التراث المعماري البحريني.. تجسيد للجمال والاستدامة مع القيم الاجتماعية

مهدي الجلاوي: المعمار البحريني يراعي خصوصية المناخ ويحافظ على هوية المنطقة.
السبت 2024/04/20
تراث يراعي قيم المجتمع وأهداف الاستدامة

يمتلك التراث المعماري البحريني خصوصيته التي تراعي هوية البلد وثقافته وعادات وتقاليد أهاليه، وهي خصوصية ميزت المملكة في منطقة الخليج وبين الدول العربية، ودفعتها إلى السعي نحو الاستدامة عبر مواكبة التكنولوجيا مع الحفاظ على فرادة التصميم.

تتسم العمارة البحرينية بأسلوبها المبتكر والمستدام، حيث كانت تصمم بطرق تلائم الظروف المناخية والثقافة المحلية، وهو ما يجسد قدرة الإنسان على تكامله مع البيئة المحيطة والاستفادة من مواردها.

وكانت المباني البحرينية قديما تجمع بين التصميميْن الجمالي والوظيفي، ما جعلها تتحمل اختبار الزمن وتحافظ على جمالها وقيمتها حتى اليوم. فيما تأتي توجيهات العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة بالمحافظة على الهوية التاريخية والثقافية للمباني والمدن في البحرين كخطوة حاسمة نحو الحفاظ على هذا التراث المعماري.

في هذا السياق قال المهندس المعماري البحريني مهدي الجلاوي في حديث مع “العرب” إن “عمارة الخليج متأثرة بالفكرة الإسلامية التي تشدد على جمال الروح وقوة الجسد من الداخل، مع الابتعاد عن المفاخرة والتباهي، فالمدن وحتى البيوت تكون بسيطة ومتشابهة من الخارج، ولا تظهر مكانة وثراء صاحبها إلا عند الدخول إليها”.

عمل الجلاوي في عدة مشاريع وطنية تهدف إلى الحفاظ على التراث المعماري في البحرين، من بينها مشروع “مسار اللؤلؤ”، إذ يعد أحد المعماريين الخمسة الذين أسسوا المشروع، كما ساهم فيه كمرجع للمواد العلمية والمعمارية لبناء التصور العام للمشروع، فضلا عن تصميمه للهوية البصرية للمشروع في الملف المقدم إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، حيث يعد “مسار اللؤلؤ” ثاني معالم البحرين المدرجة في قائمة التراث العالمي لليونسكو.

المباني البحرينية تجمع بين التصميميْن الجمالي والوظيفي، ما جعلها تتحمل اختبار الزمن وتحافظ على جمالها وقيمتها

وحول ما إذا كانت للعمارة البحرينية هوية مستقلة، لفت المهندس البحريني إلى “تأثر الجزر بالمحيط وبالزوار، ولاسيما جزيرة البحرين الواقعة في موقع جغرافي إستراتيجي هام عبر الأزمنة والحضارات، وبالتالي فإن عمارتها تتأثر من ناحية النمط والشكل، والمواد المستخدمة وأساليب البناء، والفكرة والروح السائدة”.

وأضاف “هناك تشابه كبير بين أحياء وبيوت العاصمة المنامة القديمة ومسقط القديمة، وهذا أمر قد يبدو مقبولا. غير أن التشابه الكبير بين المنامة ومدينة لامو في كينيا أمر يبدو غريبا، لكن الباحث في الأمر سيرى أنه أمر منطقي نظرا لوقوع المدينتين على طريق التجارة البحري بين البصرة وزنجبار، وتجمعهما أمور كثيرة من بينها نمط العمران”.

وذكر أن “العمارة البحرينية القديمة تتميز بأبوابها ونوافذها الخشبية المزخرفة، وغالبا من خشب الساج، واستخدام الأشكال الهندسية والأقواس. أما من ناحية الألوان فتسود الألوان الترابية الفاتحة مع إدخال بعض الألوان مثل الأزرق والأخضر والأحمر في أماكن محددة ولعناصر معينة”.

وفيما يتعلق بالمواد المستخدمة في العمارة البحرينية قديما أشار إلى “استخدام المواد الطبيعية المحلية من البحر والنخيل والصحراء، بالإضافة إلى مواد مستوردة من الهند وزنجبار والبصرة”.

قيم اجتماعية

مهدي الجلاوي: التراث المعماري البحريني يحمل قيمة الاستدامة التي تظهر في استخدام المواد الطبيعية واحترام الطبيعة
مهدي الجلاوي: التراث المعماري البحريني يحمل قيمة الاستدامة التي تظهر في استخدام المواد الطبيعية واحترام الطبيعة

أوضح الجلاوي أن التراث المعماري في البحرين يحمل في طياته قيما من بينها المساواة، التي تتجلى في عدم التباهي وإظهار المكانة الاجتماعية من خلال البناء الخارجي، مقابل التركيز على الداخل والبساطة وعدم التعقيد، واحترام المارة والجار عبر الحلول التصميمية للعمارة. ثم تبرز قيمة الخصوصية التي تتمثل في عدم كشف المنزل للخارج وعدم فتح أبواب البيوت أمام بعضها البعض، إضافة إلى كون فناء المنزل في وسط البيت نفسه وليس مطلاً على الخارج.

واستطرد متابعا “يحمل التراث المعماري البحريني كذلك قيمة الاستدامة التي تظهر في استخدام المواد الطبيعية واحترام الطبيعة، مع أساليب مبتكرة في التصميم لتقليل استهلاك الطاقة، مثل المشربيات التي تُدخل الضوء بشكل غير مباشر إلى البيت، وملاقف الهواء التي تلقف الهواء إلى المنزل، والوارش الذي يعمل على تبريد الأسطح وفراغات الجدران، بالإضافة إلى قيمة التوفير، حيث يتم بناء المساحات الوظيفية فقط وبالأحجام المطلوبة، دون بناء ما لا حاجة إليه، كما تتعدد استخدامات الفراغات والمساحات”.

اهتمام حكومي

مشروع مسار اللؤلؤ
مشروع مسار اللؤلؤ

أكد الجلاوي، الذي بدأ مشواره المهني استشاريا محليا ومساعدا أول في مشروع تحسين القدرات للحفاظ على التراث المعماري في البحرين مع خبراء عالميين في التصميم الحضري، أن الدولة والمسؤولين مهتمون بالحفاظ على الإرث المعماري في البحرين.

غير أنه استدرك لافتا إلى الحاجة إلى “مجهود متنوع بمستويات مختلفة، وفي بقعة جغرافية غير مركزة، إلى جانب تدريب عدد أكبر من الكفاءات الوطنية الشابة في المجال لإعداد جيل صاعد يسهم في الحفاظ على التراث المعماري”.

وكان العاهل البحريني الملك حمد بن عيسى آل خليفة قد وجه في أكتوبر الماضي بالمحافظة على الهوية التاريخية والثقافية لمباني ومدن البحرين، وتطوير مدينة المحرق بما يحفظ هويتها التاريخية والثقافية.

وفي هذا السياق أطلقت هيئة التخطيط والتطوير العمراني في البحرين دليلا إرشاديا للتعمير في مناطق التراث العمراني، يتضمن إستراتيجية شاملة تعكس غنى الحضارة البحرينية، وتحقق التوازن بين التراث المعماري المحلي والابتكار والحداثة في التصميم.

ورأى الجلاوي أنه “يمكن تحقيق التوازن المثالي بين احترام التراث المعماري وتلبية احتياجات وتطلعات المجتمع المعاصر من خلال حفظ الروح والفكرة الرئيسية من جانب، وبتعريف المجتمع المعاصر به وبسماته من جانب آخر”، في إشارة منه إلى أن “اعتماد الحلول المعمارية المستنبطة من التراث المعماري والمطورة منه يحقق التوازن السليم”.

التكنولوجيا والاستدامة

التراث المعماري في البحرين يحمل في طياته قيما من بينها المساواة
تراث معماري  يحمل في طياته قيم المساواة

إثر سؤاله عن كيفية توظيف التكنولوجيا الحديثة في الحفاظ على التراث المعماري، بيّن أنه “يمكن توظيف التكنولوجيا على عدة أصعدة، مثل التوثيق، وإيجاد حلول الصيانة والتحسين، وإدارة المباني وتطويرها، ودراسة الاحتمالات المستقبلية”.

وأضاف مهدي الجلاوي أن “طرق توظيف التكنولوجيا تشمل استخدام مواد البناء المبتكرة للحفاظ على المباني والعناصر المعمارية، والعمل في المختبرات الحديثة التي تعمل على تشخيص المشكلات ونقاط الضعف في المباني. كما يمكن استخدام التقنيات الحديثة في تحديد وحفظ الصور والبيانات الخاصة بالتراث وبالعناصر المعمارية بحيث يمكن إعادة بناء المبنى بالاستعانة بها”.

وفيما يتجه العالم نحو الاستدامة في التراث المعماري، أي الحفاظ على المباني والهياكل التاريخية بطرق تضمن استمراريتها وصلاحيتها للاستخدام المستقبلي، مع مراعاة البيئة والموارد الطبيعية، قال الجلاوي إن “مفهوم الاستدامة كان مطبقا في العمارة التراثية والمدن القديمة”.

وتابع موضحا “تم تطبيق هذا المفهوم قديماً في البحرين في عدة جوانب، بدءا من مواد البناء التي تشمل مواد عازلة للحرارة، ومن البيئة المحلية، من بينها مواد تدويرها مثل سعف النخيل والجذوع، مرورا بالتصميم المعماري. فعلى سبيل المثال يستفاد من الحوش -وهو فناء في داخل البيت- في التظليل وضغط الهواء، والوارش -وهو سور السطح- في تبريد المبنى وتهويته. كما أخذت تقنياتُ البناء الاستدامةَ بعين الاعتبار من خلال الحرص على استمرار المهنة على يد العمالة المحلية والمدربة، وطرق البناء التي ركزت على الجودة، مع استخدام مواد صديقة للبيئة”.

وأكد المهندس المعماري البحريني أنه “يمكن تطوير جانب كبير مما سبق والاستفادة منه في العمارة الحديثة، كتوظيف عنصري الهواء والنور في التصاميم، إلى جانب استخدام المواد المحلية واحترامها. كما يمكن التشجيع على ذلك من خلال القوانين البلدية للعمران ومنح جوائز في هذا الشأن”.

13