"كراساتي الباريسية" وجوه مدينة الأنوار المظلمة في سيرة كاتبة عراقية

لطفية الدليمي تتجول بقرائها في هوامش باريس على إيقاع الاغتراب.
الجمعة 2024/05/10
باريس ليست المدينة التي نحلم بها

رغم ما تمثله باريس من ألق حضاري ورمز فكري وفني وأدبي وثقافي حداثي فإنها تخفي وجوها قد تكون صادمة للكثيرين، هذه الوجوه القديمة والجديدة من المدينة الأشهر والأكثر تأثيرا عالميا ترصدها الكاتبة العراقية لطفية الدليمي في يومياتها، التي تُكَاشِفُ فيها قراءها بحقائق قد تكون صادمة للكثير من الحالمين بمدينة الأنوار.

تمتد مفاعيل الاغتراب إلى مفاصل حياة الفرد ورؤيته للمفاهيم الوجودية، والمبادئ المعلن عنها داخل الكيانات المجتمعية، ومن المحتمل أن يكون المغترب موسوما بصدمات من المكان الذي هجره ومنكوبا بخذلان البيئة التي تخيلها بديلا لجغرافية طاردة. وهذا ما يصعب من تجربة الغربة، ويزيدها قسوة.

المعلوم أن رحلة الاغتراب تبدأ قبل مغادرة بيئة المنشأ، ولولا الشعور بأن خيوط الانتماء إلى التربة الأولى أصبحت واهية لما تحولت متاهة المنافي مهوى للمغامرة، وعلى الأغلب يكون قرار الهجرة نتيجة لسوء الأحوال السياسية أو هروبا من الحروب الضارية، لا تغير الحرب شكل الأمكنة ولا تنسف شبكة الروابط الإنسانية فحسب بل تبعثر الأوراق وتقيد المرء نهبا لأوهام ناجمة من تغول الخوف والكراهية.

أما والحال هذه فإن الحل الجزئي يتمثل في البحث عن مداخل أخرى لمواجهة الواقع المتخم بالنفس المعادي للحياة. والأسوأ من ذلك هو تحلل العقلية المدنية وتصاعد النبرات المتشنجة في زمن الحرب، وهذا ما انحدر إليه العراق في عهد الاحتلال الأميركي إذ تداعت مستندات التضامن الاجتماعي والمشترك الثقافي والفكري. كما أن القيم تلوثت جراء الخلط بالأوراق إذ حلت التبعية مكان روحية المبادرة.

على هامش التقلبات البنيوية في العراق نشأت سرديات محملة بهموم النسخة التراجيدية للواقع. فكان للنصوص الروائية سبق في رصد ومتابعة الظواهر التي طفت على السطح. واستلت ثيماتها من صميم المشاهد الحية والوقائع الكاشفة للوجه العبثي من الخطابات الملفعة بالزيف. وبالتالي سجلت المدونة السردية ملامح المرحلة الكابوسية والانهيار الشامل. كما لاحت أطياف الأزمنة الغابرة في عدد من الأعمال الروائية مقابل ما تراكم من الأزمات المحتقنة في الحاضر. وبالطبع أن هذا الحراك السردي والانهمام بالكتابة يصح النظر إليهما على الاعتبار أنهما محاولة ضد اللاشكل الذي يعمق الشعور باليأس.

ينزل ما نشر للكاتبة العراقية لطفية الدليمي بعنوان “كراساتي الباريسية” ضمن النصوص المحملة بالنفس التأملي للمعطيات الحياتية والتشكيلات الثقافية والتشظيات الوجدانية والروحية في الغربة. صحيح أن ما تسرده الدليمي في كتابها الأحدث مواكبة لمحطات المنفى لكن ما يرشح من هذه المذكرات يكشف جوانب من شخصية الكاتبة وتكوينها الفكري ومرونتها الإنسانية ورأيها عن سايكولوجية المثقف.

رحلة معاكسة

صاحبة "سيدات زحل" تستهل شريط سردها برحلة العودة من باريس إلى عمان وكيف كانت محظوظة بالاستراحة في المقعد المواجه لقمرة القيادة في درجة رجال الأعمال وهي تتفاجأ بهذا التكريم
◙ صاحبة "سيدات زحل" تستهل شريط سردها برحلة العودة من باريس إلى عمان وكيف كانت محظوظة بالاستراحة في المقعد المواجه لقمرة القيادة في درجة رجال الأعمال وهي تتفاجأ بهذا التكريم

تستهل صاحبة “سيدات زحل” شريط سردها برحلة العودة من باريس إلى عمان، مشيرة إلى أنها كانت محظوظة بالاستراحة في المقعد المواجه لقمرة القيادة في درجة رجال الأعمال وهي تتفاجأ بهذا التكريم. وهي تغادر باريس متجهة إلى الإقامة في التخوم تفكر في احتمالات عدم اكتمال الرحلة متسائلة في الحوار الداخلي “ماذا لو سقطت الطائرة على الألب أو في بحرة جنيف؟” وفي هذا السياق تقع على مقولة مونتين “إن التفكر في الموت هو تفكر في الحرية” ويفهم لاحقا بأن تلك العبارة إشارة للمحنة التي اختبرتها الدليمي في باريس إلى أن ناوشت فكرة وضع النهاية للحياة رأسها.

وجدت الكاتبة نفسها نكرة في باريس بدرجة الصفر، وما يتوالى من السرد الاستبطاني على لسان الراوية وهي تدير لهجتها الناقدة نحو الذات يفتح النقاش على ما يمكن أن يجنيه المرء من التصديق للأفكار والفلسفات الداعية إلى القيم والأمثولات الإنسانية. تعترف لطفية الدليمي بأن التعويل على هذه التصورات التي شكلت أفق الأحلام لا يكون إلا تجنيا بتحميل النفس فوق طاقته.

تسترسل الكاتبة في تنقيب المشاعر التي جربتها وهي تتقاذف بها المدن ساعية إلى لملمة ذاتها المنشطرة والاقتناع بأنها لم تعدْ في بغداد. كما يكشف الكلام عن الاحتمال الذي تفترضه الدليمي لو كانت بحرا وما يتحقق من ذلك هو التحرر من ربقة الأمكنة وإكراهات الانتماء الأمر الذي يؤكد سعة أفق الكاتبة وإدراكها بأن من ينشد الحرية لا يقف عند قشور حدود الانتماءات السطحية.

يستغرق الحوار الداخلي المسافة التي تفصل بين باريس وعمان، وينحو السرد من بداية الفصل الأول منحى آخر إذ يكون المتلقي متماهيا مع صوت الراوية في متابعة الأجواء المشحونة بالتوتر حين كان ينتظر الجميع في بغداد كارثة الحرب التي غلفتْ بالوعود الفردوسية ولم يمض كثير من الوقت حتى رأى العالم ما تمخض من مشروع الشرق الأوسط الجديد. وما ثقل من وطأة الكارثة أن الناس كانوا واقعين بين رحى السلطة المستهينة بأرواحهم والعدو الذي حرق الأخضر واليابس وفتك بالمعالم الحضارية.

تناقش الدليمي لاحقا موضوع الحرب مع برهان غليون في باريس متسائلة أما كان بوسع أميركا انتزاع الطاغية من قصره كما فعلت مع أحد رؤساء دول أميركا اللاتينية بعملية كوماندوس؟ وكان ذلك بالطبع يوفر على العباد والبلاد الدماء والتناحر على الغنائم. والغريب مما تذكره الدليمي أن المثقفين قد أبدوا تفاؤلا بشعار الفوضى الخلاقة وتم التنظير للفذلكات اللفظية. وتكشف اللمحات الواردة في سياق هذا السرد السيري عن الفعاليات السياسية والثقافية التي كانت لطفية الدليمي من بين مشاركيها في عمان وباريس عن بؤس العقل النخبوي والجمود الفكري.

لا تروي صاحبة “من يرث الفردوس” سيرتها بنسق تصاعدي بل تتداخل الأزمنة في إطار المادة المروية ومن المحتمل أنْ تتسرب إلى أثير النص السيري نتف كاشفة لفيزياء شخصية المتكلم، وهذا ما لا تخلو منه كراسات لطفية الدليمي، إذ يوحي كلام ابنها آيار وهو يدعوها للفطور في مقهى الدوماغو بأن الأم قد بدأت رحلتها إلى باريس معرفيا وتجولت ذهنيا في معالمها الثقافية وصافحت مشاهيرها من الفلاسفة والأدباء قبل أن تطأ قدمها أديم عاصمة فرنسا.

◙ الكتاب ليس مجرد يوميات الحرب والمنفى أو أدب الرحلة أو بوح كاتبة عن مزاجها الشخصي بل ملحمة إنسانية
◙ الكتاب ليس مجرد يوميات الحرب والمنفى أو أدب الرحلة أو بوح كاتبة عن مزاجها الشخصي بل ملحمة إنسانية

“دعوتك للفطور هناك لإحياء ذكريات قراءاتك في كتب أقطاب الوجودية الذين تحتشد مكتبتنا بكتبهم”، زيادة على ما سبق فإن الحوار المستعاد بين الطرفين بصوت الراوية يسحب الظل على جانب آخر من خلفية الكاتبة الثقافية وهواها الموسيقي وهي كانت تردد مقولة سارتر “قررت أن أفقد القدرة على الكلام وأحيا في الموسيقى”.

لم تكن الكاتبة غريبة عن مناخ باريس الفكري قبل أنْ ينتهي بها المطاف إلى هذا البلد. بل تعرفت على جغرافيتها في روايات ألكسندر دوما، ولا يختلف البعد المعماري للمدينة عن سائر الحواضر التي زارتها الكاتبة مدريد، فيينا، فرانكفورت، بودابوست. لذلك لا يدهشها المكان “لم تسعفن ذاكرتي المزدحمة بتاريخها الأدبي والسينمائي لأتمتع بمذاق الدهشة والمباغتة”.

لا تنكر الكاتبة ما تسميه بجمال باريس المهرجاني ومقاهيها الحافلة بالحيوية، لكن كل ذلك لا يكسر بينها وبين المدينة الجليد. والمفاجئ في سلسلة ما ترويه الكاتبة أن فكرة الانتحار تداهمها مرتين، وكان نهر السين واعدا بالحل الأخير لمحنة الاغتراب هنا. لا توافق لطفية الدليمي مع همنغواي في وصفها لباريس بأنها وليمة متنقلة بل مزاجها أقرب إلى ريلكه الذي رأى بأن الناس يأتون إلى باريس ليموتوا هناك.

تعترف الكاتبة بأن دفة أحلامها كانت مشرئبة دوما نحو البلدان الآسيوية وطافت روحها في المعابد والمساجد التاريخية وتاقت إلى تربة الحكم الإشراقية. إضافة إلى أعمالها الإبداعية وكتابتها للمقالات المواكبة لفتوحات علمية وأدبية نقلت الدليمي عناوين قيمة من حقول ومجالات معرفية وأدبية إلى لغة الضاد.

 تستعيد في كراسات الاغتراب ما تعلمته من كاواباتا حين ترجمت روايته “بلد الثلوج” إذ أدركت فوائد فن العيش في العزلة من مؤلف “البحيرة”، وألهمها حكمة مواجهة الحرب بالعمل وسلوك الانغمار في الكتابة والانتشاء بإنجاز قصة أو رواية أو نص. وما فاتها أن يتعلم منه هو فن الموت ساعة يشاء المرء. وفي الحقيقة يصعب محاكاة اليابانيين في ذلك لأن هذه الخصيصة متجذرة في ثقافتهم.

تتسع عدسة الراوية لتغطية فرنسا بطبقاتها التاريخية والثقافية والسياسية تحيل أجزاء من سرديتها إلى معمعة الثورة الفرنسية والصراع بين الأخوة الأعداء. إذ يتناهى إلى المسمع صوت ديمولان الذي يخبر روبسير بأن حبل المشنقة سيطاله عاجلا وليس آجلا. كما ترتحل حركة السرد بالمتلقي إلى غرينوبل معقل المقاومة الفرنسية إبان الحرب العالمية الثانية، ومن المعلوم بأنه لا يمكن الحديث عن تلك الحقبة دون الإشارة إلى رائعة جان بروليه “صمت البحر” وهدير مقاطعة شخصياتها للكلام مع الضابط النازي.

ومن بين كل الرموز الفكرية والأدبية والفنية التي تتوارد أسماؤها في تضاعيف الكتاب بدءا من جورج صاند ورامبو مرورا بفان كوخ ورودان وليس نهاية بمشيل أونفري يستشف القارئ مما تقوله الدليمي عن كامو قدرا كبيرا من الإعجاب والافتتان بصاحب “المنفى والملكوت”. تعلن الكاتبة بأن شخصيتها مسكونة بجينات التمرد وأتت أفكار كامو لتجعلها تنبت وتورق فغدا كتاب “الإنسان المتمرد” دليلها لنحت مبادئها الرافضة للنموذج المكرر اجتماعيا. إضافة إلى مشاهداتها الباريسية تسجل لطفية الدليمي ما شدّ انتباهها في سويسرا من المتاحف والمواقع التي كانت حاضنة للعباقرة.

جلد الحضارة

◙ باريس استقطبت عقول وقلوب جل المثقفين العرب لكن لطفية الدليمي ترى في باريس أبعد من جلدها الحضاري
◙ باريس استقطبت عقول وقلوب جل المثقفين العرب لكن لطفية الدليمي ترى في باريس أبعد من جلدها الحضاري

استقطبت باريس عقول وقلوب جل المثقفين العرب وطابت لهم مظاهر المدينة، وكان لسان حالهم يقول حبذا لو اقتفت مجتمعاتنا أثر مدينة النور، لكن لطفية الدليمي بخلاف هذه الأصوات ترى في باريس أبعد من جلدها الحضاري، فإن التنوير بعكس التوهم السائد لم يقض على الترسبات العنصرية، وعمقت العولمة ظاهرة التفاوت الطبقي واستفحلت أزمة المهمشين في الضواحي والأخطر من ذلك هو الحملة الرامية لتفريغ المفاهيم غير المطابقة مع قيم السوق من المعنى.

لاحظت الكاتبة أنه بالتزامن مع ذكرى اغتيال الثائر الأرجنتيني غيفارا شهدت باريس سعيا يتمحور لإسقاط أسطورة تشي. كما رحبت باريس بالروائية البنغلاديشية تسليمة نسرين وتوجتها بجائزة سيمون دوبوفوار، مع أن ما كتبته متواضع إبداعيا، غير أن ما وضعها على منصة النجومية هو هجومها على الأديان والإسلام على وجه الخصوص.

ما يهم الإعلام الفرنسي هو تطويع اللاجئين لإدانة الثقافة العربية والإسلامية وهذا ما أبت الكاتبة الانضواء إليه. ويستحيل في فرنسا أن يكتسب المهاجر صفة المواطنة إذا لم يتخل عن ذاكرته. ويندمج في حفلة تنكرية.

تشير الكاتبة بنباهتها إلى الفوضى القيمية وخلط الأوراق فلم يعد اليسار يسارا ولا اليمين يمينا قد تصادف وريث أبرز الثوار ملفعا بعباءة العقل الثيوقراطي أو ترى يساريا يلوح بالمنشورات الرأسمالية راكبا قطار المحافظين الجدد.

ينفتح تيار السرد في هذا الكتاب على قصص فرعية تعبر عن أصوات المهمشين الذين توقعوا بأن في باريس يختم الشمع على فصل الجحيم. لا تكتم لطفية الدليمي خيبتها بالأصدقاء العراقيين لاسيما المتموضعين في منطقة اليسار، فيما تشيد بالأصدقاء من سوريا وتونس والمغرب الذين خففوا عنها مرارة الاغتراب والوحدة.

ما يجدر ذكره في هذا المقام أن الكاتبة نجحت بحسها الإبداعي في تنظيم المادة المروية ضمن الأقسام الموزعة على الحلقات السردية التي تتبع لونا ذاتيا تارة لا يغيب فيها صوت الكاتبة وتميل تارة أخرى إلى لون موضوعي عندما يتناول السرد ظروف الشخصيات الأخرى أمثال سفيتلانا البلغارية أو تمارا الشيشانية أو الجزائرية يمينة.

ما يتابعه القارئ في هذا الكتاب ليس مجرد يوميات الحرب والمنفى أو أدب الرحلة أو ما تبوح الكاتبة عن مزاجها الشخصي بل محلمة إنسانية، وإذا كان لكل نص شفيرته التي تكسبه هوية فإن شفيرة ما ترويه لطفية الدليمي هي الصدق والابتعاد عن لهجة تضخيم الذات.

13