لقاء مارس يستعيد مسيرة الفنون في مناهضة الهيمنة والكراهية والاحتلال

الفن فعل فردي ولكنه تحرك جماعي بالضرورة، الفنان ليس فردا معزولا. الفن أيضا يقاوم ويتحدى لأجل الإنسان، هذا ما قالته وتقوله وستقوله التجارب الفنية هنا وهناك. وهذا ما طرحه بعمق لقاء مارس الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون، إذ خصص جلستين هامتين حول الفن المتحدي في مختلف أنحاء العالم، وخاصة في فلسطين.
ركزت جلسات الدورة السادسة عشرة من لقاء مارس السنوي، الذي نظمته مؤسسة الشارقة للفنون في إمارة الشارقة من الأول إلى الثالث من مارس الجاري، على دور المجموعات الفنية وتأثيرها في حركة الفن والمجتمع.
وفي هذا الإطار نظمت جلستين خصصت الأولى للحديث عن البنى التحتية للحراك الفني، بينما جمعت الثانية رواد الفن التشكيلي الفلسطيني وما عايشوه من تحديات استثنائية لتأسيس حراك فني بلغ العالمية.
العمل الجماعي
الحركة الفنية الفلسطينية نشأت متحدية الاحتلال واستمرت في التجديد إذ لم ترضخ للصورة التي تكرست عنها
قدمت جلسة “نحو بنى تحتیة مناھضة للھیمنة” في لقاء مارس مشاركة كل من يزن الخليلي ولارا خالدي ودادي دي ماكسيمو ومويسيرا ميتالي ويواكيم هامو ونبيلة السعيدي وليا غوردون وأندريه يوجين.
بداية طرح يزن الخليلي ولارا خالدي مسألة التمويل، متطرقين إلى ضرورة العمل حول نظرية وممارسة ثقافية تركز على الاقتصاد في علاقته بالثقافة.
وبين الخليلي أن مسألة التمويل تاريخية، إذ ظهر كهيكل اقتصادي من خلال المانحين، مستذكرا تجربة مركز خليل السكاكيني الثقافي، إذ التمويل والعمل الثقافي يجسدان التكامل بين كل الأطراف. كما تطرق إلى مسألة التأمين الصحي للفاعلين الثقافيين المستقلين، وهي ضرورية لضمان استمرار الفعل الثقافي وتأثيره.
وشددت لارا خالدي على أن المجموعات الفنية يجب أن تتعلم من بعضها البعض وتتقاسم الموارد وتعمل على ترسيخ مبدأ الاستثمار. ومن ناحية أخرى ذكرت مسألة تهريب الفن إلى غزة، والتحديات التي يعرفها الفنانون هناك، فالاحتلال يمنع العديد من المواد الغريبة مثل القرفة والبطاطس ناهيك عن مواد إنتاج الأعمال الفنية، لذا هناك تهريب للوازم الفنية من القدس وغيرها لإنتاج الفن.
وتطرقت نبيلة السعيدي ويواكيم هامو إلى تجربة “ترامبولين هاوس” وهي منظمة غير ربحية للاجئين في الدنمارك نشأت 2009. وذكر هامو طريقة نشأة المنظمة بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث غيّر اليمينيون قواعد اللجوء وصارت هناك معسكرات للاجئين. وهو ما حاولوا تجاوزه عبر المنظمة لتوعية اللاجئين ومساعدتهم القانونية، والعناية بالمبدعين منهم.
وتستذكر السعيدي تجربة “سيستر كويزين” ضمن المنظمة وهي التي كانت تقوم على تقاسم ثقافة الأكل واحتضان اللاجئات، لكن السلطات الدنماركية رفضت هذا التوجه، كما رفضت المنح والمساعدات القانونية التي كانت توجه للاجئين، الممنوعين حتى من تعلم اللغة الدنماركية. وهنا كان دور المنظمة التي مازالت تدفع باتجاه مساعدة طالبي اللجوء.
وتحدثت ليا غوردون عن تجربة بينالي غيتو في هايتي، ذلك الحراك الفني الذي نشأ من عدم بإمكانيات مادية ضئيلة للغاية، ورغم أنه لا يوفر ربحا للفنانين فإن أغلبهم ساهموا فيه ومازالوا يدفعون باتجاه استمراره رغم الظروف الصعبة.
وبينت أن عالم الفن قد يخضع لقيود بينما التعاون ليس سهلا.
وأضافت غوردون “البيناليات لا تحظى بدعم يجعلها عامة، لكن هناك مقاومة من الفنانين”. وقد قاوم فنانو هايتي ومازالوا ظواهر استثنائية مثل الزلزال المدمر، لذا فغيتو بينالي قدم تجارب مكثفة في بيئة عمل صعبة.
ونستشف من مداخلات الجلسة قدرة الفن على التحدي حتى في أصعب الظروف، وقدرته خاصة على تجاوز كراهية الأجانب وأن يكون توجها اجتماعيا واقتصاديا حتى، إذ الفعل الفني والثقافي ليس بمعزل عن الاستثمار، لكن من ناحية أخرى هو ليس اقتصادا بحتا، ولا مردودا ماديا فقط، وهذا ما نراه مثلا مع الصور التي قدمتها غوردون لفناني هايتي المنخرطين في البينالي وانخراط فاعلين ثقافيين في الإعلام من خلال محطة راديو بمساحة متر مربع في الشارع، أو اضطرار الفلسطينيين لتهريب مواد فنية، كل هذا يكشف مهام الفنان الصعبة وقدرته على التحدي والمقاومة ومناهضة الهيمنة والاستعمار والظروف.
الفن الفلسطيني
كانت الجلسة الثانية ليوم السبت الثاني من مارس بعنوان “مجموعة ‘نحو التجريب والإبداع’ الفنية: الفن بوصفه فعل تغيير ومقاومة” وشارك فيها رواد الفن التشكيلي الفلسطيني، نبيل العناني وسليمان منصور وتيسير بركات وفيرا تماري في حوار مع الفنان إسماعيل الرفاعي.
ولهؤلاء الفنانين الأربعة الفضل في خلق حراك فني وثقافي فلسطيني مستقل منذ سبعينات القرن العشرين، ليشكلوا الوجه الفني الفلسطيني المناهض للاحتلال الإسرائيلي والذي بلغ انتشارا عالميا.
بداية أكد إسماعيل الرفاعي أن “الحضور يثبت أن الرهان كان ولا يزال الإنسان والإبداع خارج منظومة القتل والقصف، وهؤلاء ضيوف يمثلون تاريخا كاملا”.
وتحدث نبيل العناني عن الظروف التاريخية لنشأة مجموعة “التجريب والإبداع”، إذ انكمشت بعد سنة 48 حركة التجديد الفني خاصة بعد صدمة 67، لذا حاولوا التجمع بصفتهم فنانين لكن لم يكن ذلك بالقوة المطلوبة.
ويذكر أن في سنة 1975 “حاولنا تأسيس جسم للفن التشكيلي، وأسسنا رابطة الفنانين. كنا بين 15 و20 فنانا، وبدأنا بتنظيم معارض تبدأ في القدس وتنتشر في أماكن أخرى. تلك المعارض خلقت نوعا من الشعبية للفن التشكيلي الفلسطيني. كان الناس متعطشين للفن الفلسطيني”.
وأضاف “كانت أعمالنا رمزية لها طابع سياسي؛ الخيام، الحمام، البيوت المهدومة إلخ.. وهذا خلق شعبية للفن، الذي كان فنا جماهيريا”.
ويتذكر كيف أن الاحتلال لم يرتح للموضوع واستدعوهم عدة مرات، ورفضوا أعمالهم ورموزها. وبعدها أسسوا ڤاليري 79، أول قاليري في فلسطين. وأغلقه الاحتلال عدة مرات. صادروا لهم مطبوعات ولوحات وسجنوا بعضهم. كانت هناك مواجهة دائمة.
الفنان سليمان منصور يعتبر أن الهوية موضوع تجريبي، إذ يجب التعبير عنه برموز لها شعبية عند الناس. لذا قاموا باستلهام الفن الكنعاني، والتطريز، وغيرهما.
وقال “أعمالنا عبرت عن تطلعات شعبنا، وهذا ما خلق لنا شعبية. لكن لم تكن هناك بنية تحتية مناسبة للعرض. لذا التجأنا إلى طباعة الأعمال الفنية وتوزيعها. لكن الشهرة أثرت فينا بعمق. صرنا نخاف التغيير في أعمالنا وصار الفن مملا لنا”.
وتابع “لكن بعد الانتفاضة الأولى تغير كل شيء. اكتشفت أنني لست ذلك الشخص المهم وهذه صدمة حررتني. من هناك بدأ التغيير في المواد الأولية الفنية التي كنا نشتريها من إسرائيل. اتجهنا إلى خامات أخرى. وكل فنان منا عاد إلى إرثه الشخصي”.
من ناحيته قال تيسير بركات “ظرفنا كفلسطينيين ظرف استثنائي. لذا منتجاتنا كانت استثنائية. الظروف الصعبة سيف ذو حدين. كان هناك تدمير كبير واجهناه على أكثر من صعيد”، مضيفا “الفن الفلسطيني قبل الانتفاضة كان في غالبيته يتمحور حول الهوية. حاول الفنانون إثبات وجود الشعب وتراثه وتاريخه. كان الفن طريقة لتأكيد رموز فلسطين، لكن بعد الانتفاضة صار هناك انفتاح على التجارب الحديثة. الانتفاضة خلقت تفكيرا معمقا بيننا وبين أنفسنا. وبدأنا شيئا مختلفا عن السابق”.
وتابع بركات “كانت الأعمال قريبة من البوستر، لكن بعد الانتفاضة كانت ردات فعلنا مختلفة تماما. لم نجار ما يحدث، بل ذهبنا للتجريب. نبيل اشتغل على الجلد، سليمان على الطين والقش، أنا على الخشب والحرق بالنار والأثاث”.
يلفت نبيل إلى أن إسرائيل سمحت للفلسطينيين بإنشاء كليات طب وغيرها إلا كلية زراعة وكلية فنون. وهذا له معناه. قائلا “كنا مثل الغيتو الثقافي. لذا فكرنا في إنشاء مركز فني. لكن إسرائيل رفضت أن ننشئ اتحاد فنانين وكان ممنوعا أن نتخذ مقرا، لذا اشتغلنا في بيوتنا وواصلنا التحدي”.
وفي مداخلتها عبر الفيديو قالت فيرا تماري إن “المناخ الفني تغير كثيرا بعد أوسلو. فقد تأسست تجارب جديدة غيرت المناخ الفني في فلسطين”. وتذكر أن “منى حاطوم زارت فلسطين وتعرفنا معها على الفن المفاهيمي. صارت هناك تجارب فردية، واليوم لم يعد الشباب مطالبا بالتجمع في رابطة. المناخ الفني الفلسطيني تغير وصار حيويا”.
ولفتت إلى أنها بصفتها فنانة صارت تدخل في تجارب جديدة، فقد دخلت في الفن الفلسطيني قضايا جديدة مثل المرأة والجسد وغيرهما، فقد صار الفنان في مواجهة فردية مع الجمهور المتلقي.
وعاد بركات ليؤكد أنهم حين بدأوا لم تكن هناك مؤسسة تحتضنهم، لذا كان مهما تأسيس شيء للأجيال القادمة مثل أكاديمية للفنون، مضيفا “كان دورنا فنيا وتأسيسيا أيضا”.
أما منصور فقد شدد على أن “السوق الفني أضر بالحركة الفنية الفلسطينية” إذ صار البيع هدفا ولذا يخرج الفنانون بأعمالهم خارجا.
وإن كان بركات يوافق منصور في تأثير السوق في الفن الفلسطيني وأن الفنان لا يجب أن يفكر في السوق أثناء الإبداع، لكن الفنان يحتاج إلى مردود ليعيش. وثمن الجيل الجديد الذي ينشر الفن الفلسطيني.
نفهم من الجلسة نشأة الحركة الفنية الفلسطينية متحدية الاحتلال واستمرارها في التجديد، لكنها لم ترضخ للصورة التي تكرست عنها، والتي تحول الفن بمرور الوقت إلى خطاب سياسي، وهو ما تجاوزوه، كما تجاوزه بقوة أدباء ومفكرو فلسطين، لعل إدورد سعيد ومحمود درويش أبرزهم. المقاومة بالفن ليست مباشرة بالضرورة وإنما بخلق خطابات بصرية تنفذ عميقا إلى الفكر وتخترق الذائقة وتؤسس لسردية الإنسان الفلسطيني بشكل قوي يتحدى الزمن.