ترينالي العمارة الثاني في الشارقة يناقش "جمالية المتغير.. عمارة التكيّف"

المعمار الإنساني وسيلة نحت للهوية وفق المتغيرات المناخية والثقافية والسياسية.
الجمعة 2024/03/01
قراءة أخرى للحياة اليومية

مع انطلاق الدورة السادسة عشرة من لقاء مارس زار عدد من ضيوف الحدث الفني والثقافي من الفنانين والكتاب والفاعلين الثقافيين ترينالي الشارقة للعمارة الثاني، كما شاهدوا فيلما وندوة عن الكاتبة الأميركية توني موريسون، في تمهيد لافتتاح فعاليات اللقاء الذي يقدم عددا من المحاضرات واللقاءات والأنشطة المؤثرة في عالم الفن والثقافة.

تنطلق الدورة السادسة عشرة من لقاء مارس الذي تنظمه مؤسسة الشارقة للفنون الجمعة واحد مارس، لتقدم على امتداد ثلاثة أيام وإلى غاية الثالث من مارس مجموعة من المحاضرات والأنشطة التي تعطي للفن مكانته الريادية في الواقع المعاصر اليوم، خاصة فيما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية وتحقيق فاعلية الفن في الأحداث الراهنة من اضطرابات وهشاشة تعرفها أغلب المجتمعات.

وقبل انطلاق اللقاء كان الحضور من الفنانين والكتاب والفاعلين الثقافيين على موعد مع زيارة إلى ترينالي الشارقة للعمارة في دورته الثانية، عقبها حضور عرض لفيلم حول الكاتبة الأميركية توني موريسون.

المعمار والمتغيرات

حكاية الملابس المستعملة في أفريقيا
حكاية الملابس المستعملة في أفريقيا 

ينتظم ترينالي الشارقة للمرة الثانية بعد بعث دورته الأولى سنة 2018 وتنظيمها من نوفمبر 2019 إلى فبراير 2020، كأول منصة تدعو إلى الحوار حول مواضيع العمارة والعمران في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وجنوب آسيا، لينفتح في الدورة الثانية تحت عنوان “جمالية المتغير: عمارة التكيّف” والذي ينفتح على مجالات جغرافية وثقافية أبعد من دورته الأولى على غرار الإكوادور والهند ونيجيريا وغيرها.

العمارة ليست مجرد بنايات أو زخرفة مساكن وتشييد معابد أو قصور كما يتبادر إلى البعض، إنها منظومات ثقافية ووثائق تاريخية حية، من خلالها نقرأ المرحلة التي نشأت فيها بكامل زواياها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية وحتى المناخية، إذ تحمل الأعمال المعمارية شيفرات عديدة يمكن تفكيكها.

ترينالي الشارقة هذا العام اختار التوجه إلى الوعي المناخي الذي انعكس على المعمار منذ القدم في العديد مناطق العالم وهو لا يقل تأثيرا عن المعطى الديني أو الاجتماعي أو غيرهما، حيث تسعى هذه الدورة إلى إعادة الاعتبار للمواد الطبيعية والترميم والتكيف مع الظروف في ظل مجتمعات لا تنفك ضراوة الاستهلاك تزداد فيها.

وتكشف حر القاسمي، رئيسة الترينالي، أنه في هذه الدورة الثانية “تدعونا المعمارية النيجيرية توسين أوشينوو إلى النظر في الثقافة الوليدة لإعادة الاستخدام وإعادة التخصيص والابتكار والتعاون والتكيف في ظل ظروف الندرة”.

وبدورها قالت قيمة الترينالي توسين أوشينوو إن “العلاقة الراهنة بين العمارة والبيئة تكشف عن تضافر تاريخنا المحلي والعالمي، إذ تعيد إلى الواجهة قضايا الاستدامة والعدالة التي لطالما استوجبت إعادة النظر والاعتبار”.

تجول بنا الأعمال المقدمة من مساحات العشب المفتوحة في مراعي آسيا، إلى منازل نهر باباهيو في الإكوادور، إلى اعتناء سمية الدباغ بالتراب وهو مشروع حظي بدعم دائرة الثقافة والسياحة بأبوظبي، وتأخذنا من محلات تجميع الملابس المستعملة المنتشرة في أفريقيا إلى أعمال المعماري النيجيري البريطاني آلان فوغان ريتشاردز (1925 – 1989) الذي يتعامل مع المواد برهافة فريدة، وصولا إلى المناطق الصناعية بالشارقة والأعمال المقتبسة من بيئة أنغولا المتربة، وغيرها من المجالات المعمارية التي نعيد قراءتها على ضوء المتغيرات والاستدامة.

تشترك جل الأعمال المعروضة في توسيع مفهومنا للمعمار كما أسلفنا، علاوة على أنها تمثل وسائل الإنسان منذ القدم في التعامل مع بيئته وفق خصوصياته الثقافية الجغرافية والمناخية، حتى أن المعمار يعد في جانب كبير منه صانعا للهوية، بل هو إحدى أهم ركائزها، بما يقدمه من علاقات مع الطبيعة والمواد المتاحة من جهة، وما يصنعه من علاقات اجتماعية تبدأ من بيت العائلة إلى الشوارع والأزقة والشرفات والنوافذ والطرقات والأسواق، كلها تمثل المصنع الذي ينتج الذات بخصوصياتها في النهاية.

أعمال تتحدى الواقع

الأعمال المعروضة في الترينالي توسع مفهومنا للمعمار وتقدمه كوسيلة مادية وثقافية إنسانية في التعامل مع البيئة والظروف
الأعمال المعروضة في الترينالي توسع مفهومنا للمعمار وتقدمه كوسيلة مادية وثقافية إنسانية في التعامل مع البيئة والظروف

نقرأ مثلا في أعمال سندرا بولسون بعنوان “التراب هبة غير متوقعة”، وهي عبارة عن عمل تركيبي متعدد الوسائط والعناصر، كيف اشتغلت الفنانة والمعمارية على الأتربة التي تملأ العاصمة الأنغولية لواندا، حيث التراب عنصر اقتصادي أساسي هناك، ومنه تشكلت ثقافة لها بصمتها ولها أيضا دلالتها الطبقية، فبينما اختار المستعمرون البرتغاليون السواحل وشيدوا الشوارع والمباني الحديثة، كان الأنغوليون يعيشون في شوارع متربة، في تأكيد على ما كان من فصل طبقي واضح.

بيئة الأتربة وما رافقها ألهما بولسون لتنشئ تركيبات من التراب والنشا والورق المقوى، لتعيد تجسيد الحياة اليومية للأنغوليين، نجد الكراسي والبيض والملابس المعلقة والطاولات والأحذية المخصصة للطرق الطينية والسجاجيد والأغطية وغيرها من عناصر اختارت إعادة تشكيلها بالتراب والمواد التي تحيلنا إلى معمار اجتماعي كامل بكل روائحه وألوانه الباهتة.

أما الأستوديو الإكوادوري ناتورا فوتورا فيصور لنا واقع المنازل الخشبية العائمة على امتداد ضفتي نهر باباهويو، وهي مبان تقلص عددها بشكل مفزع من 200 إلى 25 فقط، وتقدم الصور تجربة إعادة بناء منزل عائم فيما يشبه عملية ترميم للماضي.

وتعود الأوغندية بوزيغاهيل إلى قصة الملابس المستعملة القادمة من الشمال إلى أفريقيا في الجنوب، حيث ينتهي بها المطاف في الأسواق المستعملة أو ملقاة هنا وهناك وفي مطامر النفايات بينما تعاني صناعة النسيج المحلية من ترد كبير، إذ لم تصمد أمام البضائع الشمالية الرخيصة أو المقلدة أو المستعملة.

 وتعيد الأوغندية تصميم تلك الملابس بأسلوب مختلف مستغلة بقايا الملابس المستعملة، لتعيد إنشاء أزياء مبتكرة وتعيد تصديرها إلى الشمال من جديد، ويقدم الترينالي عمل المصممة في بيئة شبيهة تماما بورشتها، حيت تتكدس الملابس المستعملة التي تأخذ منها موادها ولتعيد تدوريها.

ويعرض الترينالي عددا من أعمال آلان فوغان ريتشاردز المرهف في تعامله مع المواد بدقة مقدما “لمحة نادرة عن أحد أشكال الممارسة المعمارية المتكيفة والموائمة للثقافة والمكان والظروف المناخية في لاغوس نهاية القرن العشرين”.

يقارب ريتشاردز العمل المعماري من خلال فصله بين الخارجي والداخلي بسلاسة قل نظيرها، إذ تكون الحدود التي يصنعها رهيفة لا توحي مطلقا بذلك العداء أو التضاد أو الخوف الذي ينشأ بين بيئة الداخل والخارج والمكرسة في معمار منتشر هنا وهناك.

ترميم الماضي على النهر
ترميم الماضي على النهر

13