تونس بلا وزير للثقافة.. إلى متى

واقع الثقافة في تونس صعب في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، لكن الواقع الاقتصادي ليس وحده المتسبب في تراجع الفعل الثقافي في قيمته وتأثيره، بل النظرة الدونية إلى الثقافة هي من أهم الأسباب التي تعطل كل تحرر وابتكار في هذا المجال الحيوي، وفيما يلي رصد لبعض ملامح الواقع الثقافي وفتح سبيل للنقاش العام حول طرق إنقاذ القطاع.
منذ الثاني عشر من مارس الماضي أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد إقالة وزيرة الثقافة، ولكن هذه الخطوة لم يلحقها تقييم لعملها وعمل فريقها على رأس الوزارة التي عرفت تخبطا كبيرا في إدارة الشأن الثقافي.
قرابة الأربعة أشهر وتونس من غير وزير أو وزيرة للثقافة، ما انجر عنه العمل وفق عقلية تسيير الأعمال وغياب المبادرات والمشروع الثقافي الذي نادت به كل النخب التونسية.
تصورات قاصرة
علينا تغيير نظرتنا إلى الفعل الثقافي برمته وإخراجه من حيز الأدب والفن والمهرجانات وفتحه على مساحات أخرى
يدل بقاء الوزارة بلا مسيّر ولا رؤية مستقبلية على التهميش الكبير الذي يعرفه قطاع الثقافة، والتعامل معه على أنه ثانوي أو بلا جدوى، مجرد ترفيه قد لا يكون مطلوبا في زمن الأزمات، وهذا خطأ كبير يفصل ما هو ثقافي عن السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحضاري حتى، إذ بلا ثقافة لا يقوم العمران ولا الحضارة.
بداية لفتت انتباهي التصورات القاصرة التي تحملها الدولة التونسية شأنها شأن دول عربية كثيرة، لماهية الثقافة، دون انتباه حتى لما قاله العلامة التونسي ابن خلدون من أن الثقافة هي “آداب الناس في أحوالهم في المعاش كالعمران والصنائع والفنون والدراية في مجالات الحياة اليومية، في حين تتشكل آداب الناس بالتعليم والاكتساب وإعمال الفكر”. تخيل أن ابن خلدون قبل سبع مئة عام يقدم تعريفا متجاوزا رؤانا للثقافة اليوم، ويتصور الثقافة صناعة متكاملة بينما تغيب عنا اليوم مسألة أهمية الصناعة الثقافية.
الثقافة ليست الأدب والندوات التي تتوسطها استراحة حلويات، والأمسيات الشعرية التي لا يحضرها جمهور، والحفلات الصيفية، والتظاهرات المرتجلة هنا وهناك، وهلم جرا من تصور يقرن الثقافة فقط بالترفيه، رغم ما لها من دور ترفيهي، كما يقرنها خطأ بمناسباتيات مرتجلة تقودها الشلل الأدبية والفنية لمجاملة بعضها البعض والأخذ من المال العام ما يرسخ مكانتها الخاصة.
تصورات الدولة التي تعممت على المجتمع للثقافة تحصرها في الهامش ولا تتخيل مطلقا علاقة للثقافة بالتكنولوجيا أو العلوم أو المطبخ أو السياحة أو التاريخ أو العمارة والهندسة أو الأمن القومي أو الاستثمار والتنمية أو الرياضة، وغيرها من مجالات هي في عمقها في صلب الفعل الثقافي. نحتاج فعلا أن نغير من نظرتنا إلى الفعل الثقافي برمته، وإخراجه من حيز الأدب والفن والمهرجانات، على أهميتها الكبرى، وفتحه على مساحات أخرى.
أستشهد هنا بزيارة تاريخية للحائز على جائزة نوبل في الكيمياء العالم منجي الباوندي ذو الأصول التونسية، والذي قدم عددا من المحاضرات في مدرسة المهندسين ومدينة العلوم وغيرها، لكن هذه الزيارة مرت على أهل الثقافة ومتابعيها مرورا صامتا وبلا أثر. قد يتساءل أحدهم وما علاقة الثقافة بالكيمياء؟ والإجابة بسؤال: أليست الثقافة كيمياء المجتمع التي ينتجها لتشد نسيجه وتنتجه بدورها؟
أستشهد أيضا بمسألة أخرى غريبة، بل غاية في الغرابة، وهي العجز عن إعادة افتتاح متحف قرطاج، الحضارة العريقة التي يطمح جل زائري تونس لاكتشافها. وكأن الأمر عادي للغاية أن يسير ترميم المتحف ببطء مدهش.
كما أن دعم الفنون على غرار السينما والمسرح والتشكيل وحتى إنتاج الأدب وغيرها يتطلب إعادة نظر لضمان استمرارية العمل وجودته وانتشاره، ولا يبقى مجرد تحبير زائل.
التصورات التي نتبناها إذن للثقافة هي تصورات قاصرة ومشوهة، لا هي من التصور الاشتراكي القديم لهيمنة الدولة على الثقافة، ولا هي من التصورات الرأسمالية التي تدعو إلى تحرير الثقافة من يد الدولة، إذ كلا التصورين الكلاسيكيين يوليان الثقافة أهمية كأداة للسلطة والتنمية، بينما نحن نراها مجرد مناسبات ثانوية، تدعمها الدولة على مضض.
توقفت الثقافة إذن عند مجرد وزارة لها جيش من الموظفين المكتبيين، ووظيفتها دعم يتقاتل على ملاليمه المبدعون، ومؤسسات بأنشطة أغلبها (كي لا نعمم) بلا ابتكار ولا أثر، وكأنها فقط واجب عقابي مدرسي، ومؤسسات مختصة ميتة سريريا مثل هذه بيت الشعر وبيت الرواية ومعهد الترجمة، علاوة على دور الثقافة التي تتخبط بدورها في شح الإمكانيات وغياب التسيير الفاعل.
الصناعة الثقافية
إذا أردنا التغيير فعليا لا بد أن نبدأ من تغيير نظرتنا إلى الثقافة، واعتبارها قطاعا سياديا وحيويا، يتقاطع مع كل القطاعات الأخرى. لا بد من تشبيك العمل الثقافي مع عمل المؤسسات التعليمية والجامعية التي يعيش أغلبها بمعزل عن الفعل الثقافي، لا بد من تركيز صناعة ثقافية تحقق ساحة ثقافية تقوم على العمل والإنتاج لا التواكل والشلل والتلاعب بالمال العام. علاوة على ذلك لا بد من فتح المجال الثقافي على العلوم والحرف وقطاع السياحة.
الأمثلة عديدة على إمكانية العمل بجهد أكبر وبتصورات مختلفة دون الحاجة إلى التمويلات الكبيرة في ظل الصعوبات الاقتصادية، لماذا لم تستثمر تونس مثلا في مواقعها الجغرافية المتنوعة لتستقطب صناع السينما وتكون موقع تصوير مميزا، بناء على تجارب سابقة في تصوير أفلام عالمية على غرار “حرب النجوم”؟ لم لا تستقطب أيضا الأعمال الدرامية التاريخية لما تزخر به البلاد من مواقع قادرة على احتضان هكذا أعمال؟
لماذا لا تعمل وزارة الثقافة على الانفتاح على المدارس والمعاهد والجامعات؟ ولم لا ابتكار مواد تعليمية بالشراكة مع وزارتي التربية والتعليم العالي؟ لماذا لا ندعم الاستثمار في الثقافة من قبل الشباب خاصة ونفتح أمامهم مجالا للتدرب ونرافقهم في تأسيس مشاريعهم وتركيزها؟
بقاء وزارة الثقافة بلا وزير وفريق تسيير سيفتح المجال أكثر للفساد الإداري والعمل وفق عقلية التلفيق والذاتية
علاوة على ذلك لماذا لا تنقذ الوزارة صناعة الكتاب التي هيمن عليها تجار لا علاقة لهم بالثقافة، ورغم ذلك يستفيدون من دعم الدولة؟ ولماذا لا تنفتح الوزارة على تأسيس تصورات تشترك فيها مع المعاهد العلمية ومع قطاعات حيوية مثل الهندسة والمعمار والعلوم التجريبية والتكنولوجيا؟ إلى متى ستبقى الثقافة مجرد مونولوجات ذاتية وحفلات طارئة وتهريجا في القاعات والشوارع؟ إلى متى ستبقى الثقافة بعيدة عن النقاش العام؟
الانفتاح على فضاءات مختلفة أمر مطلوب أيضا. لكن يبقى الإشكال الذي يرفعه العاملون في الشأن الثقافي هو قلة التمويل، وتهالك البنى التحتية وغيابها أحيانا. وهذا واقع لكنه أبدا ليس حجة على تردي الوضع الثقافي بالشكل المفزع الذي نراه، والذي انعكس على كل الفنون تقريبا، بينما تترسخ أكثر يوما بعد يوم قناعة السلطة عند مختلف شرائح المجتمع الذي يواجه وضعا اقتصاديا خانقا، أن الثقافة مجرد فعل ثانوي وهدر للمال العام، خاصة وأن المشرفين على الشأن الثقافي لم يشركوا المواطنين ولم يأخذوا آراءهم في ماذا يريدونه من الثقافة؟
إن أي تصور يخرج الفعل الثقافي والثقافة من دائرة القطاع الحيوي، هو تصور قاصر بالضرورة، حيث لا يستقيم أي فعل بمعزل عن الثقافة، وإن تركيز مشروع ثقافي شامل بداية بالتشريع والتخطيط والإنجاز، بات ضرورة ملحة، علاوة على ذلك لا بد من ترسيخ عقلية الصناعة الثقافية وتوفير المجال القانوني والدعم لها، وهذا ممكن حتى في ظرف اقتصادي صعب مثل ما تشهده تونس اليوم.
بقاء وزارة الثقافة بلا وزير وفريق تسيير سيفتح المجال أكثر للفساد الإداري والعمل وفق عقلية التلفيق والذاتية، وهو ما نراه يتوسع مؤخرا من خلال التكتلات الشللية الإدارية وحتى في صفوف المبدعين والعاملين في الشأن الثقافي، وهو ما يحول الثقافة من مجال حضاري يتركز على الاختلاف والفعل إلى ساحة معارك ساذجة ويتأبد بذلك الوضع الراهن.