لماذا اختتم ماركيز تجربته بكتابة النوفيلا بدل الرواية

لا تتفق الآراء حول مواصفات النوفيلا، ولا توجد قواعد محددة لتركيبة هذا الشكل الأدبي المتوسط بين الرواية والقصة القصيرة. وبالتالي يبدو أن المصطلح فضفاض يتسع للمساعي النقدية ويغري بالانزياحات في الكتابة الإبداعية، وهنا نحلل هذا الجنس من خلال كتابات غابرييل غارسيا ماركيز بشكل خاص.
قد يذهب الظن بالمتابع لأول وهلة إلى أن كل ما يتطلبه بناء النوفيلا هو تحديد البعد المكاني الذي تتحرك فيه الشخصيات المعدودة. أما بالنسبة إلى عنصر الزمن فإنه يتخذ إيقاعه داخل التشكيلة السردية عامة، ويمكن لهذا الرأي المحاججة بأعمال الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ الذي تنهض نصوصه المروية على إضاءة الحلقة المكانية. وهذا ما يتجلى أكثر في “لاعب الشظرنج” و”السرق الحارق” و”أربع وعشرون ساعة في حياة امرأة” كذلك الأمر بالنسبة إلى نوفيلا “الكرنك” لنجيب محفوظ، إذ يغدو المقهى بؤرة للخطابات المتعددة.
في الواقع هذا ليس ملمحا للنوفيلا دون غيرها لأن المكان يلعب دورا لافتا في العديد من الروايات الطويلة وغالبا ما تنم العناوين بما يعني المكان في جغرافية المتن وهنا من المناسب الإشارة إلى ما ينتهجه الكاتب المصري علاء الأسواني في رواياته، إذ يكون البعد المكاني مفتاحا لمعرفة بصمته السردية.
ربما الخيط الذي يميز بين شكل المكان في الرواية وتمظهره في النوفيلا أن مادة النوفيلا لا تتطلب الامتداد في الفضاء المكاني ويتموضع فيها الراوي بزاوية معينة يسحب إليها صور الأمكنة الأخرى والأصوات غير المشاركة في بنية النص، فيما تستدعي شبكة الشخصيات في الرواية النهرية مرونة المكان وتلبيته للمنحى الاستكشافي لآلة السرد.
أكثر من ذلك إذا سلمنا بأن أسلوب الكتابة يتبع المزاج وحركة الشعور يمكن القول إن الرواية بتفاصيلها المكونة من القصص الفرعية يناسبها مزاج ملحمي بالمقابل تستجيب النوفيلا للمزاج الغنائي، الأمر الذي يدرك بالوضوح في كتابات ماركيز الأخيرة خصوصا عمله المعنون بـ“ذكريات غانياتي الحزينات” وما يضفي نبرة غنائية لهذا النص هو أن صوت الراوي لا يكون مراقبا للحدث فحسب، بل هو مشارك في سلسلة الوقائع التي يسردها بالضمير الأول. كما تتجلى وظيفة المعطيات السردية بأكملها في إضاءة شخصية المتكلم ومعنى ذلك أن الحس الذاتي غالب على النص.
فيزياء التأليف
الجملة الافتتاحية في النص السردي تنبئ بالأجواء التي تسود فيه، لذلك يهم المؤلف ذوبان الجليد من الرمية الأولى بين المعطى الإبداعي والمتلقي ونذكر رواية “من قتل بالمومينو موليرو” لماريو بارغاس يوسا مثالا على التفوق في التلميح بخط الرواية وجيناتها من الاستهلال، إذ يملأ الحدث المسافة الزمنية التي يستغرقها السرد ويتبع سقف توقع القارئ مقتل المغني الذي راح ضحية لعقدة الكولونيل ميندرياو وشخصيته الموتورة، وما يعمق من أزمته هو هروب ابنته أليسا مع بالومينو.
بالطبع تكتسب هذه الإستراتيجية أهمية أكثر في تأليف النوفيلا إذ يبدأ السرد في “ذكريات غانياتي الحزينات” منطلقا من مناسبة عيد ميلاد الراوي وهو على عتبة التسعين من العمر يريد أن يحتفل باستقبال سنة جديدة من حياته في طقس مفعم بالرومانسية، ويهدي إلى نفسه ليلة حب مجنون والطريق نحو مربع اللذة يبدأ بالتواصل مع كارباكاس صاحبة بيت سري، وهي تخبر زبائنها عندما يكون تحت تصرفها ما هو جديد.
لم يستسلم الراوي لإغراءات صاحبة النزل وهو يؤكد على ذلك يتذكر كلامها المتشكك بنقاء أخلاقه مرددة بأن الأخلاق مسألة الزمن أيضا. وبعد مرور عشرين عاما حين تسمع صوته تتنهد مستغربة من غيابه لهذه المدة الطويلة، ومن ثم يطلب مستحيلات ويبوح برغبته في قضاء الليلة مع فتاة عذراء، إلى هنا ينعطف السرد المنساب بلغة شفيفة صوب متابعة الشخصية الرئيسة. إذ يكشف المتكلم عن المكان الذي يعيش فيه فقد ورث البيت من أبويه ويمضي أيامه وحيدا تحت سقفه بعد رحيل الإثنين متخذا القرار أن يلفظ أنفاسه الأخيرة في ذات المكان الذي أبصر فيه الدنيا.
يستعيد في هذا الإطار قصة لقاء والده مع ابنة أحد الإيطاليين فلورينا دي ديوس كارغامنتوس فالأخيرة كانت عازفة ماهرة لموسيقى موزارت ومتعددة اللغات والمرأة الأكثر جمالا والأفضل موهبة في المدينة قاطبة. ما يقدمه الراوي عن نشأته وجذور أمه الإيطالية هو جزء من ورقة اعتماده السيرية ولا يختم هذا التفصيل دون الإشارة إلى بيع كل ما فاض عن حاجته من البيت باستثناء الكتب وأرغن اللفافات.
◙ الكثافة في التعبير من مقومات اللغة في النوفيلا كما أن التمثيل البصري في صياغة الجملة يُفعّل الطاقة الإيحائية
ولا تفصل بين هذا المقطع وما يقوله الراوي لاحقا أي جملة اعتراضية بل ينتقل الراوي مباشرة إلى العمل الذي يزاوله في جريدة دياريو دي لاباث طوال أربعين سنة، مصححا للبرقيات. كما عمل كأستاذ نحو قشتالي ولاتيني، معلنا بأنه لم يفعل شيئا غير الكتابة مع ذلك لا يملك موهبة الروائي ولا مزيته. وتستشف مما يرويه هاجسا لازمه منذ طفولته فإن القمل الذي يتكاثر في الشعر يهرب على الوسائد عندما يموت الشخص. وهذا ما حدا به أن يقص شعره دائما.
يتسلسل السرد منتظما في متابعة الشخصية المنفردة بمسرح النص. ولا يثقل الوطأة على المناخ المتخيل بالصور الفنية المفتعلة ولا بالانتفاخ المعلوماتي، أما الإشارات الواردة إلى الشخصيات والأحداث التاريخية فهي لا تخرج عن السياق العام. يومئ الراوي إلى معاهدة نيرلانديا التي وضعت حدا لحرب الألف يوم لأن توقيعها كان متزامنا مع موت والده
ويظهر ماركيز بأنه انفتح على تقنية ميتا السرد. حين يصرف اهتمام المتلقي إلى فرضيات الراوي بشأن مشروع كتابة قصة مستمدة مادتها مما يسميه بسجلات الفراش. هنا يعيد المتن خط الرواية إلى مفردة العنوان لأن “ذكريات غانياتي الحزينات”، هي الجملة التي يستلهمها التسعيني عنوانا لقصة غرامياته التي كانت في أغلبها بمقابل. وعلاقته مع داميانا من أغرب قصصه العاطفية التي تتداخل مع القراءة، وذلك يوحي بالبعد الاكتشافي في الحب والمعرفة.
ومن نافلة القول إن الزمن هو الموتيف الناظم لمجمل مروية ماركيز وهذا ما يتضح من الافتتاحية. كما يمكن الاستدلال على إيقاع الزمن بالصور التي تنم عن مكره يقول الراوي “لم أفكر قط في السن على أنها ثقب في السقف يقطر الماء منه، لينبه أحدنا إلى كمية الحياة الآخذة بالتبقي له”، وفي مفصل آخر يسترد المتكلم فحوى الحوار الذي يدور بينه وبين أمه التي كانت ترجوه أن يتزوج ليكون أبا لطفلة تحمل اسمها لكن فكرته المرنة عن الشباب أوهمت له بأن الوقت متاح باستمرار إلى أن يخطئ في الباب الذي يمتلكه آل بالوماريس. وهذا الخطأ يتولد منه حب يخذله. لعل ما يشهد على افتراس الزمن بالراوي هو المقطع الناضح بالتداعي الذهني “خلافا لقطع الأثاث، خلافا لي أنا بالذات تبدو المنضدة التي أكتب عليها في أحسن صحة مع مرور الزمن”.
شعرية اللغة
الكثافة في التعبير من مقومات اللغة في النوفيلا كما أن التمثيل البصري في صياغة الجملة يُفعّل الطاقة الإيحائية ويُضيف نفسا شعريا شفافا إلى جرس الكلمة، وما يقوله ماركيز عن الرواية بأنها يجب أن تكون وصفا شعريا للواقع ينطبق على النوفيلا أكثر وفعليا تتمثل “ذكريات غانياتي الحزينات” لهذا المبدأ وذلك من خلال الإحالات الخاطفة إلى الأغاني والمقطوعات الموسيقية واللوحات والأعمال الأدبية التي يبدأ بقراءتها الراوي مع اعترافه بأنه في مرحلة الصبا كان ينفر منها عندما أرادت الأم فرضها عليه.
والنغمة الشعرية تنداح على جسد النوفيلا حين يهيم الراوي بالطفلة التي يسميها ديلغادينا وهي تعيل أهلها مما تكسبه من تثبيت الأزرار في المصنع. بخلاف بطل رواية “لوليتا” لنابوكوف لا يقع الصحافي العجوز في “ذكريات غانياتي الحزينات” في مطب شهوانية متصابية، ويصفو تواصله مع الصبية من الشبقية لأن النهم الجنسي لا يكون دافعه إلا البحث عن العزاء عندما يغيب الحب.
وما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن آخر ما نشر لماركيز بعنوان “موعدنا في شهر آب” تتقاطع خطوطه مع “ذكريات غانياتي الحزينات” ليس إدراجهما ضمن صنف الروايات القصيرة هو المشترك الوحيد بين العملين إنما الأجواء المشحونة بالغنائية والحديث عن الرواية داخل النص الروائي، وتكرار الإيماءة إلى شهر آب كل ذلك هو ما يضع النصين على إيقاع واحد.
ومن المفارقات التي يذكرها يان ليانكه في كتابه “استكشافا للرواية” أن الشعر قد استحوذ على معظم اهتمامات ماركيز قبل أن يقرأ نوفيلا “التحول” غير أن معرفته بكافكا تنعطف به نحو عالم الرواية وهنا يتبادر السؤال إلى الذهن لماذا لم يفتتحْ صاحب “مئة عام من العزلة” مسيرته الأدبية بكتابة النوفيلا ولجأ إلى هذا النوع الأدبي في سنواته الأخيرة؟!
ربما أن السبب يكمن في متطلبات تأليف النوفيلا في مقدمتها الإيجاز في اللغة واختمار الحس الفني، والصياغة الموسيقية. وأخيرا إذا صح الاعتماد على معجم اللعبة لتحديد الفرق بين الرواية والنوفيلا يمكن القول إن النص الروائي يقوم على تمريرات طويلة ومساحته تعادل الملعب بأكمله أما النفويلا فتقوم على تمريرات قصيرة ومجال الحركة في تشكيلتها هو بحدود منطقة العمليات في الملعب. أي أن العدسة تتابع ما يقوم عليه الحبكة.