القطيعة بين التونسيين والثقافة تدق ناقوس الخطر

أسباب القطيعة كثيرة والإصلاح مطلب ملح.
الجمعة 2024/03/29
يجب الاستثمار ثقافيا في الأجيال الجديدة

تزخر تونس بمعالم تاريخية عريقة تؤكد الإشعاع الحضاري لهذه البلاد، التي قدمت الكثير للثقافات الإنسانية، ورغم المسار التنويري الذي قادته النخبة التونسية بعد الاستقلال، معتمدة على الثقافة والتعليم، فقد تراجع المشهد الثقافي لينغلق في نخبويته، وهجر التونسيون أغلب الأنشطة الثقافية والفنية في مؤشر خطير على المستقبل.  

يؤكد الاستطلاع الذي أنجزته مؤسسة إمرود كونسيلتينغ مؤخرا الخلل الكبير في علاقة التونسيين بالثقافة والتراث رغم ما تزخر به تونس من معالم تاريخية ومتاحف وآثار وما تقدمه من تظاهرات ثقافية منتشرة من شمال إلى جنوب البلاد أغلبها مجاني.

الأرقام التي قدمها الاستطلاع مفزعة بالفعل إذ أن 94 في المئة من المستجوبين ليسوا منخرطين في مجموعة أو في ناد ثقافي، و81 بالمئة لم يحضروا منذ سنة أي تظاهرة ثقافية أو فنية، و70 بالمئة لم يزوروا أي مهرجان أو موقع أثري ولا معلما تاريخيا أو متحفا خلال الأشهر الـ12 الأخيرة.

وبين مدير المؤسسة نبيل بالعم في تصريح إعلامي أن “التونسي لا يرفض الثقافة بل هناك إشكال متعلق في كيفية الوصول إليها، كما غابت عنه سلوكات تدفعه إلى الأنشطة الثقافية”. وهذا جزء من الإشكال الذي تبدو جذوره عميقة في نسيج المجتمع التونسي، وتتداخل فيه مجالات مختلفة من السياسة إلى التعليم إلى الجغرافيا إلى الخطاب الديني وغيرها.

أسباب القطيعة

آثار العلاقة الباردة بين التونسي وثقافة بلده ومثقفيه وفنانيه وتاريخه وإرثه ستكون كارثية ما لم يقع تداركها

لا نحتاج إلى التشكيك في الأرقام الخطرة التي قدمها الاستطلاع، تكفي إطلالة على التظاهرات الثقافية، ومناطق تركزها في العاصمة تونس والمدن الكبرى، وغياب الجمهور عن أغلبها، لنتبين حجم القطيعة التي توسعت بين التونسي وكل ما هو ثقافي وفني في بلاده.

من المؤسف ألا يحضر أمسيات الأدب أو المحاضرات أو المعارض أو الفعاليات الفنية مثلا عدا من يقدمونها وأهاليهم وأصدقائهم في أحسن الأحوال. من المؤسف أن تعاني المتاحف الهامة قلة الإقبال وأخرى الإغلاق مثل متحف قرطاج.الأسباب عديدة لابتعاد التونسيين عن كل ما هو ثقافي، وأولها اقتصادي، إذ يعاني التونسيون من التضخم وغلاء المعيشة علاوة على البطالة التي تهدد ما يقارب نصف شباب تونس. العائلات التونسية تُجهَد لتوفير القوت في ظل أسعار لا تتوقف عن الارتفاع، وفي ظل وضع عام يبدو للكثيرين ضبابيا ومحبطا. وبالتالي تبقى الثقافة بعيدة عن الاهتمام.

وإن كان هذا من أسباب عزوف التونسيين عن الثقافة فإن المشكلة أعمق من مجرد أزمة اقتصادية، هناك تظاهرات مجانية ومع ذلك لا يحضرها أحد. إنه خلل أخطر بكثير يهدد البلد الذي لطالما اعتبر رمزا للتنوير والحداثة بين البلدان العربية.

لو نسأل التونسيين عن رأيهم في الفن والثقافة، فربما ستصدمنا رؤى فئة واسعة منهم، ممن يعتبرون الفنون مثل السينما أو المسرح أو الرقص أو الرسم وحتى الكتابة وغيرها خارجة عن الأخلاق والدين، وبالتالي فهي منكرة، وفي أحسن الحالات هي أمر ثانوي جدا ومن المحبذ اجتنابه.

ربما كان لسنوات ما بعد الثورة التأثير الخطير على شريحة الشباب خاصة بما تم بثه فيهم من خطاب ديني مشوه ساهمت في انتشاره هيمنة الإخوان على الحكم في تونس ودول عربية أخرى، ما بعد ثورة الشباب المنادي بالحرية والكرامة. كما ساهم في توسعه النظام التعليمي الذي لم يتطور ولم يواكب المتغيرات وخاصة ما يقدم من خطابات سامة عبر شبكات التواصل والقنوات وغيرها من وسائل باتت أدوات تثقيف في ظل عجز المنظومة التعليمية وتقادمها.

من ناحية أخرى وبالتركيز أساسا على المنظومة التعليمية فإنها فشلت في الحفاظ على تمش سابق حاولت خلقه دولة الاستقلال مثلا في القومية التونسية، بما لتونس من خصائص حضارية وثقافية تميزها عن غيرها وأنتجت للعالم العربي رموزا تنويريين كبارا على غرار الطاهر الحداد ومحمد الطاهر بن عاشور وخير الدين باشا والحبيب بورقيبة وغيرهم.

أسباب القطيعة كثيرة من اقتصادية إلى تعليمية إلى غياب الصناعة الثقافية وانفصال ما يقدمه المبدعون عن واقعهم

لا نجد في النظم التعليمية تركيزا كبيرا على تراث تونس ومعالمها التاريخية بشكل يجذب الطالب، علاوة على غياب مواكبة الساحة الثقافية والفنية التونسية وغياب الأنشطة الفنية والنوادي الثقافية بشكل مخجل. لو زرنا معاهدنا وجامعاتنا وسألنا الأساتذة لا الطلاب عن أعمال إبداعية جديدة أو مبدعين معاصرين، ربما أغلبهم لن يجيب البتة، فما بالك بطلابهم.

القطيعة مخيفة بين مؤسسات التعليم والساحة الثقافية، وهذا لا ينفي وجود محاولات فردية هنا وهناك، لكنها لا تكفي.

من ناحية أخرى ربما تعود أسباب القطيعة إلى المبدعين أنفسهم، إذ ما يقدم في أغلبه لا يستميل شرائح واسعة من التونسيين، بل هو موجه إلى فئة صغيرة، إذ تهيمن على الساحة الثقافية أسماء بعينها، وتحكمها توجهات قديمة لنسميها كما هي فرانكوفونية، ولهذه الحركة ميزاتها طبعا ولسنا ضد الفرنسية أو أي لغة أو ثقافة أخرى، لكن أن تكون التوجه الأوحد يقودها أناس منعزلون تماما عن مجتمعهم هو ما يكرس احتكار الثقافة وبالتالي انعزالها في نخبوية معينة.

ربما لم ترتق ذائقة التونسيين إلى العديد من الأعمال التي توجه إليهم، (وهنا يتهم التعليم الذي لم تعد الدولة تراهن عليه)، وفق ما يراه مبدعون كثيرون، لكن أيضا يعاني التونسي من صعوبة الوصول إلى المنتج الثقافي كتابا أو مسرحية أو فيلما أو حفلا أو غيره نظرا لتركز النشاط في العاصمة تونس والمدن الكبرى التي لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، رغم انتشار دور الثقافة في مختلف الجهات، إلا أنها لا تقدم نشاطات ثقافية بجودة ما يقدم في المدن الكبرى. وقد خصصنا مقالا سابقا في “العرب” للحديث عن أزمات دور الثقافة المتهالكة بعنوان “دور الثقافة التونسية من مؤسسات منتجة إلى مبان خاوية”.

رغم جهد السلطة للأنشطة الثقافية ممثلة بوزارة الثقافة التي تدعم المبدعين وأعمالهم وتنظم الفعاليات الثقافية الكبرى والصغيرة، والتي كما أسلفنا يكون أغلبها بالمجان، فإن الفعل الثقافي مازال لا يلقى الإقبال الكافي، خاصة في المناطق الداخلية حيث يكثر الفقر ويعم الإحباط ويتمدد الانغلاق. ربما يعود ذلك إلى ضعف تنظيمي أو تراجع الجودة، خاصة وأن الإنترنت فتحت أعين الجميع على مستويات فنية وثقافية عالية. وبالتالي فالثقافة المجانية الرديئة منفرة ولا يمكنها أبدا أن تدفع باتجاه الأمل (وهذه وظيفة الثقافة)، ولا يمكنها استقطاب الجمهور شأنها شأن الثقافة التي تفصلها السلطة على مقاس مصالح أشخاصها.

يغيب في تونس مبدأ هام للغاية هو الصناعة الثقافية، لا نبالغ إن قلنا بانعدام هذه الصناعة، كما ينعدم الإيمان بأن الثقافة قوة ناعمة هامة يمكنها خلق تنمية مستدامة. (مثلا لنرى حال مسرح الجم الأكبر والأكثر اكتمالا من مسرح الكوليسيوم في روما، ونرى كيف استثمر الإيطاليون معلمهم وكيف استثمر التونسيون معلمهم).

السلطة اليوم مثل سابقاتها لا تولي الثقافة الاهتمام الذي تستحقه، يكفي أن نشير إلى أن وزارة الثقافة بلا وزير إلى اليوم

ما يحرك الساحة الثقافية والفنية هم الأفراد أو التجمعات الأيديولوجية أو الجماعات التي تربطها مصلحة ما، لا معايير راسخة لخلق حركية ثقافية ديمقراطية، تسمح للجميع بالمساهمة فيها، وتعمم الفعل الثقافي، فمبدعو المناطق الداخلية مثلا شبه محرومين من الترويج والدعم وتسليط الضوء على تجاربهم وهلم جرا. أسماء قليلة تحتكر مشهدا كان يمكنه أن يكون أكثر ثراء.

من الأسباب الأخرى قلة الترويج والتغطية، إذ يقصّر الإعلام التونسي في تسليط الضوء على الجانب الثقافي، بل بالعكس يلعب الإعلام دورا سلبيا في ترذيل الفعل الثقافي بحثا عن الإثارة، فيدعو الرموز الثقافية للسخرية منهم، ويروج للظواهر الغريبة ويعمم الجهل وبالتالي هو نقطة سلبية كبرى.

آثار كارثية

أسباب القطيعة كثيرة إذن من اقتصادية إلى تعليمية إلى غياب الصناعة الثقافية وانفصال ما يقدمه المبدعون عن واقع التونسيين ومشاغلهم وضعف الترويج الإعلامي، لكن الأخطر هو نتائج هذه القطيعة.

نتائج القطيعة بين التونسيين والثقافة، وخاصة منهم الشباب، تدق ناقوس الخطر، وتنذر بما يمكن أن يؤول إليه المجتمع التونسي الذي كان في فترات قريبة رمزا للمجتمعات الصاعدة والتي تحاول تثمين خصوصياتها وفق توجهات تنويرية، وصار اليوم شيئا فشيئا يأكل من إرثه ويتآكل منغلقا تدريجيا على ذاته.

ما نعتقد بأنه معطى حضاري راسخ لا يتزحزح وبأن تونس ستبقى دائما في مسار التنوير اعتقاد خاطئ تماما، يكفي لنتأكد من ذلك  ما رأيناه ما بعد ثورة 2011 من صعود ظواهر متطرفة كثيرة عمت البلاد بشكل لا يصدق وبدعم من حركة الإخوان التي سيطرت على الحكم بعد ثورة شبابية لم تشارك فيها وتشويهها لسمعة تونس من بلد صانع للثقافة إلى بلد مصدر للإرهاب، يكفي ما نلامسه اليوم من تراجع في إيمان التونسي بثقافة بلده وحضارته، وغياب المشروع السياسي الثقافي الذي يشتغل على خصوصية تونس، يكفي ما نراه من تهافت النخب وصراعاتها البائسة لأجل القوت أو الأيديولوجيات الميتة وفتات سُلطة.

آثار العلاقة الباردة بين التونسي وثقافة بلده ومثقفيه وفنانيه وتاريخه وإرثه ستكون كارثية ما لم يقع تداركها بالعمل منذ الآن على مشاريع تشتبك فيها مختلف المؤسسات والمثقفين والمبدعين، ولكن يبدو هذا بعيدا خاصة وأن السلطة اليوم مثل سابقاتها لا تولي الثقافة الاهتمام الذي تستحقه، يكفي مثلا أن نشير إلى أن وزارة الثقافة بلا وزير إلى اليوم منذ إقالة الوزيرة السابقة مطلع مارس الجاري.

13