أغاني الأفراح في صعيد مصر فن شعبي لا يغيب

"أفراح الصعيد الشعبية".. كتاب يوثق فنون القول الشفهي المموسق.
الثلاثاء 2024/04/16
أفراح توثق عادات الصعيد وتقاليده

يمتلك الصعيد المصري خصوصياته ومميزاته الثقافية والسلوكية، التي تتجلى في تفاصيل الحياة اليومية وحتى المناسباتية، فالأفراح مثلا تعد نموذجا مهما يوثق لذاكرة المكان والشخوص والتحولات الاجتماعية والثقافية الطارئة عليهم، وهو ما يحاول كتاب “أفراح الصعيد الشعبية” للباحث المصري درويش الأسيوطي تسليط الضوء عليه.

على الرغم من التطور التكنولوجي المُذهل، والانتشار الواسع لمواقع التواصل الاجتماعي، وما فرضته من ثقافات وافدة، وما تمثله من تهديد لتراث الشعوب وعاداتها وتقاليدها، تقاوم الكثير من الفنون الشعبية كل العوامل التي تهدد بقاءها، لتظل في الذاكرة الثقافية للشعوب كي تتناقلها الأجيال من جيل إلى جيل.

وتُعد أغاني الأفراح في صعيد مصر أحد تلك الفنون التي تحفظها الذاكرة الشعبية لتبقى حاضرة لا تعرف الغياب.

وفي كتابه “أفراح الصعيد الشعبية” يجمع الشاعر والكاتب والباحث المصري درويش الأسيوطي ويوثّقُ الكثير من تلك الأغنيات الشعبية التي يرددها الناس في أفراحهم بمدن وقرى صعيد مصر، ويرصد كذلك طقوس ونصوص احتفاليات الزواج والحمل والولادة والختان.

ويوثق الكاتب أيضا ما يصاحب تلك الأفراح والاحتفاليات من أغانٍ شعبية ضمن ما يزخر به صعيد مصر من تراث وموروثات شعبية، يتوارثها الناس عن الأجداد والآباء.

كتاب "أفراح الصعيد الشعبية" جاء في جزأين، واحتوى على الكثير من الأغاني والنصوص الشعبية التي غطت مختلف الأحداث
كتاب "أفراح الصعيد الشعبية" جاء في جزأين، واحتوى على الكثير من الأغاني والنصوص الشعبية التي غطت مختلف الأحداث

كتاب “أفراح الصعيد الشعبية” الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب جاء في جزأين، واحتوى على الكثير من الأغاني والنصوص الشعبية التي غطت مختلف الأحداث التي كانت مناسبة للفرح والابتهاج لدى أهل صعيد مصر.

وتوقف مؤلف الكتاب عند الظواهـر المختلفـة المتعلقة بالأفـراح الشعبية التي تنتشـر في صعيد مصر، والتي عكف على دراستها وتدوينها، مستخدما حسـه الشاعري في التقاط فن القـول الشفهي المموسـق، ووعيـه البحثي في تأصيـل مرجعيتها العرفية، وكأنـه يقـدم لنـا لـوحـة مكتملة الألوان لكرنفال الفـرح الصعيدي الموشى بالغناء الآسـر.

وبحسب الكتاب، فإن “الموروث الشفهي الشعبي هو فن القول التلقائي العريق، المتداول بالفعل، والمتداول جيلا بعد جيل، والمرتبط بالعادات والتقاليد والحرف”.

ويشير درويش الأسيوطي في مقدمة كتابه إلى ارتباط الموروث الشفهي الشعبي بالقدم الذي منحه العراقة، بجانب احتفاء الموروث بالخرافة والأساطير، وهو الأمر الذي اعتبره المؤلف دليلا على النضج الفني لتلك النصوص الشفهية الشعبية، بجانب تميز هذا الموروث بالمرونة، لافتا إلى أن شفهية الموروث الشعبي لا تلزمه بحدود جامدة، ومن هنا تمكن الإضافة إليه أو الحذف منه.

ويلفت المؤلف أيضا في كتابه إلى تداخل فن القول، الذي يُعَبّرُ عنه بـ”الموروث الشفهي”، مع فروع الفنون الأخرى مثل الرسم والتصوير والرقص والغناء والتمثيل، وشيوع ظاهرة التكرار في الموروث الشفهي، وهو تكرار اعتبره المؤلف ضرورة إبداعية.

ومن الأمور اللافتة في الموروث الشفهي الشعبي، التي يدلنا عليها الكتاب، تحوير المفردات، حيث يعمد المبدع إلى تحوير المفردة لتناسب البنية الفنية التي هو بصددها، واعتماد ما يوصف بـ”حيل التحوير” مثل الإبدال والقلب وإضافة الحروف وحذفها، مع ذيوع البيان اللغوي والتصوير الفني والتعبير الرمزي.

وأورد كتاب “أفراح الصعيد الشعبية” نصوص غناء البنات الصغيرات، وأغنيات الخطبة، والأغنيات المصاحبة لطقوس الزواج كـ”ليلة الحنة” و”ليلة الدخلة” و”الصباحية”، والأغنيات التي تصاحب طقس “الميلاد” و”السبوع”، ثم الأغنيات المصاحبة لطقوس الختان وغيرها من الأغنيات التي تميز كل مناسبة عن أخرى.

ويعـد “الحنين” أو “مـديح النبي” محمد، أو الأغاني التي تغنيها النساء بمناسبة حج بيت الله الحرام في مكة المكرمة، وزيارة قبر الرسول محمد، في المدينة المنورة من أبرز ما يغني في هذه المناسبة.

الموروث الشفهي الشعبي هو فن القول التلقائي العريق، المتداول بالفعل، والمتداول جيلا بعد جيل، والمرتبط بالعادات والتقاليد

و”الحنين” لون من ألوان الغنـاء الشعبي التي تغنى بمناسبة سفر الحجيج إلى الأراضي الحجازية المقدسة، لأداء مناسك الحج أو العمرة، وهناك ألوان غناء أخرى ترتبط بتلك المناسبة، مثل المدائح النبوية، وهي مدائح بالفصحى أو بالعامية مثل قولهم:

“أنا – للنبي – أنا قلبي تَوَلّعٌ/ حبيبي النبي واللي صلّى عليه/ يا بخت من زارك يا محمد/ رب العباد يرضى عليه”.

وهناك أيضا أناشيد الذكر الصوفي، وهي التي تصاحب الطقس المعروف بالذكر، والمقصود هنا هو ذكر الله، وقد تكون تلك الأناشيد بالفصحى أو باللهجة الدارجة.

وعندما يتغنى المنشد وبطانته بالفصحى يختار من الأبيات الصوفية ما يتناسب مع الموقف من التعبير عن الشوق والحنين فيقول:

“لقد ذاب قلبي من فراق أحبتي/ وقد سهرت عيني وزادت بليتي/ حرام عَليّ الدار حتى أراكمو/ وأنظر في تلك الوجوه بمقلتي”.

وتشير فصول الكتاب إلى أنه كما تختص النساء في صعيد مصر بإبداع ما يُعرف بـ”أهازيج المهد” -أي أغنيات ملاعبة وتنويم الأطفال- و”العديد” -والمقصود بها المرثيات الشعبية للموتى – و”الحنين” -أي أغاني النساء المصاحبة لمواسم الحج والعمرة- ومعظم أغنيات الأعراس والميلاد والختان وغير ذلك، بجانب مشاركة المرأة في إبداع معظم الحكايات الشعبية، مثل حكايات الجدات، مع أغنيات العمل وجمع المحاصيل، فإن الرجل في صعيد مصر قد أبدع الكثير من فنون الغناء التي أشار إليها كتاب “أفراح الصعيد الشعبية”، مثل كحداء الإبل، وأغنيات العمل، والموّال، وفنون التسابق؛ كفن المربعات مثل الواو والنميم، والمواويل المقفولة، وأغنيات جلسات الرجال في الأفراح مثل “فن الكف”، بجانب السير والملاحم والحكايات وفنون الاحتفالات الشعبية.

ل

ومن مظاهر الأفراح الشعبية في صعيد مصر، والتي استعرضها الكتاب، “زفة البنات” التي تبدأ فور تحديد موعد حفل الزفاف، وتستمر حتى ما قبل ليلة الزفاف، وهو احتفال يستمر لليالٍ طوال، وفيه تتجمع البنات والنساء والصبية من هم دون العاشرة في مكان متسع من بيت العروس، عقب صلاة العشاء من كل ليلة، يغنون ويرقصون وربما شاركتهم العروس بالرقص والغناء.

وتعد زفة البنات الاحتفال الرئيسي لعائلة العروس، فلا يجتمع شباب العائلة للاحتفال بزواج البنت، لذلك يقتصر الأمر على زفة البنات.

ويحرص الرجال على الابتعاد عن مكان احتفال النساء حتى تتاح لهن فرصة اللهـو والغناء بحـرية، خاصة وأن غناء الأفراح الشعبي فيه الكثير من الخروج عن القـواعـد الصارمة المعتادة للنساء في صعيد مصر.

ومن الأغنيات التي تتردد في “زفة البنات”:

“يا أبواللبـايش يا قصب (اللبايش تعني حزمة أعواد القصب) / الـفـرح عـنـدنـا اتـنصب/ جاب الفستان على قدها / نزلت تـفـرج عـمهـا / شـافـهـا العـريس وقـال لهـا / تسلم عـيـون اللي خطب”.

وهكذا وبحسب الكتاب، فإن الموروث الشفهي والأغاني الشعبية والفنون التي تنتشر في الأفراح الشعبية بصعيد مصر تتعدد وتتنوع، وتحمل طابعا خاصا يعبر عن خصوصية صعيد مصر وتراثه وموروثه من الأغاني والفنون الشعبية.

يُذكر أن مؤلف الكتاب درويش الأسيوطي هو شاعر وكاتب مسرحي وباحث في شؤون التراث الشعبي، بدأ مسيرته مع الكتابة عام 1966، وأصدر خلالمسيرته الإبداعية المستمرة حتى اليوم العشرات من الدواوين والكتب والدراسات المتنوعة، كما نال عددا من الجوائز والتكريمات المصرية والعربية.

14