كتاب "النقاد ونجيب محفوظ" مغامرة وسط أفق محتدم بالأسئلة

في كتابه “النُقّاد ونجيب محفوظ: الرواية من النوع السردي القاتل إلى جماليات العالم الثالث”، الصادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث (المجمع الثقافي)، يسلط الدكتور علي بن تميم الضوء على كيفية تلقي نجيب محفوظ في النقد العربي الحديث، وخصوصية تجربته الروائية.
“النُقّاد ونجيب محفوظ: الرواية من النوع السردي القاتل إلى جماليات العالم الثالث”، في هذا الكتاب الصادر حديثا، يحاول الدكتور علي بن تميم أن يتمثل الخطابات النقدية المؤثرة التي أسهمت في تشكيل ظاهرة نجيب محفوظ التي يسميها بالظاهرة المحفوظية، والأخرى التي قاومت حضورها من أجل إبداع جماليات سردية جديدة ومغايرة.
وفي تناول لتلقي نجيب محفوظ في النقد العربي الحديث، اختار بن تميم النظر لذلك من خلال تقسيم الخطابات النقدية إلى عدة تمثلات مختزلة تعتمد حبكة ناقصة، لها بداية فحسب، لأنها لا تعترف إلا بالنسق الأيديولوجي الذي يوجه الناقد ويتحكم به، بدلا من أن يصدر عن بدايات جديدة ومقاصد مختلفة، ودون أن تكون له القدرة على أن يتجاوز النسق ويكسر آفاق التلقي، وهذا الاتجاه يعرف بالنقد الثقافي الذي اختزل عند بعض النقاد بالنسق أو الأيديولوجيا في النقد العربي الحديث.
ما بعد البنيوية
يرى الدكتور علي بن تميم أن هذا المنظور الذي سعى من خلاله لتقديم وقراءة نُقاّد نجيب محفوظ في هذا الكتاب، يستفيد من أطروحات ما بعد البنيوية، متمثلة في التفكيك ونظريات القراءة ودراسات ما بعد الكولونيالية، ونقد السير الذاتية الذي يربك النسق، ويحول اللاشعورية إلى شعورية، فيتحكم بها بدل أن تتحكم به، كي يحولها إلى تجربة ذاتية مفعمة بالخصوصية، لتتحدى التجربة الجماعية، وتردها إلى الذاتية، وتسعى إلى أن تتعقبها، معلنة أهمية الذات والأفق الإرادي الحر بدلا من الجبرية التي رآها تعزز ما يُسميه بالخطابات “مجهولة المؤلف”، أو بخطابات تعود حقوق ملكيتها إلى النسق الذي اكتسح النقد العربي مؤخرا، وتحولت فيه الذات إلى شيء مقيت غير مرغوب فيه، وأصبح المبدع يبحث عمن يقوم بعتقه من عبوديته، ويسأل النجدة من سيّد غير معروف قد سجنه.
وفي الفصل الأول من الكتاب الذي جاء في قرابة 500 صفحة، والمكوّن من أربعة فصول يحاول بن تميم أن يُمهّد لنا بمتابعة مفهوم القراءة وأنواع القراء، ويجلي ما يعرف بالنقد الشارح، ويقترح رؤية تاريخية لتطور ذلك النقد.
وأما الفصل الثاني فيقترح من خلاله تأويلا جديدا لنشأة الرواية، ويعطي منظورا مختلفا عن الآراء السائدة، فبدل أن ترد النشأة إلى التراث أو الآخر أو المزج بينهما بصورة ساكنة، فإنها عاينت النشأة داخل مشهد من الصراع، بين نوع سردي تراثي عربي ونوع آخر كولونيالي، أو بين سردية سمراء وسردية بيضاء. واتسم السرد العربي في هذا المشهد بمميزات مختلفة، فالمرحلة الأولى كان جدل الصراع فيها واضحا عند الرواد.
ويوضح لنا أن ذلك يبدو في انفتاح الحكاية وتناوبها بين التراثية والكولونيالية، ثم انتقالها إلى مرحلة ثانية اتسمت بالسكون، انهزم فيها السرد العربي بعد أن انتصرت السردية البيضاء وسيطر النوع القاتل.
طقوس العبور
يوضح الفصل الأول أيضا أن مرحلة ثالثة جديدة أتت أطلق عليها “طقوس العبور”، وأسهمت في إعادة الصراع من جديد. وأن نجيب محفوظ استطاع في مرحلة رابعة أن يطور تكنولوجيا مقاومة داخل النوع الأبيض القاتل، وهذا ما أدى إلى ظهور مرحلة خامسة بزغ فيها نوع سردي جديد وجماليات سردية للعالم الثالث نقيضة للجماليات السردية البيضاء للعالم الأول، وأن هذه المرحلة تكثّفت بعد هزيمة يونيو.
ويُسلّط الكتاب في الفصلين الثالث والرابع الضوء على تحول نجيب محفوظ من كونه كاتبا إلى مؤلف بعد أن دخل شبكة الخطابات، مع تبين بعض الأسباب التي جعلت نموذجه السردي سائدا بعد ثورة 1952. ومن ثم فإن صراع الخطابات يعد مسألة ذات أهمية، ويطرح الفصلان أسئلة من مثل: كيف تتشكل النصوص المعتمدة؟ ولماذا تنهار؟ ومتى تتشكل المعايير الموجهة للإبداع؟ وكيف؟ وعلى ماذا تعتمد؟ ومتى تتفتت تقاليد وتظهر أخرى جديدة؟ وهل تنهار التقاليد وتنتهي بعدما كانت واقفة على أرض صلبة ومتحكمة بالمشهد السردي؟
ثم تطرق الدكتور بعد ذلك إلى علاقة التلقي بالسياقات الثقافية والاجتماعية والسياسية والدينية، وماذا يفعل القارئ إذا ما صادف شكلا سرديا يقاوم فكرة النوع، ويتحدى التقاليد النوعية التي لا تعترف بثبات وجوه السرد والمؤلفين، وإنما تلجأ إلى التعددية؟ وكيف ينتقل القارئ ليقرأ اللامكتوبية أو اللامقروئية أو فترة الصمت؟
إضافة إلى محاولة بن تميم من خلال فصول وصفحات كتابه لتحليل اتجاهين نقديين، وهما النقد الجديد والنقد الواقعي، وسعيه لتسليط الضوء على مفهومي الأمة والدولة القومية، وكيف يحددان مسار القراءة وتقاليد الكتابة؟ وماذا يحدث بعد أن تتعرضا للتفتت؟
ثم يطرح علينا السؤال: هل المعاييرالسردية والنصوص المعتمدة هي في الأصل ظاهرة جمالية أم اجتماعية مستجلبة من الدولة والأمة؟ ومن ثم فالكتاب يفسر الحساسيات السردية عن طريق السياقات الثقافية، ويُبين كيف تراجع النموذج السردي ما قبل محفوظ ليحل محله نموذج الرواية عند نجيب محفوظ.
ويُناقش معنا كيف تراجع نموذج نجيب محفوظ ليفسح المجال لنموذج مختلف، يؤمن بالتعددية والسرد المهجن، وعبور الأنواع من أجل أصوات غير متناغمة، وأساليب مختلطة تعرف بالحساسية الجديدة، ويتوقف بنا عند سؤال آخر هو هل هذا العبور من نموذج إلى آخر هو عبور بريء وتحكمه الجماليات بمعزل عن صراع الخطابات والسياق الثقافي؟
عالم نقدي مراوغ
يحاول الدكتور علي بن تميم أن يغامر في هذا الأفق المحتدم بالأسئلة كمناخ عام تحاول فصول الكتاب ملامسته أو الاشتباك معه، لأنه عالم نقدي مراوغ، والمراوغة تقتضي هي الأخرى قارئا مسكونا بتفسير الظاهرة وكشف مراجعها ومنظورها الداخلي وسياقاتها الخارجية عن طريق الارتحال القلق في قراءة مفتوحة وغير جازمة، تمقت الإجابة الأحادية أو الالتزام بمنهجية مقيّدة وساكنة.
ويوجز لنا في خاتمة كتابه خلاصة ما توصل إليه من خلال فصول كتابه الثّري، فيشير إلى أنه ميّز من خلال ما قدمه من أطروحات بين نموذج الرواية قبل محفوظ، ونموذج محفوظ السردي، واقترح مراحل محددة لتطور الرواية العربية، توقف عند مجموعة من الأسباب التي أسهمت في جعل نموذج محفوظ السردي يختلف عما سبقه، وبدايات محفوظ وتلقيه نشآ عن طريق الشعور بالتهميش أو تخيل الانتساب إلى الأقلية، وقد عرض مجموعة مـن الأسباب التي أدت إلى هذا الشعور والانتساب.
وأكد لنا أنه لم يتصد ناقد إلى كشف تمثيلات نجيب محفوظ وتلقيه في الخطابات غير العربية، وخصوصا في النقد الأنجلو – أميركي، وأن مجمل ما يتوفر هو عرض إحصائي للدراسات، واستعراض للمواقف النقدية، أي أنها لا تعتني بخصوصية الخطاب، ولا تهتم بالتمثيلات، ما عدا بعض الإشارات الموجزة لإدوارد سعيد وروجر ألين اللذين ألحّا على أن محفوظ تم تمثله عن طريق المنظومة الاستشراقية الراسخة عن العرب.
وتدلنا الخاتمة كذلك على وجود حبكة متماسكة يختلط فيها الكاتب التجريبي بالمؤلف المتخيل، وأن هذا أدى إلى تفتت الحدود الفاصلة بين السيرة والإبداع اللذين يمتزجان في سيرته وفنه وتلقيه، وأن هذا التداخل يبدو أنه أسهم في جعل التلقي السياقي أكثر حضورا من القراءات الشكلية، بل وتذهب الخاتمة إلى القول بأن مفهوم المؤلف الشبحي أو العتبي يغني محفوظ، ويعد الأكثر أهمية من استدعائه بصورة كلية ليتحكم بالدلالة والتأويل أو تغييبه بصورة تامة.
ويلفت بن تميم إلى أن هناك الكثير من الخطابات التي ألحّت على استحضار سيرة المؤلف بوصفها سلوكا في القراءة، لكن بعضها كان يصدر عن نزوع خلاق يكمن في عد محفوظ مؤسسة رمزية وشفرة إبداعية، وأن قراءة محفوظ بوصفها مؤسسة كانت تبرز في ثنائية سلبية، الأولى ترى أن هذه المؤسسة أصبحت بديهة أدبية، وعائقا أمام تطور الرواية العربية، والثانية تلح على انهيار المؤسسة واندثارها.
وأن هناك خطابات أكثر حيوية وإيجابية، لأنها تأملت المؤسسة المحفوظية عن طريق التفكير في قوانينها من أجل تطويرها. وأن هذا أدى إلى فهم مختلف لتأمل المؤسسة، وإعادة قراءة شيفراتها، منطلقة من أهمية تجاوز الإلحاح على فكرة الانهيار أو الرسوخ إلى الانفراط الذي يُعاد تلقيه بواسطة إساءة القراءة والقلق من التأثر بها، لأن كل رمزية جديدة تبنى على خراب الرمزية الأولى.
التمييز بين القصة والرواية
رأى الدكتور علي بن تميم أنه يتم التمييز بين القصة والرواية، وهو تمييز فني يفصل بين النوعين، وفي جزء آخر من الخاتمة أشار إلى أن جزءا من تلقي نجيب محفوظ كان خاضعا للتنكر أو ميكانيزم التكيف أو الخطابات الحكيمة التي تحاول أن تتجنب الصدام المباشر بالمؤسسة السياسية، وأن هذا النزوع في الخطابات أظهر أثرا بالغا في توجيه تلقي نجيب محفوظ، وتغيير الاستجابة إليه، وتمثل عالمه السردي، وإعادة التفكير في علاقة السرد بالواقع.
ونوّه بأن القراءات النقدية لأعمال محفوظ تعد منظومة مركبة ومتداخلة بعناية فائقة، وأنه لا يمكن فصل القراءات عن بعضها، وأن نقاد ما قبل ثورة 1952 أثّروا في نقاد الخمسينات والستينات والسبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
كما بيّن أهمية قراءة الخطابات النقدية قراءة تعنى بتسلسها الزمني، حيث يمكن تقديم مقالة على الأخرى في أحايين كثيرة، وأن مجمل الأطروحات تؤدي إلى بعضها، وتثبت منظورا نقديا بعينه، وأن فكرة ثبات عالم محفوظ السردي موجودة قبل الثورة، وأنه بعدها أصبحت الحدود الفاصلة بين المؤلف التجريبي والعالم السردي غير واضحة ومتشابكة.
وشددت خاتمة الكتاب على أنه لا يمكن اعتماد حوارات محفوظ في تفسير أعماله، دون وعي بالملابسات الكثيرة المحيطة بها، وعلى أهمية النقد السير ذاتي في تلقي نجيب محفوظ، خاصة وأنه مثل سلطة محددة للدلالة بشكل واضح على الخطاب النقدي، وأن اللجوء إلى نقد السيرة الذاتية يحفز على تقويض سلطة المؤلف، وأن هناك سياقات بعينها حكمت تلقي عالم محفوظ السردي، حيث تختلف مرحلة الستينات عن السبعينات، وكذلك الثمانينات، وأن القارئ في كل هذه الفترات يتخذ دورا يختلف من سياق إلى آخر، وأن التبدلات التاريخية للأمة والدولة القومية أسهمت في طبيعة التلقي، وحددت خيارات الاستجابة، ووجهتها.
يُذكر أن الدكتور علي بن تميم، هو إعلامي وناقد أدبي، وأستاذ جامعي إماراتي، يشغل عددا من المناصب بينها رئاسة مركز أبوظبي للغة العربية، وله عدد من المؤلفات بينها: كتاب “السرد والظاهرة الدرامية، دراسة في التجليات الدرامية للسرد العربي القديم”، وكتاب “الإسلام وتاريخ العرب”، وكتاب “كتاب الشعر على الشعر”.