ثبات فلسطيني يتحدى الفيتو الأميركي

رغم معرفتهم النتيجة مسبقا، ورغم كل الضغوطات الأميركية على مدار الأسبوعين الفائتين والتي وصلت إلى حد التهديد بقطع المساعدات عن حكومة الإصلاح الجديدة المشكّلة حديثا، أصر الفلسطينيون على تقديم طلب الحصول على عضوية كاملة في الأمم المتحدة عن طريق تقديم طلبهم عبر دولة الجزائر.
من أكثر ما يلفت الانتباه هو الصلف والتناقض الأميركيان والثبات المتمثل بالقرار الفلسطيني المستقل الذي يرفض الابتزاز. هذا الصلف الأميركي المعهود الذي لا يكترث بالداخل الأميركي ولا حتى بنظرة دول وشعوب العالم إلى سيدة الديمقراطية في العالم أجمع.. الولايات المتحدة مستعدة للتضحية بصورتها وسمعتها مقابل تحقيق مصالحها والرضوخ لنزوات حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة، والتي بالأمس القريب قام أحد وزرائها وهو إيتمار بن غفير بتشكيل قوة لمهاجمة نشطاء اليسار الإسرائيلي والمتضامنين الدوليين مع الفلسطينيين، وهو ذاته من يطالب بقتل أكبر عدد ممكن من الأسرى الفلسطينيين لحل مشكلة الاكتظاظ في السجون الإسرائيلية.
لا تخفى على متابع حجم الضغوطات الأميركية على الفلسطينيين لثنيهم عمّا ما قاموا به، تلك الضغوطات التي تحدث عنها الفلسطينيون والإسرائيليون والأميركيون أنفسهم، وقد ذكر موقع “ذي إنترسيبت” أنه قبل عقد مجلس الأمن الدولي جلسة للتصويت على العضوية الكاملة لفلسطين، قامت الولايات المتحدة بحملة لإقناع الدول كي ترفض الطلب، على أمل تجنب استخدام الفيتو.
وبحسب بعض البرقيات المسربة من الخارجية الأميركية فإن التطبيع العربي مع إسرائيل هو الطريق الأسرع والأكثر فعالية من أجل التوصل إلى دولة فلسطينية دائمة ومنتجة، وفي الوقت الذي وضّحت فيه الخارجية دأب الرئيس جو بايدن دعم “تطلعات الفلسطينيين بدولة”.
لو وضعنا لامبالاة الولايات المتحدة بصورتها المتناقضة أمام العالم أجمع جانبا وانتبهنا للتبريرات الأميركية، لوجدنا بيت القصيد وراء التصرف الشّائن الذي قامت به، والذي سيظل وصمة عار على جبينها.. فهو يظهر حرصها على التشبث بورقة حصول الفلسطينيين على دولة لتسريع عملية التطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وأنّها ليست على استعداد لخسارة هذه الورقة أبدا مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك سلبية.
الولايات المتحدة تعلم مسبقا مدى الاهتمام والحرص السعوديين على حصول الفلسطينيين على حقوقهم كاملة غير منقوصة، فهو أمر ثابت بالنسبة إلى القيادة السعودية ولا جدال فيه
الولايات المتحدة تعلم مسبقا مدى الاهتمام والحرص السعوديين على حصول الفلسطينيين على حقوقهم كاملة غير منقوصة، فهو أمر ثابت بالنسبة إلى القيادة السعودية ولا جدال فيه. وبالتالي فهو سيكون على رأس الطلبات التي ستقدمها القيادة السعودية للولايات المتحدة للقبول بالتطبيع، وهي (الولايات المتحدة) إن مررت مثل هذا الطلب ستخسر ورقة مهمّة، وتكسب الطرف العربي مكسبا كبيرا، حيث إنه سيسقط من قائمته تلقائيا، ويتيح للمملكة العربية السعودية التركيز بشكل أكبر على جانب التسليح والدفاع المتعلقين بالأمن القومي للمملكة العربية السعودية ودول الخليج العربي عموما.
الفيتو الأميركي الأخير لم يحقق فقط المصالح الإسرائيلية، بل حقق أيضا مصلحة أميركية عليا، وهي ألا يفقد اتفاق التطبيع بريقه بخسارته واحدا من أهم مقتضياته وضروراته، وهذا الاتفاق إن حدث سيكون لا محالة درّة تاج الدبلوماسية الأميركية في كل سنواتها السّابقة.
وبالحديث عن الموقف السعودي الحالي في مجلس الأمن، فقد ظهر الانزعاج السعودي جليا، حيث دعت المملكة العربية السعودية مجلس الأمن إلى قرار تحت الفصل السابع لوقف الحرب بغزة.
ومن ناحية أخرى، يظهر لنا التصميم والإصرار والثبات الدبلوماسي الفلسطيني الشديد. الطرف الفلسطيني لم يرضخ للضغوطات رغم معرفته بالنتيجة مسبقا، ولم يقدم أي تنازل وأصرّ على تقديم طلبه العادل، الأمر أسقط ورقة التوت عن الدبلوماسية الأميركية وفضح تصرفاتها المناقضة لتصريحاتها السابقة، حيث كانت تستخدم الحديث عن إمكانية قبولها بإقامة دولة فلسطينية كنوع من التخدير المؤقت ودغدغة المشاعر العربية والعالمية، وللضغط على حكومة نتنياهو المنفلتة من أي معيار إنساني، وبالتالي فإن هذا الفيتو الشهير زاد من التعاطف والتضامن الدولي مع الفلسطينيين وحقهم المشروع بالحصول على دولة فلسطينية مستقلة.
سيذكر التاريخ استخدام الولايات المتحدة لحق النقض لمحاربة الحق الفلسطيني المشروع، وسيأتي يوما تعتذر فيه القيادة الأميركية عن هكذا تصرف معيب، فهو بات نقطة سوداء في تاريخها المتسربل سرابا ووهما بالديمقراطية وحق الشّعوب بتقرير المصير.