هل كشف الرسام بشير مسلم ذاتيته في بورتريهاته

تجاوز فن البورتريه كونه إعادة تصور لهيئة الأشخاص ليكون إعادة تمثل لهم بطريقة فنية تنبع من أفكار الفنان وطاقاته الإبداعية، لذلك نجد بعض الفنانين التشكيليين ينحاز إلى العمل على البورتريه أكثر من أيّ أسلوب فني آخر، ومنهم الفنان التشكيلي السوي بشير مسلم الذي يعرف بلوحاته الشهيرة لأغلب وجوه الفن والمجتمع في المنطقة العربية.
بشير مسلم أو أرمانج آرمانج الاسم الذي يود أن يعرف به في الوسط الفني والثقافي، بدأت رحلته من مدينة كوباني في أقصى الشمال السوري، تحديدا على الحدود التركية، فيها رأى النور، في إحدى قراها، “قرية تلك”، ثم انتقل إلى الرقة المدينة التي وضعت إصبعها على موهبته فتفتقت على نحو أكثر. فيها قدم معرضه الفردي الأول في صالة اتحاد الكتاب العرب عام 2010، ومعرضه الثاني في المركز الثقافي عام 2011. فكيف لا يمضي إلى الأمام في مدينة كانت مولعة بالفن التشكيلي وبالفنانين التشكيليين.
كان لمتحف طه طه الدور الأبرز في هذا النشاط غير الطبيعي، إضافة إلى وجود أسماء في الرقة كان لها دورها في الحراك التشكيلي لا في الرقة فحسب بل في عموم سوريا نذكر منهم: عبدالحميد فياض، فواز يونس، محمد يصفوت، عنايت عطار، طلال معلا وآخرون، فالقافلة تمتد في الزمن إلى عقود كثيرة.
في هذا الوسط عاش الفنان التشكيلي بشير مسلم واحتك به، فكان لا بد أن يكون مثابرا فلا مكان هنا لأنصاف المواهب. ومن الجدير أن نذكر أيضا أن هذه المدينة احتضنت أولى مشاركات الفنان مسلم، كان ذلك في متحف طه طه عام 1995. وحين بدأ الوجع السوري، حمل نفسه وحاله كحال المئات بل الآلاف من السوريين، وخرج من البلاد إلى تركيا، لم يمكث فيها طويلا، ربما أحس بأنها لن تلبي طموحاته ولن تكون قادرة على أن تكون حضنا دافئا له، فغادرها إلى كردستان العراق في عام 2014 حيث يقيم فيها مع عائلته إلى الآن.
رسم بداية في أسواق مدينة أربيل محطته الأولى فيها، إلى أن اتخذ لنفسه زاوية قريبة من قلعتها، حاملا ريشه وألوانه، يرسم حسب الطلب الصور الشخصية وما يلائم ذوق العامة والسواح، فالعثور على لقمة نظيفة للاجئ ليس أمرا هينا، فهو الحامل لهمومه وآلامه وأحزانه حين غادر سوريا، لم يكن يملك شيئاً غير ريشته وألوانه كما يقول هو، فقد يكون عاديا ما فعل، وربما اجتهادا ونضالا من أجل الحياة، قد يكون على حساب مشروعه الفني، الجمالي، لكن يبقى الإنسان أغلى ما خلق الرب وهو غاية الحياة.
محطات فنية
قد نصيب إلى حد ما حين نقول إن الفن هو ما يلتقط ما تعجز عن التقاطه عدسة الكاميرا، فالفنان الحقيقي هو الذي يرى أبعد من الكاميرا، ويشاهد ما تعجز عدسة الكاميرا عن مشاهدته وتصويره. ورسم اللامرئي هو الطريق القويم للفن الحقيقي بكافة أنواعه، وهو ما يعبر عن المثل العليا للفن الحر. والذي يهمنا من كل ذلك وما دفعنا أن نشير إليه هنا أن العظمة الحقيقية في الفن يصحبها عادة شيء من الغموض في الفكرة المراد تصويرها، أي أن الحياة الباطنية للأشياء تثبت تفوقها على الحياة الظاهرية لها على نحو عام، أي أن الناحية الذاتية تبغى التغلب على الناحية الموضوعية، وبلغة أخرى التركيز على ما يؤثر في العاطفة.
أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على قراءة رسومات جلّها بورتريهات للرسام بشير مسلم لأقول إن فن البورتريه لا يعني رسم أشخاص معروفين أو غير معروفين، بل هي مواجهة بين الرسام وتلك الصورة لتلك الشخصية، أي هي رسم الشخصية من وجهة نظر الرسام نفسه، ولا تعني النسخ أبدا، فكل بورتريه يخلو من ذاتية الرسام وأسلوبه، يخلو من الجرعة السحرية للعواطف التي لا داعي لها، بل تصب في إضاعة الوقت، فمهما أتقن الفنان رسم البورتريهات لن ينافس الكاميرا أبدا، عليه أن يبحث عن نفسه فيها، وأن يطلق سراح أفكاره التي يجب ألا تخضع لحكم الحقائق الظاهرية للأشياء، بل أن تغوص في اللانهاية حتى تكسب المسافات سحرها وجمالها، فتتسع قواها الباطنية حتى تمتد في الضوء، ولا نعتبر ذلك نصرا على حساب الجمال الهائل للواقع وللطبيعة، بل بحثا في ذلك الجمال وجلاله حتى يظهر ذلك الارتياح الذي يسببه للمبدع ولمتلقيه أيضا، مضافا إليها ذلك الغرض المبهم الذي يرافق العملية الإبداعية بكل شكوكها وحسنها وغموضها.
في مقابل ذلك، ألا يحق لنا أن نصرح كما للرسام حريته في خلق رسوماته، لنا أيضا رؤيتنا وقولنا، لنا حواسنا وما تنقله لنا من ترجمات تتحول فيما بعد إلى رؤيا عامة تلفح تلك الحواس والروح التي تنبض فيها. أي باختصار إن رسم البورتريه ليس بتلك البساطة التي يلجأ إليها معظم الفنانين، قد يكون ذلك مبرّرا فقط في المراحل الأولى من أبجدياتها وإلا سيبقون يراوحون أماكنهم دون أن يضيفوا شيئا ولو امتد العمر بهم مائة عام.
فن البورتريه يجب أن يكشف ذاتية الفنان فيه إضافة إلى الكشف فيه وعبره عن ملامح زمنية وتاريخية تشي بالفن والجمال ولغته، وهي ليست فقط في تقديم الشخصية بتفاصيل وجهها، بل في القدرة على إكساب تلك التفاصيل ملامح تحكي بمجملها قصصها الكثيرة بكل عواطفها التي تنبض بالفن وبالحياة معا. وإذا كان الفرنسي بول سيزان (1839 – 1906) يرى أن ذروة الفن كله تكمن في رسم الوجه البشري، ولا يعني ذلك أنه مجرد سجل، بل بناء للقيم التعبيرية والتشكيلية الجديدة التي يجب أن تمتاز بها، فإذا كان الفن ابن التغيير كما قيل، فالبورتريه كأحد أنواع الرسم، وغصن مهم من أغصان الفن، أي أن التغيير والتجديد من أبنائه، لا يجب على الفنان الذي يشتغل على هذا الغصن أن يقع في مطبات النسخ والنقل وبالتالي في التكرار الذي يعتبر بحق موت الفنان، أو كالذي يصنع تابوته بيده ويحفر قبره باليد الأخرى.
كل محاولة مما قلناه كمن يذرف التراب على نفسه، أي هي محاولات عقيمة لا جدوى فنية أو جمالية منها، والكثيرون من الرسامين يدورون في هذا الفلك المميت والقاتل.
رسم الفنان التشكيلي السوري بشير مسلم بورتريهات الكثير من الأسماء والشخصيات الثقافية والفنية التي تنتمي إلى القرنين العشرين والحادي والعشرين، ولا نكاد نذكر اسما إلا ومسلم قد أنجز له عملا، فرسم لكل من الفنانة فيروز، وميخائيل نعيمة، ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وطه حسين وجبران خليل جبران، وعبدالسلام العجيلي، ومحمد مهدي الجواهري، ومحمد الماغوط، وحنا مينه، وأدونيس، ونزار قباني، ووليد إخلاصي، وممدوح عدوان، ونصير شمة، ومارسيل خليفة، وسليم بركات، وشفان برور، ورشيد الصوفي، وعمر حمدي ومالفا، ويلماز غوني وغيرهم الكثير فالقائمة طويلة نسبيا، إذ يكاد لم يترك اسما مؤثرا وعاما إلا وكان له نصيب من ريشه وأقلامه وألوانه، وإن كانت كلها جديرة بمنتهى الحب، كما كانت جديرة أن تكون بمنتهى العناية والدرس.
عملية خلق تقليدية
مسلم ليس مضطرا أن يختار منها ما يدفعه أن يضل السبيل، فإنها في الحقيقة لا تكاد تجد ما يطابقها من الناحية التمثيلية وتبدأ التوطئة بينهما والتي هي في الأساس نواح ممتع وهام حتى وإن كانت في منتهى الإيجاز، وهذا يستحق الذكر حتى يبدأ شعور الرأفة والخوف بالحضور، فإن لم تطهر الروح بغزارة أمازونية تثير العواطف وتريح النفس وتعيد للمشهد صحته وعافيته، وتطرد منه زوائده فالأولى فلا تكون، أي ليست غاية الفنان أن يعطي مادة تشابهها بمقادير خاصة، بل أن يثبت المعنى والمبنى بالشكل الذي يرغب هو، فلا إفراط في نظرته ذات التأثير الفعال في تهدئة حالة الهياج التي يمكن استبعادها بإدخال العاطفة المماثلة لها في النفوس والمصحوبة بشيء كثير من الارتياح.
ومما يستحق الذكر أن نقول إن الإفراط في كل شيء ضار، فكيف إذا كان هذا الإفراط في النسخ والنقل، هنا قد يحضر الجسد لكن الروح هيهات أن تحضر. كما نريد في كل تجربة نقف عندها أن تتكلم هي عن نفسها، وألا تكون ظلاً باهتاً لتجارب أخرى، أن تكون ضربا من البراعة في قياس ما هو ملائم تقنيا على الأقل.
وما يلفت انتباهنا بأن السجال الذي يخلقه بشير مسلم في فضاءاته سجال ذو بعد واحد يفرض عليه إعطاء الأولوية لكيانات جمعية بأصوات عدة فيها من التقليد فينبغي علينا الابتعاد عن التوقعات والمفاجآت التي تتسم بها الأعمال الفنية عادة، وبالتالي الابتعاد عن الفردانية التي هي من أهم مواصفات المبدع الحقيقي، فقد تشتمل على تشكيلة واسعة من الوجوه الخاضعة لتأثيراته واهتماماته، وله القدرة في تغطية مجال واسع ومتنوع من الموضوعات، لكنها في أيّ لحظة من لحظاتها قد تخطف من بين ألوانه وخطوطه، فينكشف له ولنا المدى الذي كانت تطوله أفكارها.
◙ الفنان رسم بورتريهات للكثير من الشخصيات الثقافية والفنية التي تنتمي إلى القرنين العشرين والحادي والعشرين
بشير مسلم بصور استثنائية يحاول الكشف عن تفاعل أبعاد الحياة الشخصية، والاقتصادية والثقافية في الرسومات والبورتريهات التي يشتغل عليها، وهي من وجهة نظره أمر لافت، لكن من وجهة نظر متلقيه هي هوامش خاصة به، يبرز من خلالها ومن حين إلى آخر وقائع ندرك وجودها، وقائع لأوضاع معينة تعمل على تقييد الفكر لا إطلاق سراحه بالشكل الذي يجب أن يكون عليه، وقد ترتبت على ذلك نتائج مماثلة ولدت حين تم تصورها على نحو أداتي، وهذا حكم من الأحكام التي يمكن إصدارها على كل شكل من أشكاله التي تتناغم إلى حد كبير مع توجهاته الفنية، فهو لا يزال واقعا في شراك العمليات التقليدية في الخلق وفي مقدمتها عمليات النسخ والنقل رغم ما يضج في دواخله وما يخفق بين جوانحه من طاقات تحتاج فقط إلى تحريرها وإطلاق سراحها.
هو في هذا الجانب يمارس نوعا من الدكتاتورية في حق طاقاته وبالتالي في حقه، فرغم وعيه الصائب وامتلاكه لصوته الحقيقي الأصيل إلا أن المهمة التي تتمثل في تبيان الكيفية التي تجري بها عملية الخلق مقترنة إلى حد كبير بعمليات عدم الإخفاء والحجب لكل تلك العلاقات التي تحافظ على أهمية ما يخلق، وإذا جئنا بمثال صغير قد يسجل له سنذكر رسمه للوحة الطفل آلان حين عجز عن رسم البحر وتلوينه بالأزرق لأن هذا البحر أضحى بالنسبة إليه مارداً ابتلع أرواح الآلاف من المهجرين السوريين.