ليست إجازة من السياسة والمشاكل في الكويت

أدركت الطبقة السياسية الكويتية أن الأمير الجديد الشيخ مشعل الأحمد لن يتعايش مع واقع الاضطراب المستمر وجولات انتخاب البرلمان وحله، فبادرت إلى التصعيد بما يتجاوز كل ما وصلت إليه الأزمات السياسية من قبل في البلاد. الشيخ مشعل لم يتردد في تقديم الأمر كما هو بالقول إنهم وصلوا إلى تحدي صلاحيات الأمير. الكلمة التي ألقاها لتشرح قراره حل البرلمان وتعليق فقرات في الدستور لبضع سنوات وإعادة النظر المحتملة في فقرات من الدستور، كانت النتيجة التي لا مفر منها للخروج من حالة الجمود المتكررة التي أعاقت كل مفاصل الحياة في الكويت.
لا بد من الإشارة إلى أن المعارضة في الكويت استعدت للأمر منذ سنوات طويلة. للوصول إلى مرحلة المس بصلاحيات أمير البلاد، كان من الضروري التدرج في تحدي السلطة. بدأنا باستجوابات للوزراء الثانويين ورؤساء الهيئات التي تحمل هيكلية شبه وزارية. ثم تطور الأمر إلى وزراء من الطبقة النافذة ومن وزراء الأسرة الحاكمة. ثم جاء دور وزراء السيادة، ونواب رئيس الوزراء وبعدها رئيس الحكومة. في كل مرة تكسر المعارضة حاجزا جديدا. ومع عودة برلمان منتخب يستعيد في عضويته نفس التركيبة السياسية القبلية والطائفية مع تغييرات شكلية في الوجوه، تكون الاستجوابات أقسى وأشد وتقود بدورها إلى حل البرلمان.
راهنت الأسرة الحاكمة على أن بوسعها في نهاية الأمر احتواء الموقف. ثمة وجوه نافذة في الأسرة تحظى بالاحترام، وبقيت الأمور بيد الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد أشبه بعملية تنفيس ومداواة لعل الأمور تسير نحو الأحسن. لا شك أن الأسرة الحاكمة تتذكر تلك الأيام الصعبة في الأشهر الأولى من الربيع العربي. كان الوضع على المحك إلى درجة أن قادة خليجيين عرضوا على الشيخ صباح الأحمد التدخل لمنع وصول الأمر إلى حافة خطرة كما حدث في البحرين. ألقى الشيخ صباح الأحمد بثقله المعنوي في مواجهة الأزمة واستطاعت البلاد تخطي ذلك التحالف الهجين بين القبلية والمد الإخواني.
◄ الطبقة السياسية لن تستطيع أن تنزوي وتعيد كتابة هذه الفقرة من الدستور أو تلك لتعود بعد سنة أو أربع سنوات بحل سحري يداوي حالة الجمود التي سادت البلاد على مدى عقود
لكن الزمن لم يكن في صالح الأسرة الحاكمة وقدرتها على احتواء الموقف لاعتبارات تتعلق بالانشقاقات داخل الأسرة نفسها. استثمرت الطبقة السياسية من خارج الأسرة في تلك الخلافات، أي حدث عكس المطلوب. وبرزت كتل سلفية وإخوانية وشيعية وقبلية وحاولت تقديم شيوخ نافذين من الأسرة كواجهات داعمة لها. وفي السنوات الأخيرة من حكم الأمير الراحل الشيخ صباح الأحمد، ازدهرت الصراعات لاعتبارات منها مرض الأمير وتسامحه. وكاد الأمر يتكرر في عهد الأمير الراحل الشيخ نواف الأحمد، لولا أن مرضه كان شديدا ما أوكل مهمة إدارة الدولة لشخصية لمْ تُعرَف عنها الرغبة في المساومات، أي ولي العهد ونائب الأمير آنذاك والأمير الحالي الشيخ مشعل الأحمد.
ينظر الكويتيون فيرون واقعا غير مريح لدولتهم. أي كويتي سيسأل نفسه: هل ما ضاع من تنمية، كسبناه في البناء الديمقراطي؟ الرد سيكون: لا حققنا تنمية ولا شيدنا بناء ديمقراطيّا.
الكويت جزء من منطقة انتقلت تنمويا إلى الطريق السريع وقطعت أشواطا كبيرة في عملية تبدل عميقة وجوهرية. خلال ربع قرن تمكنت دول متفاوتة الإمكانيات، من حيث ريع النفط والغاز، من الوصول إلى مستويات تنموية عالية. الكويتي يقارن وضع بلاده مع الإمارات وسلطنة عمان وقطر أوّلا، وصار يرى ما يمكن للإرادة السياسية والإصرار تحقيقه في السعودية خلال فترة وجيزة. استنفد المبررون كل الحجج لتأخر الكويت عن الركب. فأزمة سوق المناخ في الثمانينات والغزو العراقي مطلع التسعينات أصبحا من الماضي ولا يمكن الاستمرار في تقديمهما كأسباب. الدول الخليجية التي تقود مسيرة التنمية أنجزت ما أنجزته انطلاقا من مطلع التسعينات. بلد مثل قطر، انطلق منذ منتصف التسعينات من حالة شبه مفلسة للميزانية الحكومية. انظرْ إلى أين وصلت قطر الآن! الإمارات حالة فوق استثنائية بما حققته، فمن غير المفيد إجراء مقارنة معها. ماذا عن بلد بإمكانيات متوسطة مثل عمان؟ في الوقت الذي يتجادل فيه أعضاء مجلس الأمة الكويتي في مشروع ما، يكون مشروع مشابه قد أنجز في بلاد التنمية على الطريق السريع.
الوجع الديمقراطي أقسى وأمرّ. الواحة الليبرالية الكويتية انحسرت، وبدلا من ازدهار البناء الديمقراطي في مناخ الليبرالية المفترض، تحولت انتخابات مجلس الأمة إلى محاصصات قبلية وطائفية ضيعت معنى الديمقراطية. الشيعي ينتخب الشيعي والسلفي ينتخب السلفي وقبيلة مطير تنتخب المطيري حتى وإن قالت إن مرشحها يمثل الإخوان.
التعثر السياسي التنموي انعكس سلبا على الأداء الاقتصادي للبلاد. عجْز مزمن في الميزانية واستدانة من صناديق الاستثمار التي كانت نظريا خزينة للأجيال القادمة من ثروة النفط اليوم. لا شك أن الكويت لا تزال بلدا مرفها بالمقاييس العربية، ولكنها رفاهية قلقة تحتاج الحكومة أن تسندها بكل عائدات النفط وتزيد عليها من أموال الاستثمارات.
◄ المبررون استنفدوا كل الحجج لتأخر الكويت عن الركب. فأزمة سوق المناخ في الثمانينات والغزو العراقي مطلع التسعينات أصبحا من الماضي ولا يمكن الاستمرار في تقديمهما كأسباب
الرفاهية القلقة تأتي بمشاكلها الاجتماعية. الكويت اليوم ليست في أعلى قائمة الدول التي يفضلها العاملون الأجانب في الخليج. مشاكل العمالة المنزلية صارت تسيء إلى سمعة البلاد، ولا يتردد الكويتيون في التراشق مع المصريين على مواقع التواصل الاجتماعي بشأن قضايا تمس العمالة الوافدة بالأساس. بعض مفردات التراشق هزلية من نوعية أن المصريين تسببوا في اختفاء البصل من رفوف الجمعية (السوبر ماركت المدعوم) في أسواق الكويت.
الوضع الإقليمي، سياسيا وطائفيا، ليس في صالح الكويت. ثمة قوى تستثمر في مشاكل الكويت. تقسيم الولاءات بين الكتل السياسية والمجموعات الطائفية في الكويت واضح. وتحاول محاور إقليمية ودولية مختلفة تسجيل حضورها إلى درجة أنها تتصارع على ذلك. ما يجري في “ساحة الإرادة” هو استعراض للقوى السياسية تبعا لولاءاتها، وإن كانت كلها، أي بوجهها الإخواني أو الشيعي، تصب في صالح إيران بحجة غزة. التهجم على دول نافذة خليجيا وعربيا من على منابر الساحة هو جزء من محاولة منع الكويت من اللحاق بركب التغيير في المنطقة.
المرحلة القادمة لن تكون سهلة بالتأكيد. هذه ليست إجازة من السياسة والمشاكل في الكويت، ولن تستطيع الطبقة السياسية، بما فيها تيارات الأسرة الحاكمة، أن تنزوي وتعيد كتابة هذه الفقرة من الدستور أو تلك، لتعود بعد سنة أو أربع سنوات بحل سحري يداوي حالة الجمود الدورية التي سادت البلاد على مدى عقود. الشيخ مشعل الأحمد شخّص علة “المريض الكويتي”. الآن صار من الضروري البحث عن علاج.
قبل أن يبكي البعض على ضياع الديمقراطية في الكويت، عليه أن يسأل: كم ضاع على الكويت بسبب الديمقراطية؟