع والدراسات البيولوجية.

الكائن الإنساني بغض النظر عن خلفيته وطبيعة نشأته وتشكيلة معتقداته لا يستغني عن المواساة والتعويض عن هشاشه الحياة

يرى المؤلف في ذلك أعراضا لعدمية العصر والسقوط بخصوصية الفرد من علياء الإنسانية إلى الدرك الأسفل. بالتوازي مع مجال تخصصه كان فرانكل منكبا على الاهتمام بالفلسفة، فقد شارك بمحاضراته في نشاطات مركز تعليم الكبار الذي كان ينظم حلقة عمل فلسفية تحت إشراف الفيلسوف والمؤرخ النمساوي إدجار زيلسيل. إذ يشدد في مداخلاته على أن الجواب على سؤال الحياة منوط بالإنسان، وتكمن القدرة للإجابة على السؤال في تحمل المسؤولية الملقاة على كاهل الفرد وعدم التهرب من فرصته الوجودية.

يذكر فرانكل مفهوم المعنى الأسمى الذي لا مناص من الإيمان بوجوده وإن كان يقع فوق مدار المدارك البشرية. وما يلخصه في هذا الصدد بأن كل ما يحدث ينطوي بوجه من أوجهه على المعنى النهائي يتقاطع مع المبدأ الرواقي وما طالب به نيتشه بضرورة حب القدر.

أراد فرانكل التصدي للأخطاء التي كانت ترتكبها تيارات العلاج النفسي بسلب المرء من خصوصيته وتجريده من إنسانيته، وما يسجل له هو نجاحه في تطوير تقنية القصد العكسي وتقنية القاسم المشترك. والمراد بالتقنية الأولى يكون بالذهاب إلى ما يثير قلقك أو مشاعرك المضطربة، فمثلا إذا كان لديك رهاب المرتفعات فما عليك إلا أن تتسلق الجبل، أما تقنية القاسم المشترك فتتمثل مفاعيلها في الموازنة بين الأشياء والمهمات التي تداهم تفكيرك متزامنة. والأهم في خطه المهني هو العلاج بالمعنى الذي ينهض على عمل يمكن أن يؤديه الإنسان أو عمل ينجزه أو تجربة حياتية يختبرها كتجربة لقاء أو حب.

والعامل الذي حدا بفرانكل لإعلان هذا التيار المختلف بمنهجه وآلياته عن التيارات التي بسطت مفرداتها في حقل علم النفس يتجلى في إشفاقه على ضحايا النزعة التشاؤمية الكلبية الضاربة بجذورها في حقل العلاج النفسي. فبنظر توريللو تمكن فيكتور فرانكل من معالجة مرض القرن أي شعور الناس بخلو الحياة من المعنى.

وما يقوله فرانكل عن قيمة المعنى بالنسبة إلى الفرد يحيل إلى ما لمح إليه نيتشه بأن الإنسان يؤثر إيجاد عدم عظيم على ألا يريد شيئا مطلقا. عليه يستشف المتابع في آراء فرانكل طيف القيم الدينية وهذا ليس مستغربا لأن ما خلفه غياب الدين ليس إلا خواء روحي. يقول فريدريش هاينريش ياكوبي إن الإنسان في زمن الحداثة قد اختار العدم آملا أن يصير نفسه إلها ويكون مركز جاذبية المعنى لكنه يبدو بأنه قد فشل في القيام بهذا الدور.

والكلام عن المعنى يعيد إلى الذهن ما دار بين سيمون فايل وسيمون ديبفوار فالأولى قد أكدت على أن لا شيء يهم باستثناء الثورة التي تطعم الفقراء في ما علقت صاحبة “دماء الآخرين” بأن علينا أيضا الاهتمام بالمعنى الذي تنطوي عليه حياتنا، فأتى رد فايل قاسيا قائلة “من الواضح أنك لم تعاني من الجوع”. على أي الحال فإن فرانكل إلى جانب ما راكمه من الخبرات بعمله في المصحات ومتابعته للمصابين فقد حقق اكتشافات على مستوى أعمق وهو قيد معسكرات الاعتقال والغيتوهات.

أخيرا وأنت تقرأ ما يرويه الكاتب من معاناة قاسية قد عاشها اليهود إبان الحرب العالمية الثانية يراودك السؤال ماذا يكون موقف فرانكل لو شاهد ما يمارسه أبناء جلدته من العنف والتهجير والتدمير والإبادة بحق الفلسطينيين؟

13