عمان أمام تحدي الفصل بين شعبوية دينية وموقف شعبي أصيل لنصرة الفلسطينيين

العمانيون محقون في موقفهم الرافض للجريمة الإسرائيلية المستمرة، هذا موقف أخلاقي قبل أن يكون أي شيء آخر لكنه موقف ينبغي أن يتسم بالحذر كي لا يُختطف لصالح مشاريع الإسلام السياسي.
الاثنين 2024/03/11
تطبيع لم يكتمل

لا أحد يلوم العمانيين على تعاطفهم المتصاعد مع الفلسطينيين في حربهم الجارية في غزة. من منا يستطيع السكوت عن الجريمة الإسرائيلية المستمرة في قتل عشرات الآلاف من العزل وتدمير مدن غزة ومخيماتها على رؤوس أهلها. العالم كله، وليس العرب والمسلمون فقط، يقف ضد ما يحدث من جريمة موصوفة.

لكن مع التعاطف يبرز القلق. سبق للإسلاميين أن استخدموا فلسطين وقضيتها العادلة في صنع آلية الجهاد كوسيلة لتغيير شامل في المنطقة العربية. لا حاجة إلى ذكر الخطابات التي أسست للقاعدة وداعش وحزب الله والحوثيين. كلها تنهل من الإشارة إلى القضية الفلسطينية كأساس لوجودها. ما كان لإيران أن تصل إلى ما وصلت إليه من اختراق للمنطقة لولا فرض نفسها كطرف محرك للفلسطينيين ولحزب الله في صراعهم مع إسرائيل.

أثر القاعدة أو داعش على إسرائيل منعدم، وأثر حزب الله والحوثيين بالكاد يذكر. لكن أثر القاعدة وداعش على منطقتنا كارثي، مثله مثل سيطرة حزب الله والحوثيين على مقدرات لبنان واليمن. النجم السياسي والعسكري الصاعد في العراق، أي الحشد الشعبي، ما زال يتعثر في تحويل خطابه من استهداف داعش إلى استهداف إسرائيل وحليفتها الولايات المتحدة، لكنه سينجح في النهاية. ليس مهما أنه وصانعيه ما وصلوا إلى الحكم إلا بفضل واشنطن.

الفصل بين الشعبوية الدينية التي قادت الكثير من البلدان إلى الأزمات، والموقف الشعبي الأصيل المتعاطف مع معاناة إخوة لنا في فلسطين، هو تحد للمنطقة جمعاء وليس للعمانيين وحدهم

الدول العربية تركت لسنوات الخطاب الشعبي بيد الإسلاميين، بل وشجعته في بعض الأحيان. وكانت النتيجة معروفة، من خراب في أكثر من دولة عربية بسبب ما آلت إليه الأمور من سيطرة شاملة أو جزئية لهذه التيارات الإسلامية على الحياة العامة أولا، ثم الحياة السياسية في العديد من البلدان. هذا مبعث القلق في أن تتحول الخطابات الشعبوية في مساجد عمان إلى تيار لن يقدم أو يؤخر في الصراع العربي – الإسرائيلي أو لنصرة الفلسطينيين، لكن قد يكون مؤثرا في الساحة العمانية نفسها. لا توجد حالة واحدة في تجارب صعود الإسلاميين في الدول العربية لم ترتد على تلك الدول، رغم صدق نوايا الناس وتعاطفهم مع ما يثيره الإسلاميون من قضايا في خطابهم المتسلل والمحرض.

لعمان الرسمية تاريخ طويل في العلاقة مع إسرائيل، بشكل غير مباشر في البداية ثم بشكل مباشر. عندما قاطع العرب مصر عام 1979 بسبب توقيع الرئيس أنور السادات اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، تميزت سلطنة عمان بموقفها الرافض لهذه المقاطعة، ما أشّر آنذاك على تأييد ضمني لعقد السلام بين مصر وإسرائيل. وعلى مدى سنوات طويلة، ظلت أخبار تتسرب عن علاقة غير معلن عنها بين عمان وإسرائيل. ثم جاءت زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين لمسقط ولقاؤه بالسلطان قابوس بن سعيد عام 1994 ليكونا أول إشارة إلى مستوى العلاقات بين البلدين. خلصت عمان إلى أنها لن تزايد على الفلسطينيين الذين وقعوا للتو على اتفاقية أوسلو، وبدأوا مسار تأسيس السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة، وخطوات التطبيع مع إسرائيل. قد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى أن من أخل بالتطبيع بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي إسرائيل نفسها وليست السلطة الفلسطينية التي حرصت إلى يومنا هذا على أن تجد صيغة توفيقية للعلاقة مع إسرائيل.

عام 2018، وفي مراحل مرض السلطان قابوس الأخيرة، تفاجأت المنطقة بالإعلان عن زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمسقط ولقائه بالسلطان قابوس. قدمت الصور التي وزعها على نحو متفرق الديوان السلطاني ومكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي والحساب الشخصي لنتنياهو على تويتر (منصة إكس حاليّا)، ملامح زيارة فيها الرسمي والشخصي، لأكثر من لقاء جمع السلطان قابوس بنتنياهو. كان ملحوظا في الصور تعدد اللقاءات خلال الزيارة من تغيير السلطان لزيه، وأن اللقاءات كانت فيها أريحية شخصية بتجول السلطان مع نتنياهو في أرجاء القصر السلطاني، ثم حرصه على اصطحاب زوجة نتنياهو، سارة، في تلك الجولة. وباستقراء الزيارة، كانت عمان على بعد خطوات قليلة من إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، والانطلاق في مسيرة التطبيع لتسبق الاتفاق الإبراهيمي الذي أعلن عنه بعد سنوات بين دول خليجية وإسرائيل. لكن القدر تدخل ورحل السلطان قابوس. وما كان للسلطان هيثم بن طارق أن يبدأ عهده بإقامة علاقة مع إسرائيل. ثم جاءت حرب غزة الجارية لتحول نتنياهو من زعيم إسرائيلي أمعن في حصار الفلسطينيين وخنقهم، إلى قاتل لا يتردد في الذهاب إلى أبعد من أي شخصية إسرائيلية سبقته في التنكيل بالفلسطينيين.

الدول العربية تركت لسنوات الخطاب الشعبي بيد الإسلاميين.. وكانت النتيجة معروفة، من خراب في أكثر من دولة عربية بسبب ما آلت إليه الأمور من سيطرة شاملة أو جزئية لهذه التيارات الإسلامية

لم يتغير نتنياهو كثيرا، فهو على صلفه وإمعانه في تطرفه. لكن ما تغير هو موقف عمان منه. القيادة العمانية الجديدة لا تبدو مهتمة الآن بإقامة علاقة مع إسرائيل، خصوصا بعد ما حدث في غزة. التقط العمانيون هذا الموقف من تصريحات رسمية صدرت عن الخارجية العمانية. وكان ملاحظا تشدد مفتي عمان الشيخ أحمد بن حمد الخليلي في خطابه الانتقادي لإسرائيل. ذهب الشيخ الخليلي إلى حدود مباركة الهجمات الحوثية على الملاحة البحرية في خليج عدن والبحر الأحمر، وانتقد الدعوة إلى قتال الصهاينة بإذن، أي إنه عمليا أباح الجهاد في مواجهة الإسرائيليين. وللحق، فإنه من غير المنتظر من مفت لدين أحد أركانه الجهاد أن يفتي بغير ذلك. ولكن الملاحظ أنه لم يعترض على زيارة نتنياهو لمسقط عام 2018، رغم أنه كان المسؤول عن حصار غزة وتشديد الخناق على شعبها.

العمانيون، سلطانهم ومفتيهم وشعبهم، محقون في موقفهم الرافض للجريمة الإسرائيلية المستمرة. هذا موقف أخلاقي قبل أن يكون أي شيء آخر. لكنه موقف ينبغي أن يتسم بالحذر كي لا يُختطف لصالح مشاريع الإسلام السياسي في المنطقة، الإخوانية أو السلفية – القاعدية أو الداعشية – أو الخمينية. انتهى غزو الاتحاد السوفياتي لأفغانستان، وتركت القاعدة للعودة إلى المنطقة لتسعى إلى هدم أركان الاستقرار فيها. وانتهى الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وترك حزب الله للسيطرة على لبنان. وهتف الحوثيون ضد إسرائيل وأميركا، ليسقطوا الحكم في اليمن وليحاربوا السعودية. ويدوس الحشد الشعبي في العراق، بعد أن أتم حربه مع داعش، على أعلام الولايات المتحدة وإسرائيل كما يدوس على سلطة الدولة العراقية. الخوف كل الخوف أن تنتهي حرب غزة، ويُترك لنا شباب غاضب لم يذهب إلى قتال الإسرائيليين دفاعا عن الفلسطينيين، بل يسعى للتنفيس عن غضبه من خلال هز الاستقرار في بلاده. احترقت أصابع حكومات استثمرت في الإسلاميين أو حابتهم، وسقط بعضها. هل ثمة حاجة إلى تجريب المجرب؟

الموقف الشعبي للعمانيين حالة صحية. هذا بلد أغلبيته من الشباب، يقوده سلطان يريد أن يقطع مع القرار المطلق الذي ميّز الحكم على مدى عقود. ثمة الكثير مما يمكن أن يتحقق من مسعى التغيير الذي ينتهجه السلطان هيثم بن طارق. والجهاد، كما أفتى الكثير من رجال الدين، له أوجه عديدة لكن بالتأكيد ليس منها الارتداد على استقرار البلاد. هو تحد للفصل بين الشعبوية الدينية التي قادت الكثير من البلدان إلى الأزمات، والموقف الشعبي الأصيل المتعاطف مع معاناة إخوة لنا في فلسطين. وللحق، هو تحد للمنطقة جمعاء وليس للعمانيين وحدهم.

9