المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء صنعت البصمة الفنية للمغاربة

اختلفت التجربة المغربية في الفن التشكيلي عن نظيراتها في جنوب المتوسط، بأن كانت متمردة على التوجهات الغربية وصانعة بصمة وهوية خاصة، وهذا ما حدا بلقاء مارس الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون إلى تخصيص ندوة للتجربة المغربية من خلال المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء.
ضمن اليوم الختامي لفعاليات لقاء مارس السادس عشر بعنوان “تواشجات” الذي نظمته مؤسسة الشارقة للفنون بين واحد وثلاثة مارس الجاري، تناولت إحدى الجلسات الهامة تاريخ المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، التي مثلت مهد الحداثة الفنية المغربية.
اختار الفنانون المغاربة توجها مختلفا عن نظرائهم من دول جنوب المتوسط، حيث ذهبوا إلى الحفر أعمق في الموروث الثقافي بعيدا عن الذوبان في التيارات الغربية، وهو توجه يمكن فهمه بفهم الإطار الأكاديمي والنظري الذي خرج منه رواد الفن التشكيلي المغربي، وهو ما حدا بمؤسسة الشارقة للفنون إلى التركيز على هذه التجربة وتنظيم معرض لأهم رموزها.
أصيلة والمليحي
حملت الجلسة عنوان “المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء: ذكريات حميمة وموروثات معاصرة” وعرفت مشاركة المخرجة السينمائية موجا ماريانا المليحي (وهي ابنة واحد من رواد الحداثة التشكيلية المغربية محمد المليحي) والناشر والقيم والمؤرخ الفني مراد منتظمي بينما لم تتمكن الفنانة أمينة أكزناي من حضور اللقاء.
وجاء في بيان مؤسسة الشارقة أنه “في أعقاب استقلال المغرب عام 1956، أثار موظفو وطلاب المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء ثورة فنية، ومزجوا الفن التجريدي بالتقاليد الفنية الأفريقية والأمازيغية المستوحاة من السجاد والمجوهرات وفن الخط ورسومات الأسقف في المنطقة، ما أفضى إلى تبلور فن جديد في المغرب نابع من التراث الأفرو – أمازيغي، ساهم في إطلاق انتفاضة ثقافية تنامت وشكلت المستقبل”.
وبين أنه انطلاقاً من تراث متعدد الثقافات أدخل العاملون في المدرسة وطلابها الفن إلى الحياة اليومية، من خلال استخدام اللوحات والملصقات والمجلات والجداريات الخارجية ومهرجانات الشوارع. ساهمت هذه “الموجة الجديدة” المغربية في تفعيل حراك اجتماعي وحضري ساعد في نهاية المطاف على بناء حركات تضامن فني بين أميركا اللاتينية وغرب آسيا وأفريقيا.
في بداية الجلسة لفت منتظمي إلى أن محمد المليحي واصل إنشاء المنصات الفنية إذ كان يفكر في هذا من 1965، مشددا على أن الفترة الذهبية لمعهد الفنون الجميلة بالدار البيضاء كانت مع محمد المليحي.
وأضاف “التجريد عند المليحي لم يكن مدفوعا بالعالم الغربي، بل باستغلال الثقافات الأمازيغية والإسلامية والأفريقية وغيرها. ما أنتج أساليب خلقت تحولات كبيرة لدى الطلاب”.
معرض الفنانين المغاربة يمثل جزءا من مبادرة بحثية دولية حول مدرسة الدار البيضاء، والتي تتضمن مشروعا تعاونيا
ويذكر أيضا دور الفنان المغربي محمد الشباح الذي كان مهتما بخلق أفكار جديدة، خاصة من خلال الغرافيك، مشددا على أن “الإبداع شيء حي، ويمكن تقاسمه مع الناس”.
وفي كلمتها تطرقت موجا ماريانا المليحي إلى مهرجان أصيلة الذي انطلق منذ أواخر السبعينات على يدي أبيها والمثقف والسياسي محمد بنعيسى، وأصبح اليوم واحدا من أكبر المنصات الخاصة بالجداريات، ومازال متواصلا وهو مرتبط بشبكة الدار البيضاء للأعمال الفنية.
قالت المليحي “أصيلة المدينة التي ولد فيها والدي، وفيها بدأ موجاته. تمنى إنجاب فتاة ليسميها موجا. وجئت أنا. أول ما رسخ ببالي كان قوله لي منذ الطفولة ‘شوف’ (تعني اُنظر). يصرخ بي ‘شوف’. كانت أول كلمة تعلمتها من والدي. بعدها علمني كيف أصوغ الصورة. كان دائما يحمل الكاميرا في يده”.
وأضافت “شوف تحولت لاحقا إلى دار نشر. كما كانت نقطة الانطلاق لمهرجان أصيلة. وخاصة الجداريات التي فيها بدأت أرسم وأنا طفلة. كنت محظوظة أنني ولدت في تلك الظروف. في بيتنا كان هناك تمازج بين الحياة والفن. والدتي علمتني كيف أضع الأشياء في سياقها التاريخي. تعلمت أن الفن والحياة هما نفس الشيء”.
وتابعت في تفاعل مع الحضور قائلة “أعتقد أن ما علمني إياه والدي هو أن الفن يصنع التغيير بمجرد أن نبدأ الحوار. وأن تكون ناشطا فنيا هام جدا. أعتقد أن والديّ علماني خاصة من خلال التجريب في أصيلة. لاحظت تحول البلدة أصيلة إلى مركز فني وما حدث للناس فيها عبر ذلك. الجميع في أصيلة يمكنه الانخراط في العمل الفني. هناك دائما أمل والفن هو الحضور. هو أن تكون ناشطا لكن بوعي”.
وكان محمد المليحي تجربة خاصة لا بصفته فنانا مبدعا فحسب، بل بالأثر الذي أحدثه في طلاب كلية الفنون الجميلة والفنانين المغاربة من خلال تأكيده على أهمية الموروث المغربي الخاص، والسعي إلى خلق حراك فني يبدأ من المحلية ولا يغرق في التشكيلات الغربية والرؤى المسبقة، وهو ما نجح فيه بشكل كبير، جاعلا الفن التشكيلي المغربي في مكانة ريادية، كخطاب مختلف يرسخ دور الفن الثقافي والهووي.
معرض مغربي
يستكشف المعرض الذي يأتي بالتزامن مع فعاليات لقاء مارس هذا العام بعنوان “مدرسة الدار البيضاء: منصات وأنماط الحركة الطليعية لمرحلة ما بعد الاستعمار 1962 – 1987” الرؤية الاستثنائية للحياة الحديثة التي تكرست داخل وخارج أسوار مدرسة الفنون الجميلة، والتي قادها، وفق بيان المؤسسة، خمسة فنانين ومعلمين بارزين من المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء وهم فريد بلكاهية ومحمد شبعة وبيرت فلينت وتوني (أنتونيلا) مارايني ومحمد المليحي. إذ أثبتت هذه المجموعة الفنية المغربية المدهشة، المعروفة بشكل غير رسمي باسم “مجموعة كازابلانكا” أو مجموعة “كازا” وقد انضم إليها المزيد من الأعضاء، أنها “كوكبة” من الفنانين أكثر من كونها مجموعة محددة.
وجاء في البيان أن هذا المعرض الاحتفائي هو “الأول من نوعه، وهو يقدّم أعمالهم وإرثهم في المنطقة في منصات وصيغ مؤثرة وفاعلة، ويضم أعمالاً لـ21 فناناً وناشطاً من مجموعة كازا من مختلف الأجيال، بما في ذلك لوحات تجريدية، وجداريات حضرية، وأعمال طباعة ورسوم غرافيك وتصميم داخلي، فضلاً عن فيلم وأرشيفات مطبوعة ومجلات قديمة وصور فوتوغرافية نادرة”.
كما أضاف أن المعرض يمثل جزءاً من مبادرة بحثية دولية حول مدرسة الدار البيضاء، والتي تتضمن مشروعاً تعاونياً بين معهد كي دبليو للفن المعاصر ومؤسسة الشارقة للفنون، بمساهمة معهد غوته في المغرب، و”ثينك آرت”، وزمان للنشر والتقييم. المعرض من تقييم مراد منتظمي ومادلين دي كولنيه من “زمان للنشر والتقييم” (زمان بوكس آند كيوريتينغ)، وحور القاسمي، رئيس مؤسسة الشارقة للفنون، ومي القايدي، قيّم مساعد في مؤسسة الشارقة للفنون، والباحثتين المشاركتين فاطمة الزهراء لكريسا ومود هسيس. وشاركت في تنظيم المعرض مؤسسة الشارقة للفنون وتيت سانت آيفز بالتعاون مع شيرن كونستال فرانكفورت.
وإثر انتهاء ندوات لقاء مارس كانت الندوة الختامية بمشاركة لبنى أنصاري وبوميكا غادادا وفاطمة الجرمن وشازيا سلام، حيث تم تقديم تقييم لثلاثة أيام من اللقاءات والحوارات والفعاليات، التي حاولت هذا العام التركيز على القيم المشتركة والفعل الفني كأداة مقاومة وتحقيق العدالة.