"تواشجات" لقاء مارس تفتح ملف العلاقة المتقلبة بين الفن والسياسة

فنانون ومبدعون وأكاديميون في الشارقة يكشفون أدوار الفن في الاستدامة والمقاومة والتضامن.
السبت 2024/03/02
افتتاح لقاء مارس

منذ انطلاقته في مارس من عام 2008 تحول لقاء مارس السنوي الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون منصة تجمع مختلف العاملين في قطاع الفنون والإبداع، فاتحا في كل سنة الباب لنقاش أبرز القضايا المتقاطعة مع الفن وفق رؤى تشمل طيفا واسعا من المفكرين والكتاب والفنانين والأكاديميين من شتى أنحاء العالم.

انطلقت فعاليات الدورة السادسة عشرة من لقاء مارس السنوي التي تنظمها مؤسسة الشارقة للفنون في إمارة الشارقة من واحد إلى ثلاثة مارس الجاري، بحضور عدد من الفنانين والأكاديميين والكتاب، وتثير هذه السنة بشكل أساسي موضوع التقاطع بين الفن والسياسة، في استعادة لدور الفن الريادي في المجتمعات وفي سياسات الدول وتوجهاتها.

 كما يقدم اللقاء عددا من الأنشطة والورشات وأربعة معارض فنية هي «لالا روخ: إيقاع الجهات» و«مدرسة الدار البيضاء: منصات وأنماط الحركة الطليعية لمرحلة ما بعد الاستعمار 1962- 1987» و«هينوك ملكامزر: رموز وصور الطلسم» و«في عيون حاضرنا، نسمع فلسطين»؛ «غافن يانتس: أن تكون حراً”.

الجماعات الفنية

اللقاء يبحث في دور  المجموعات الفنية التي كرست البحث التشاركي لصناعة الخطاب الفني والممارسات الثقافية
اللقاء يبحث في دور  المجموعات الفنية التي كرست البحث التشاركي لصناعة الخطاب الفني والممارسات الثقافية

افتتح اللقاء الذي يعنون جلساته بـ “تواشجات” بكلمتين كانت الأولى لحور القاسمي رئيسة مؤسسة الشارقة للفنون بالإنجليزية والثانية بالعربية لنوار القاسمي مديرة المؤسسة، كلمتان ترحيبيتان بالحضور والمتدخلين والمواكبين للحدث، ومثلتا تأطيرا لأهم القضايا التي ستناقشها جلسات اللقاء وفعالياته التي تعيد النظر في المقاربات الفنية وأدوار الفن في الواقع وفي قضايا العدالة الاجتماعية والرؤى السياسية والمقاومة وما يرسيه الفن من تعاون خلاق في سبيل الإنسانية والبيئة.

وكانت البداية بجلسة حول “القوة التحفيزية للمجموعات الفنية”، تحدثت فيها كل من المديرة الفنية إيفيت كورلين عضو مجموعة “ماذا ولمن” التقييمية نتاشا إيليتش وصوفيا فيلينا أرايا ودينيز كيركالي وإيميلي فيديل من مجموعة “توب سويل” ومروان أندان عن مجموعة روانغروبا بينما ترأست أمل خلف مديرة كيوبيت لندن وقيمة معارض.

وتطرق المتدخلون كل من زاويته إلى مساهمات المجموعات الفنية في إنشاء فضاءات جديدة تكرس البحث التشاركي لصناعة الخطاب الفني والممارسات الثقافية، فالعمل الفني لم يعد فرديا بحتا، ولا هو نوع من الانعزال الفكري والجمالي والفيزيقي، بل يقوم الفن على التشارك والتعاون لأجل خلق حركية فنية تتجاوز الإشعاع الفردي إلى التأثير القوي وخلق الأنساق الفكرية والجمالية المؤثرة والتي تساهم بقوة في التغيير.

الفنانون سواء من الفلسطينيين أو غيرهم مطالبون بفعل الكثير تجاه ما يحدث في غزة وفي شتى أنحاء العالم

وناقش المتدخلون علاقة الجماعات الفنية بالفرد وتلك الجدلية التي تنشأ بين الفرد والجماعة، ودور هذه الأخيرة في التصدي لقيم الليبرالية المتمركزة، ومواجهة ظاهرة تسليع الفن وتسييره من حركات تجارية تفرغه من معناه الثقافي.

الفن في النهاية فعل سياسي أيضا، إذ لا يغفل أحد عن التقاطعات القديمة والمتجددة بين السياسة والفن، وهذا ما ناقشه الكاتب والمنتج السينمائي البريطاني من أصول باكستانية طارق علي في عرض أدائي لاحق بعنوان “أن تكون في هذا العالم”.

الفن والسياسة

طارق علي: لا نحتاج الابتعاد عن هذا العالم لأنه سيصل إلينا أينما كنا
طارق علي: لا نحتاج الابتعاد عن هذا العالم لأنه سيصل إلينا أينما كنا

يلفت الكاتب طارق علي إلى أن السياسة والثقافة كل واحدة منهما تؤثر في الأخرى ولا يمكن فصلهما. هما مترابطان، وهذا ليس بالأمر الجديد. بل يرجع إلى شعر هوميروس والإغريق الذين كتبوا عن حياة العاديين الفلاحين وغيرهم.

يقول علي “عندما نفكر في مسرحيات أرسطوفان، عند مواجهة الحروب المعاصرة، نستحضر أنه كتب مسرحية يناشد فيها النساء لوقف الحرب، بأن يتزوجن برجال ويتوقفن عن معاشرة أزواجهن لوقف الحروب، إنها مسرحية سياسية. على مر التاريخ كانت هناك حوافز للكتاب والفنانين للتدخل. هذا جزء من أن تكون ضمن هذا العالم في أماكن وأوقات مختلفة”.

وفي رأيه حتى مسرحيات شكسبير لا تغيب عنها مطالب الناس المبطنة في نسيجها الدرامي. ويشدد على الطابع العالمي والخالد للعلاقة بين الثقافة والسياسة، مضيفا “سيكون هناك دائما شعراء وكتاب وفنانون مرتبطون بالسياسة”.

ويذكر الكاتب الباكستاني هنا أن العرب لهم تقاليد عريقة في ترابط الفن والإبداع بالسياسة، مستشهدا بأبي العلاء المعري، إذ يقول “في حلب مثلا عاش المعري وكتب قصائد متقدمة سياسيا. وهاجم فيها مثلا حتى مؤسسات الزواج. قام بشيء لا يمكن تصوره”. مضيفا “عندما ننظر إلى الشعر مثلا في قرطبة. هناك شاعرة كانت لها قصائد لقاءاتها مع ابن زيدون (ويتحدث هنا عن الأميرة الأندلسية ولّادة بنت المستكفي) وغيرها. هذه تقاليد لا يجب أن ننساها”.

وإن كان يرى أن الغرب يحتكر الأمثلة المرتبطة بعلاقة الفن بالسياسة. لكن الكثير ينسون مثلا أن سياق كتابة سيرفانتس لـ”دون كيخوت” كان في سياق ترحيل اليهود والمسلمين.

ويذهب علي مباشر إلى الحديث عن الواقع السياسي الراهن وتعامل الفن معه، يقول “أريد أن أشرح لكم شيئا يحدث بالقرب منا الآن، المأساة التي تشهدها غزة. إبادة جماعية نشاهدها يوميا. الملايين حول العالم تظاهروا لوقف الإبادة. هناك من الأميركيين من انتحر حرقا احتجاجا على ما يحدث في غزة. لكن لا أحد ركز على الحدث. إنها البروباغندا التي لا تهتم بشخص ضحى بحياته لأجل قضية عادلة”.

المفاتيح تشبه وجوها شخصية
المفاتيح تشبه وجوها شخصية

ويقر أنه يجب أن نقوم بشيء ما. نحكي القصة وما حدث. مضيفا “كل ما استطعت التفكير فيه إنتاج مسرحية أو أوبرا. مسرح مبني على المونتاج. الملحمة أيضا مبنية على المونتاج”. مبينا أنه وحول غزة يجب أن نؤكد أن عددا قليلا يكتبون التاريخ. بينما البقية يكيلون بمكيالين. متسائلا لماذا لا يستخدم الغرب مثلا نفس المعايير التي كرسها في الأفلام والقصص التي أنتجها والتي عامل بها أوكرانيا ويعامل بها غزة.

ويشدد علي على أن الكتّاب والفنانين الفلسطينيين مطالبون بالكثير. ويبقى في رأيه “من الصعب إخفاء الدماء التي أسالها المحتل والعبودية والإبادة الجماعية، رغم أن التاريخ الحقيقي شيء لا يقع التشجيع عليه الآن. لكن الفلسطينيين لديهم ذاكرة تاريخية طويلة. عمرها أكثر من أربع وسبعين عاما.

ويعود علي للحديث عن الحرب الأهلية الإسبانية في الثلاثينات. حيث اختبر الانقلابيون أسلحتهم على مدينة غارنيكا. ما دفع ببيكاسو لإنتاج لوحته الشهيرة غارنيكا التي مثلت تقاطعا هاما للفن مع مآسي السياسة وما تخلفه على البشر والحياة.

ويذكر علي كيف أن الشعر في باكستان والهند يلعب دورا هاما في خلق النقاش حول أبرز القضايا. مشددا على أن السرد القصصي مهم لكشف التاريخ وإبقائه راسخا.

تيسير البطنيجي: على الفنان تجنب الخطاب السياسي والشكوى والتعاطف
تيسير البطنيجي: على الفنان تجنب الخطاب السياسي والشكوى والتعاطف

يتذكر طارق علي أنه يوم قصف بغداد كان في لندن جالسا مع الشاعر العراقي الراحل سعدي يوسف وكان يبكي. قال له إنه كتب قصيدة وجهها إلى مواطنه الشاعر مظفر نواب عبر الإيميل فكتب بدوره مجيبا عن تلك القصيدة. وهنا يتضح بداية تأثير التكنولوجيا في نشر رسالة الفن.

ولا يخفي علي أن هناك تحديات هامة للسرديات الموجودة والمكرسة. لافتا إلى أن معظم الشباب لا يقرأون الأخبار. إذ يعتقدون أنها كذب. يعرفون أن ما يقرأونه لن يقول لهم شيئا. فقد كذب الإعلام الغربي خاصة بشأن العراق وفلسطين وغيرهما. ويشير إلى أن هناك صحفا أميركية عريقة مثل نيويورك تايمز نشرت قصة قتل صدام حسين للأطفال ثم كذبت ذلك.

ويضيف “هناك صراع بين المؤسسات وعالم أولئك الذين لا يصدقون. بينما إذا حاولت كشف الأكاذيب نعاقبك، كما يحدث اليوم مع أسانج. هذا العالم الذي نعيش فيه. ولا نحتاج الابتعاد عن هذا العالم لأنه سيصل إلينا أينما كنا.

ويتابع “لا يمكن أن نقوم بالكثير لأجل فلسطين. القضية التي عادت إلى الواجهة. مهما كانت توجهاتك تظل هذه القضية عالقة في بالك. أطفال موتى. جنود يحتفلون بقتل الأطفال”.

ويوضح أن الديمقراطية الغربية لا تتقبل النقد لسياساتها. مثلا في لندن الملايين تظاهروا سلميا مع غزة. ولكن تحدثوا عنهم على أنهم مشحونون بالكراهية. بينما الناس ما عادوا يثقون بالإعلام.

ويوضح الكاتب أن الشرق الأوسط تدمر بعد الحرب الباردة. هناك مليونا عراقي فقدوا حياتهم وخمسة ملايين طفل فقدوا آباءهم. في ليبيا كان هناك هجوم لإسقاط النظام أيضا. الشرق الأوسط يعاد استعماره من جديد. وغزة أعادت إلى أذهاننا قضية الاستعمار في العالم أجمع.

وفي ختام مداخلته عرض طارق علي فيلما من خمس دقائق لإيسانغو من جنوب أفريقيا.

هشاشة العالم

حقوق الإنسان محفورة على الصابون
حقوق الإنسان محفورة على الصابون

قدم الفنان الفلسطيني تيسير البطنيجي في اليوم الافتتاحي من تظاهرة لقاء مارس عرضا أدائيا بعنوان “من باب الاحتياط” طرح فيه بشكل تشاركي قصته كواحد من أهل غزة، وقدم بعض أعماله وتجاربه الفنية.

يقول الفنان بداية “أنا تيسير البطنيجي من مواليد غزة 1966. الحقيقة من الغريب أن أقف أمامكم الآن. هذه من اللحظات النادرة التي أتحدث فيها أمام جمهور، بينما الإبادة الجماعية في غزة مازالت تحصد الخسائر الكبيرة. لقد فقدت الكثيرين من أفراد عائلتي”.

ولا يخشى الفنان أن يقول بألم “غزة الآن غير موجودة إلا كذكريات. أؤكدا أنه يجد صعوبة في قول ذلك الكلام. لكن الوضع أصعب مما نتحدث عنه.

أعمال الفنان مرتبطة بما يحدث. يقول البطنيجي “العمل الذي اعرضه اليوم هو تفاعلي وأدائي. أنجزته سنة 2015 استجابة لدعوة من مؤسسة الشارقة للفنون”.

استعادة مرسم في غزة
استعادة مرسم في غزة

يقوم عمله على التشارك مع الناس عبر صور المفاتيح، التي يصورها ليعيد عرضها. المفاتيح كما يقول “شخصية جدا والعمل عليها وكأنه عمل على صور شخصية”.

ويضيف “أول عملي على المفاتيح كان مع تخرجي في فرنسا من كلية الفنون الجميلة. انتقلت من الرسم على اللوحات إلى استخدام وسائط أخرى، وبدأت تأسيس أعمال من الفن المفاهيمي. ارتبط فيها عملي أكثر بالسياق السياسي والتاريخي وربطه بمسيرتي الشخصية”.

ويضيف “وقعت على كتاب يضم أشعار محمود درويش ورسومات ضياء العزاوي. من هناك جاءت فكرتي للعمل. استخدمت القماش لصنع لفائف. وعلى اللفائف آثار صدئ المفاتيح. عمل يستعيد ذاكرة الفلسطينيين الذين هُجّروا وقُتلوا. مازالوا أجيالا بعد أجيال يحتفظون بالمفاتيح. في فلسطين تتداخل الذاكرة الجماعية بالشخصية”.

ويعرض عمله المفاهيمي الذي يمثل مفاتيح من الزجاج. وهو كما يبين تعبير عن هشاشة فكرة العودة والبيت والمكان. كما يتطرق في عمله إلى ساعة رملية مقلوبة، مشيرا إلى أنها ترمز إلى توقف الزمن. كما قدم البطنيجي عمله المفاهيمي المنجز في مارسيليا وفيه حفر البند الثالث عشر لبيان حقوق الإنسان، حول حرية الحركة والعودة إلى الوطن والتنقل والاستقرار، على الصابون يدويا. وهو مادة هشة في دلالة واضحة على هشاشة الوضع.

ويذكر قصة طريفة عن طاولة الدومينو وماذا يحدث فيها الزمن بسبب اللعب، وهي طاولة حقيقية يعرض صورتها من قبل سنوات وبعد سنوات من لعب الدومينو عليها. ويعرض الطاولة بجانب صورتها، ليكشف فعل الزمن والوقت على الأشياء.

ويرى البطنيجي أنه على الفنان تجنب الوقوع في الخطاب السياسي والشكوى والتعاطف ولعب دور الضحية. مشددا أنه يركز على الجانب الإنساني في تجربته.

13