أكاديميون وفنانون يناقشون سطوة النفعية على الإبداع والبحث العلمي

صار كل شيء اليوم مرتبطا بسؤال النفع في أقصى سطحياته، نفع آني سريع يشبه اللذة الطارئة، شيئا فشيئا تتحول أفعال البشر كلها إلى ميزان النفع، مقيدة إياه فيه، ويخسر بذلك البشر الكثير من أفعالهم الحرة والخلاقة على غرار التأمل والإبداع. وقد اختار أكاديميون تونسيون أن يناقشوا هذه المسألة الملحة من زوايا مختلفة.
على امتداد ثلاثة أيام نظم المعهد العالي للفنون الجميلة بنابل – جامعة قرطاج فعاليات الملتقى الدولي “الإبداعية والنفعية: مشاغل للبحث العلمي في الفنون والإنسانيات”، والذي تواصلت فعالياته من الرابع والعشرين إلى السادس والعشرين من أبريل الجاري.
وشهد الملتقى مشاركة العديد من الأكاديميين والفنانين من مختلف الاختصاصات العلمية والفنية واختصاصات من العلوم الإنسانية، من تونس والأردن والجزائر وغيرها، لتكون ورقاته المقدمة بالعربية أو الفرنسية مقاربات تفتح الموضوع من أكثر من جانب، وهو مدعاة نقاش ضروري اليوم في ظل انتشار واقع نفعي بامتياز.
تبضيع الإبداع والبحث
منذ أفلاطون وأرسطو والإبداع مرتبط بتلك الجدلية التي تراوح بين الذات والآخر والمحيط، بين انتماء الذات إلى محيط لغوي وثقافي وجغرافي واجتماعي إلخ وتميزها عنه، بين الإلهام (الذي يبقى محل جدل) والحلم والإنجاز الجمالي والفكري والشعوري، بينما جاء علم النفس ليدخل بنا مع فرويد إلى الأسس النفسية للإبداع، دون إغفال لعلاقة الإبداع بالآخر بصفته مثلا مصدر الكبت أو الصدمة وغيرها من حالات متعددة.
في تلك الجدلية بين الذات والآخر تتشكل الإبداعية ما يذهب بنا بشكل أساسي إلى السؤال: هل الإبداع إنتاج للذات فحسب أم هو إنتاج ذاتي موجه للآخر؟ ما حاجة الآخر إلى إبداع مبدع ما؟ أو ما نفع الذات من الإبداع والإبداعية عموما سواء كان خاصا بها أو لغيرها؟
أسئلة غاية في الأهمية ناقشها الملتقى من جوانب مختلفة، ليقف على مسألة باتت ملحة اليوم بشكل كبير، خاصة في عالم التبضيع الذي تحول فيه حتى الإبداع الفني إلى سلعة، وصارت أسواق الفن تحكم وتتحكم في التوجهات الفنية والإبداعية، علاوة على تعدد معاهد تدريس الفن، والتي يرجو طلابها من دراستهم له نفعا خاصا، بينما تحولت الجامعات من مراكز للبحث إلى حدائق خلفية لرؤوس المال.
في جلسة اليوم الثاني من الملتقى استعرض الفنان والأكاديمي التونسي ناصر بالشيخ في رئاسته للجلسة الثانية للملتقى تاريخ جامعات الفنون الجميلة التي انطلقت تابعة لوزارة الثقافة ثم أدرجت ضمن وزارة التعليم العالي تابعة لكلية العلوم والتكنولوجيا.
وهي مفارقة، حيث كان التدريس الجامعي مرتبطا في الأساس بنفعية ما (وظيفة) في نهايته. ولم يكن معلوما أي نفعية في الفن. علاوة على ذلك بين بالشيخ كيف كان اعتبار الفنون التشكيلية تطبيقا وليست تنظيرا، وهذا التمشي فرنسي الأصل يفصل بين النظري والتطبيقي، بينما التطبيق الفني هو رؤية للعالم في حد ذاته. ولفت إلى خطورة تبضيع البحث وتبضيع الجامعة.
وتحدث سالم بن لباد من الجزائر عن تأثير التكنولوجيا على البحث العلمي وإشكالية الحفاظ على التراث الثقافي، منطلقا من تساؤل حول علاقة هذا العنوان بمسألة الإبداعية والنفعية، مضيفا “ما أنتجه الإنسان القديم وأصبح اليوم تراثا كان له جانب نفعي، في مواجهته للطبيعة”.
مداخلات تكشف ملامح مستقبل البحث العلمي ودراسة العلوم الإنسانية والفنون وعلاقتها النفعية ببيئتها خارج أسوار الجامعة
وهنا لفت إلى أهمية الرقمنة وعلاقتها بالبحث العلمي، وخاصة أننا في عصر الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه تسهيل البحث، ليخلص إلى أهمية التكنولوجيات في الحفاظ على التراث اللامادي، لكن بالمقابل فإن تعاملها مع التراث المادي يمكن أن يتسبب في السطو عليه وتحريفه وغيرهما من المضار.
لكن تعليق بالشيخ حول إمكانية استغلال الرقمنة في الإبداع لا المحافظة على التراث فحسب، قاده أيضا إلى انتقاد التوجه القدسي للحفاظ على التراث، مشددا على أن التراث أصلا كانت فيه لكل مبدع خصوصيته. والتشدد في حفظه يعني تجميده وغياب روح الثورة فيه.
وإن تحدث العربي الطاهري في مداخلته بعنوان “الثقافة الأكاديمية في مواجهة ثقافة التفاهة” عن نظرية آلان دونو التي باتت رائجة كثيرا اليوم في تفسير نظام التفاهة الذي يحكم العالم، فإنه لم يقدم كيف يمكن مواجهة هذا النظام وأي خطاب أكاديمي فوقي يمكنه الوقوف أمام نظام شامل يحكم الفرد من سريره إلى طريقه ومن عالمه إلى أبعد أفكاره وأحلامه وهواجسه.
وتناولت الفنانة والأكاديمية نسرين لمين إعادة التفكير في التعبير الأكاديمي في الفن منطلقة من سؤال غاية في الأهمية “ما حاجة دولنا إلى طلبة الفنون الجميلة؟”، متابعة “كيف يمكن لطلاب الفنون الجميلة أن يكونوا عناصر فاعلة؟” وإن كانت ترى أن الحل يكمن في التشبيك بين وزارة التعليم العالي ووزارة الثقافة لخلق نفعية شغلية لدراسة الفنون، فإن ذلك يبدو بعيد المنال اليوم في ظل واقع تشغيلي هش في تونس ووزارة ثقافة تعاني تخمة موظفين. وربما الحل أكثر في تشبيك أشمل لخلق صناعة ثقافية حقيقية وهذا أمر آخر أبعد من النفعية الآنية.
ثلاث أطروحات
أسس الملتقى مداخلاته على ثلاث أطروحات، في أولاها قرأ مسألة غاية في الأهمية تتمثل في “كونية الجامعة وتجاوزها لكل أنواع السلط” وهي “بذلك تُقاوم الابتذال حتى لا تتحول إلى حديقة خلفية للمؤسسات والشركات متعددة الجنسيات”، مؤكدا على أهمية تحرير الجامعات من كل وصاية وتحرير طاقاتها المعرفية الكامنة في الفكر والبحث والفنون.
وبحثت الأطروحة الثانية في مسألة “النفعية المباشرة شرطا أساسيا وضمانة لازمة لجودة المنتج البحثي الجامعي” إذ جاء في كلمة المنظمين أن البحث الذي يفصل الفكرة عن نتائجها العلمية وآثارها النفعية المباشرة يعتبر عبثيا وغير مُجْد.
أما الأطروحة الثالثة فتتصدى لمسألة تأسيس جامعة مستقبل تُؤلف بين الوسائل والغايات، في محاولة لردم الفجوة بين المنتج العلمي للجامعات والنسيج الاقتصادي والثقافي للمجتمع.
وتتالت المداخلات التي ناقشت قضايا هامة في هذا الإطار نذكر منها مداخلة الباحث نبيل القناوي “في البحث عن براكسيس نفعي في مجالب نظريات الإبداع الفني”، والأكاديمي الجزائري مفلاح بن عبدالله “البحث العلمي في العلوم الإنسانية والمقاولاتية: تقاطع أم تصادم”، بينما قدمت الأكاديمية مديحة شرف الدين مداخلتها “تفسير العالم وماذا أيضا” (بالفرنسية).
ونجد مداخلات أخرى مثل “البحث الإبداعي في الفنون البصرية: التدريس والأنشطة العلمية” للأكاديمي وسام عبدالمولى، فيما قرأ محمد بن رمضان “الأبعاد النفعية والإبداعية للتوثيق السينمائي”، وتناول الصادق بن تركية مسألة “النفعي والإبداعي في الممارسات التشكيلية الموجهة للفضاء العام”، بينما درس الأردني محمد العلاونة “رهانات النجاعة والتشغيلية في جامعات الفنون والعلوم الإنسانية في العالم العربي”.
وتتالت المداخلات على امتداد ثلاثة أيام واكبها طلبة معهد الفنون الجميلة بأعداد هامة، إذ يلامس الموضوع اهتمامات ضرورية اليوم في كشف ملامح مستقبل البحث العلمي ودراسة العلوم الإنسانية والفنون وعلاقتها ببيئتها خارج أسوار الجامعة. وهو موضوع يحتاج إلى تعميق البحث فيه بأشكال جدية لخلق منظومة جامعية أكثر تكافؤا ولإعادة فهم الفن والعلوم الإنسانية التي يعاني طلابها من هامشية كبيرة.
إضافة إلى ذلك يمكن لمثل هذه الملتقيات أن تعيد تقييم الدرس الجامعي والبحث الأكاديمي وتدريس الفنون لتحرير الجامعات من سطوة النفعية السطحية التي ما انفكت تتسع بشكل مخيف في المجتمع التونسي على غرار بقية المجتمعات الأخرى.