اعترافات شهرزاد أميركا اللاتينية حكايات جريئة عن النساء والرجال والحب

يحمل القراء الشغف بالأسرار لقراءة سير المبدعين، وهؤلاء الأخيرون يمتلك بعضهم الجرأة والوعي لحياكة سيرهم بطرق مبهرة، كاشفين عن حيوات مثيرة لا تهدأ، حيوات مغامرة لا تخلو أغلبها من الجراح التي لا تندمل ومن الأفكار المتوقدة. هكذا هي سيرة الكاتبة التشيلية إيزابيل الليندي بعنوان “نساء روحي”.
مشروع كتابة السيرة الذاتية فرصة لتأمل العوامل التي يكتسب بفضلها السارد ملامحه، وتزيده وعيا بالبيئة التي قد لا تتسع لأفق تفكيره ولا تستجيب لتطلعاته، وبذلك يكون الصراع مع الإرغامات البيئية ملمحا من فيزياء الشخصية. وهذا ما يلاحظ على الأغلب في مسيرة المبدع الذي يثور على واقعه، ولا يمكنه التقيد بالمنظور السائد في التفكير والاختيارات. ويهمه البحث عن شكل جديد وآلية مغايرة لفهم المعطيات الوجودية والانطلاق في رحلته الحياتية مغامرا بصياغة أسئلة مختلفة.
ما تسرده الروائية التشيلية إيزابيل الليندي في كتابها الصادر أخيرا بعنوان “نساء روحي” متبوعا بعبارة توضيحية “عن الحب المتلهف والعمر المديد والساحرات الطيبات” تكشف من خلاله مواصفات شخصيتها المسكونة برغبة الاختراق للأطر والتمرد على الأنساق التقليدية.
الثائرة النسوية
إدراك الليندي لمحنة أمها التي هجرها الزوج في بيرو يضعها أمام صورة حقيقية للواقع الذي تعاني فيه النساء من الخيبة والتهميش الاقتصادي. وتعترف صاحبة “العشيق الياباني” بأن طفولتها كانت متلبدة بالخوف والتعاسة غير أن ذلك قد أفادها في الحياة، وهي تعبر عن امتنانها للمعاناة لأنها فجرت في أعماقها طاقة للكتابة.
ما تقوله الليندي يؤكد أن التحديات نواة للأعمال الإبداعية ويعيد إلى الذهن رأي الكاتب الأرجنتيني إرنستو ساباتو الذي يتصور بأنه من الصعب كتابة شيء عميق لا يرتبط بطريقة بسيطة أو معقدة بالطفولة، مشيرا في ذات السياق إلى ما ذهب إليه بودلير بأن الطفولة وطن. إذن ما يبسط في تضاعيف سيرة الليندي لا ينقطع عن لحظة الطفولة وما رافق تلك المرحلة من تشكيل الوعي بالمطبات ومفهوم الحب الذي لا ينفصل من بعده التراجيدي سواء ما تمثل في قصة الأم التي تزوجت رغما عن إرادة أبويها أو ما لفت نظر الليندي في حياة بنات جنسها ببلدها تشيلي.
لم يكن هجران والدها استثناء بل من المتوقع في تشيلي أن يغيب الرجل ملقيا بالمسؤولية كلها على عاتق المرأة. إذ تنشأ بذور الغضب في شخصية الليندي في مرحلة مبكرة عندما رأت ما تكابده أمها بانتيشتا من الحرمان لأنها تحدت الأعراف، وزاد حنقها على النظام المجحف وهي تشاهد عاملات المنازل التابعات بلا مورد ضحايا الفقر. ولا ينتهي موقف إيزابيل بغضب عابر على هذا الوضع المثقل بالبؤس إنما يكون أثر كل ذلك أعمق على رؤيتها حين تقف على مشارف العقد الخامس من عمرها.
تسترسل مؤلفة “سفينة نيرودا” في البوح عن الندوب الناجمة من صدمة الواقع الجائر. إذ لازمتها مشاعر الإحباط وبلغت بها حد الهوس بالعدالة والرفض القاطع للذكورية، الأمر الذي استدعى مشاورة الطبيب النفسي فكانت بانتيشتا تؤنب الإبنة قائلة “لا أدري من أين جئت بتلك الأفكار، سوف تشتهرين بأنك امرأة مسترجلة”، ويبدو أن الأم كانت محقة في قلقها لأن الليندي تطرد من مدرسة الراهبات الألمانيات إذ تستعيد الكاتبة هذا الحدث وترى فيه نبوءة لمستقبلها، مشيرة إلى أن السبب الحقيقي وراء قرار المدرسة لم يكن عصيانها بل حالة أمها الاجتماعية التي كانت عازبة من المنظور القانوني ولديها ثلاثة أطفال. قطعت عليها الطريق للاستمرار في تلك المؤسسة التعليمية.
تدخل شخصية رامون على خط سيرة الليندي، فإن ارتباط أمها بهذا الرجل يغير حياة بانتيشتا ولن تعود قيد وضعها المعلق، وتحقق شيئا من الاستقلالية. بدأت تسافر برفقة رامون الذي كان يشتغل في السلك الدبلوماسي. يتقاطع السرد السيري مع المنحى التحليلي في الطب النفسي.
ما يهدف إليه صاحب السيرة من خلال استحضار محطات حياته هو فهم ما كان بمنزلة الطلسم في مسيرته تماما كما يشرك المصدوم نفسيا المعالج في قصته راجيا منه معاينة ما يضمر في كلامه من تأثير ما قاده إلى الأريكة. ومن الأمور التي ينقشع عنها الغموض وهي تتأمل الدروب التي مرت بها أن غياب الأب وهي كانت طفلة أسهم في تمردها. يمضي الكثير من الوقت قبل أن تستسيغ الليندي وجود زوج الأم عم رامون كما كانت تدعوه لاحقا، إذ هي تصرح بأن مشاعرها لهذا الرجل كانت عدائية في البداية مرتابة من سلطته إلى أن يتبدل رأيها عن رامون ويصبح لها صديقا مقربا.
يغدق الزوج على ابنتها باولا مشاعر الحب والحنان. أما عن أبيها الحقيقي فتؤكد الليندي أنها لم تشعر بالحنين إليه ولا حدا بها الفضول لمتابعة أخباره. مع أن بانتيشتا أرادت رسم صورة إيجابية لشخصية الأب في ذهن الطفلة الصغيرة. لا تنكر الليندي في سياق سرديتها السيرية ما سمعته من أحد النقاد بأن الشخصية الرئيسة “إليسا” في رواية “ابنة الحظ” ترمز إلى النسوية ومن ثم تذكر بفكرة عملها الروائي ومساعي البطلة وما يعادلها في الواقع من نهوض النساء، ومبارحة منطقة التبعية.
تعتبر الليندي نفسها نسوية منذ كانت بروضة الأطفال وما يهمها في هذا الشأن هو الإبانة عن رؤيتها حول مفهوم النسوية، إذ ترى أن هناك تهويلا في نشر الشكوك عن معاداة هذا التيار للرجال والكراهية لهم، وفي الحقيقة أن النسوية تتطلع إلى تحقيق تقويض السلطة المطلقة للذكورية وفعلا حالفها النجاح في بعض الجوانب، وإنْ استمرت مجالات أخرى كما كانت عليه منذ الآلاف من السنين.
وفق ما يبدو لإيزابيل الليندي فإن النظام الأبوي لا يزال مهيمنا في السياسة والدين والثقافة والاقتصاد. وتعارض ما ساد عن النسوية بأنها تكمن في البعد الجسدي فحسب بل هي موقف فلسفي وتمرد على النظرة الإقصائية. تعترف شهرزاد أميركا اللاتينية بأنها في شبابها تورطت في لعبة الرجل وتوهمت بأن ما تقوم به كفاح من أجل المساواة، قبل أن تفهم في طور النضج بأن الانجرار إلى هذا المعترك جنون وتفاقم للكارثة.
ما ينتبه إليه المتلقي أن الليندي لا تتقيد بالموضوعية في التقابل بين البطريركية والنسوية، فالأولى برأيها متحجرة أما الثانية فمثلها مثل المحيط عميقة انسيابية معقدة تضاهي الحياة. صحيح أن الظروف القاسية التي عاشتها بانتيشتا عمقت إدراك الليندي بما تخبتره المرأة من تحديات مضنية لكن لا تتجاهل دور الجد أغوستين في التعهد بشخصيتها وتزويدها بالقيم، فكان يختار لها قراءة قصص موحية بضرورة الاعتماد على النفس والابتعاد عن الاتكالية، فالحياة بنظر أغوستين مؤلفة من الانضباط والجهد والمسؤولية، ولم يلعمه هذه المبادئ سوى تجارب الحياة لأنه قد نشأ في أسرة معدمة.
ما قرب الحفيدة إلى جدها هو الاسم وملامحها التي تذكره بزوجته. ربما يبدأ التشنج بين الأجيال نتيجة رغبة كل طرف في إقناع الآخر بمواكبته في اختياراته ونسق تفكيره. بالطبع إن هذا الجانب لا يختفي في علاقة الليندي بأمها، لأن الأخيرة كانت أكبر منها بعشرين سنة ولم تدرك ارتدادت الثورة النسوية التي تفوق ما تبع الثورة البلشفية في الامتداد والشمولية.
لم تنضو الكاتبة إلى أي دور أنثوي محدد على المقاسات الشائعة في الأسرة والمجتمع والمدرسة وهي تخرج من الكنيسة إلى الأبد حتى قبل انفصالها عن العقائد اللاهوتية بسبب ما تراه من الذكورية المتأصلة في أي تنظيم ديني. وما يؤكد الروحية المغامرة في شخصية الليندي وتمكنها من الظهور في موقع المبادر ما إن تعرف بما ينتظر صديقتها الباكستانية التي كانت تدرس معها في لبنان بأنها مرغمة بضغط من الوالد على الارتباط برجل يكبرها بثلاثين عاما حتى تبدأ بمحاولات لإنقاذ الطفلة القاصر، غير أن طموحها على هذا الصعيد يصطدم برفض عم رامون لأن الموضوع لم يكن يمر دون تبعات دبلوماسية.
تذكر الليندي بظاهرة الزواج الإجباري في عدة بلدان وضحاياها من القاصرات، منوهة في ذات السياق بتوثيق الناشطة ستيفاني سنكلير عبر الصور الفنوغرافية للبنات المنكوبات. لا تستسلم الكاتبة لأعراف الواقع والأسرة وتفلح في حمل جدها على قراءة “الجنس الآخر” لسيمون دي بوفوار علها تكسب أصواتا في الأسرة لفكرتها بأن معاناة النساء مضاعفة بسبب الفقر والحرب والكوارث. تنفتح الليندي على وجه آخر من الحياة حين تخطو أولى خطواتها نحو الاستقلال الاقتصادي وتتولى مهمة نسخ الإحصاءات المتعلقة بالغابة وتشتري براتبها الأول قرطا لؤلؤيا لبانتيشتا.
الحب والإيروس

لا يقتصر المفهوم الإيروسي على الطاقة الغريزية بل هو استعارة للحياة بأكملها. وهذا ما يتمثل في روايات الليندي، فشخصياتها لا تتحرك خارج حزام الحب. وما ترويه الكاتبة عن تجاربها العاطفية وفهمها للبعد الحسي في العلاقات العاطفية يحيل إلى أجواء أعمالها الروائية المنطوية على احتمالات الحب في أعطافها. يضرب الحب موعدا مع الكاتبة وهي في السابعة عشرة من عمرها. تقع في غرام ميغيل، كان الأخير طالب هندسة.
واللافت هو بوح الكاتبة بأنها كانت خائفة من العنوسة على الرغم من التشبع بالأفكار النسوية. تنجب من زواجها الأول باولا ونيكولاس، ومن ثم يغزو السأم حياتها الزوجية. لم يعد في واردها التعود على هذه الحال.
تفرد الكاتبة مساحة من سيرتها لاستعادة تجربتها الصحفية فكانت مساهمتها في مجلة باولا منعطفا في حياتها الفكرية. فقد تضافرت جهود خمس نساء لإنشاء منبر صحفي بحلة غير تقليدية، إذ تابعت الليندي بصحبة صديقاتها قراءة سليفيا بلاث وبيتي فريدان وكيت ميليت وبقية الأسماء التي فتحت لهؤلاء طريقا مختلفا للتفكير. نشرت مؤلفة “بيت الأرواح” مقالاتها تحت عنوان “هذبي رجلك البدائي” وكان اختيارها في أسلوب الكتابة على حس الدعابة.
تكتشف الليندي أن الأفكار الأكثر جرأة يتم الاحتفاء بها إذا زرعت بسمة على الوجوه. وتسجل المجلة سبقا في كشف الغطاء عن العنف المنزلي وخيانة الأنثى، ونجحت في مناوشة مفاهيم مقدسة، كما كسرت المحظورات التي تحيط بحياة المرأة على وجه الخصوص.
ما يكون تحديا بالنسبة للمرأة برأي الليندي هو الثقافة السائدة عن الجمال والنجاح والشباب. تعترف الكاتبة بأنها لم تتمكن من الخروج عن هذا الطوق إلا بمشقة وبعد جهد جهيد. إذ كانت تقارن نفسها بزميلاتها بارعات الجمال وبحسناوات عارضات الأزياء، ولاحظت أن نصيبها من الجاذبية نزر قليل. لا تتجاهل الليندي دور الغريزة الأنثوية في دفعها إلى التزيين والبحث عن كل ما يزيدها جمالا وجاذبية، لكنها ترفض الاستسلام لنموذج المرأة المثالية بمواصفات أوروبية.
لا يتخذ كلام الليندي عن الأيروتيك والتواصل الحسي مسارات ملتوية بل تتناول مغامراتها بالوضوح ولا تبدي ندما عن الحماقات العاطفية التي وقعت فيها، ولا تريد نسيانها لأنها تشبه أوسمة الاستحقاق على حد وصفها. لا تتردد الكاتبة عن القول إن القلب الشغوف يلبد العقل بالغيوم. إذ تقع في 1976 في غرام موسيقي أرجنتيني في فنزويلا هربت معه تاركة الزوج وابنيها، لكن انتهت مغامرتها بخيبة أمل شديدة وآبت إلى الأسرة محطمة القلب.
ومن الواضح أن الليندي لا تتعظ من أخطاء القلب، لذلك تغامر بهجر بيتها بكاراكاس من جديد لحياكة قصة أخرى مع بويلي حيث تنتقل إلى كاليفورنيا. إذن الأولوية في حياة الليندي للكتابة والإيروتيك. تتطرق الكاتبة إلى موضوع الحب من بعيد والانجذاب الافتراضي. بعدما تنفصل عن زوجها الثاني تقترح عليها الصديقات الحب في الشبكة العنكبوتية غير أنها لم تقتنع بالفكرة لأن التواصل العاطفي في معجمها يستدعي الحميمية والإضاءة الخافتة واللطف.
يذكر أن روجر هو آخر عنقود علاقات الليندي الغرامية، فقد تعرفت عليه عام 2016، وتمضي أيامها برفقته، وقد عاشت معه أيام الوباء. تذكر الليندي أن الشباب غالبا ما يسألونها عن الحب في الشيخوخة فبرأيها أنه لا يختلف عن الحب في عمر السابعة عشرة. بموازاة ما تسرده الليندي عن نشأتها وخلفية الأسرة التي ترعرعت في كنفها والمغامرات التي سجلتها في دفتر أيامها وآلام فقدان باولا تفرد مفاصل من سيرتها للحديث عن وضع النساء على المستوى العالمي.
ومما تشير إليه ضمن هذا المنحى أن امرأة واحدة تتعرض للاغتصاب كل ست دقائق في الولايات المتحدة. لا تختم الكاتبة صفحات سيرتها قبل الإجابة على السؤال الذي يطرحه الخليفة في بغداد على رجل سارق، قل ماذا تريد النساء؟ فكان مصير الرجل وقفا على قناعة الحاكم من عدمها بما يقوله المذنب. من جانبها تعلن الليندي أن النساء تريد عالما مطعما بالجمال لا ذلك الذي يقدر بالحواس فحسب بل ما يدرك بالقلب المفتوح والذهن الصافي. وتتوارد أسماء عدد من النساء الملهمات في سيرة الليندي منها الأم بانتيشتا وصوفيا لورين والناشرة الكاتالونية كارمن.
تقول الليندي إن المرء ما إن يبلغ الهزيع الأخير من العمر حتى يداهمه الندم على الخطايا التي تحاشاها وعلى ما لم يتقن من الأشياء. وما يجدر بالإشارة أن رأي الكاتبة عن الحب بأنه لا ينبت مثل نبتة برية إنما يغرس بعناية فائقة لا يوافق أشكال الحب التي جربتها ولا المخاطرات الغرامية التي تاقت إلى تذوقها.