من يصنعون الأدب ليسوا الأدباء ومن يصنعون الثقافة ليسوا المثقفين

الأدباء والمبدعون والمثقفون كلهم جزء لا يتجزأ من الصناعة الثقافية، لكنهم ليسوا المسؤولين بمفردهم عنها، بل تبدو أدوارهم بلا معنى في غياب التسيير والمنتجين، حيث تتكامل المؤسسات الخاصة ومؤسسات الدولة، إيمانا بأهمية بل جوهرية الصناعة الثقافية، لكن أي واقع للصناعة الثقافية في العالم العربي؟
تساءلت مرارا: من يصنع المشهد الأدبي؟ هل هم الأدباء؟ سؤال يجر إلى البحث عمن يصنع المشهد الثقافي والفني ككل، هل يصنعه ويشكله المثقفون والفنانون بمفردهم؟ وقد يكون من الغريب أن أجيب بـ”لا”.
على امتداد تاريخه وصل إلينا الأدب بطريقتين لا غير، الأولى شفاهية، وكانت في أغلبها مليئة بتدخلات من ينقل النص حتى يتوه أصله ويمتلئ بالإضافات، والثانية وهي الأهم الكتابة، أو ما يصل إلينا عبر الوثائق وخاصة عبر الكتب التي عبرت القرون لتوصل إلينا أشعار هوميروس وسافو وأفكار وأدب الجاحظ وابن المقفع وباشو وغير هؤلاء من أعلام الأدب الإنساني.
لكن هل كان لهؤلاء وجود مؤثر هكذا لولا كتبهم التي وصلتنا؟ طبعا لا. إذن من صنع الأديب وسافر بتجربته هو الكتاب الذي أنجزه، وانتشار هذا الكتاب. بعيدا عن تلك التواريخ الغاربة، وبعد اكتشاف الطباعة صارت تحكم عملية نشر الكتب دور نشر تزايدت أعدادها وتنوعت أساليبها في صناعة الكتب وتوزيعها.
أي كاتب أو شاعر اليوم يصنعه كتابه، حتى من يدعون بتعويض وسائل التواصل الاجتماعي للكتب الورقية ووجود تجارب على هذه المواقع، نسألهم لماذا يسعى كتّاب الحبر الضوئي إلى نشر كتب ورقية من بعد انتشارهم أو تحققهم الافتراضي؟ وببساطة لأن الكتاب مازال هو الصانع الأبرز لتجربة الكاتِب.
صناعة الكتاب
لقد قاد الناشرون بمختلف مستوياتهم عملية صناعة المشهد الأدبي متعاملين مع ذوات الكتّاب المتقلبة للغاية، لكن قليل من يذكرون دور الناشرين في صناعة الأدب وتحويله من فعل ذاتي منعزل إلى تجربة ثقافية مفتوحة على الإنسانية، محققين الغاية الأولى التي يرجوها كاتب من الكتابة: الاعتراف. ومن بعده الغايات الأخرى كالشهرة أو المال أو الوجود أو محاولة الخلود أو غيرها.
عملية النشر في دول راسخة في صناعة الكتاب يحكمها نظام متين يبدأ خاصة من المحررين مكتشفي النصوص ومطوريها، عملية تراهن على النص وتصنع اسم ذاك الكاتب أو تلك الكاتبة عبر تكامل من لحظة اكتشاف النص إلى الاشتغال عليه إلى التعاون مع النقاد والمنابر الإعلامية وتوزيع الكتاب والترويج له والدفع به للجوائز.
إضافة إلى الناشرين نجد الإعلام الذي يتابع بالنقد والإشهار الكتب، ولكن يبقى للجوائز الدور الأبرز في تتويج التجارب الأدبية والتعريف بها، كم من أديب صنعته جائزة نوبل مثلا؟ وكم من الأدباء قدمتهم حتى جوائز مثل البوكر الإنجليزية والغونكور الفرنسية والبوكر العربية وجائزة الطيب صالح ونجيب محفوظ وغيرها من جوائز الدول ومعارض الكتب؟
يصنع إذن المشهد الأدبي لا بأيدي الكتّاب فحسب بل بمن يقودون ماكنة النشر، وبالجوائز التي تدعم أغلبها الدول أو القطاع الخاص، والتظاهرات التي تنظمها المؤسسات الثقافية، والإعلام المتابع والناقد، وبالتالي ما الكاتب إلا البذرة الأولى للعمل الأدبي، الذي لا يتحقق إلا بالقارئ والمقروؤية.
لكن ماذا عن العالم العربي؟ هل يمكننا الحديث عن صناعة كتاب وصناعة مشهد أدبي؟
لا ننكر التطور الكبير الذي عرفته صناعة الكتاب في العالم العربي كما وكيفا. لا ننكر الجوائز الهامة التي باتت منتشرة هنا وهناك، وخاصة ما تقدمه الدول الخليجية. لا ننكر أيضا أهمية التظاهرات الأدبية وخاصة تلك التي تنظمها معارض الكتب. لكن الواقع لا يخفي الخلل الذي يسكن أعماقه.
الكثير من دور النشر باتت مثل الدكاكين تأخذ مالا من أي كان وتنشر له كتابا، أو هي تعتمد نشر كتب رديئة لمشاهير فقط لتحقيق الربح، الاسم يبيع قبل النص، وبعضها في أحسن الحالات تتحكم فيها شلل تجمعها المصالح أو الإيديولوجيا أو العلاقات الخاصة، وبالتالي الناشرون لا يطرقون أبواب الكتّاب ولا يبحثون عن النصوص، بل العكس ما يحدث، كل كاتب يقفز من دار إلى دار بوساطة فلان أو قريب فلان أو بالتزلف لفلان، لنشر كتابه ومن ثم الترويج له بنفسه إلى آخره من تلك العملية المثيرة للأسف.
أما المكتبات فهي بدورها محلات بيع للكتب لا يجهد القائمون عليها للمساهمة في ترويج الكتب الجيدة، بل يكتفون بملاحقة ظاهرة الأكثر مبيعا وغيرها من ملصقات وطرق تشكيل واجهاتها التي لا تختلف عن ترتيب صناديق الخُضار.
كمّ الكتّاب رهيب مقارنة بالقراء، ولكن منظومة النشر وصناعة الكتاب العرجاء هي السبب في اضطراب المشهد لا الأدباء. فمن حق الجميع أن يكتب، لكن من يضبط الأديب من الهاوي من الدخيل؟ قليلة هي دور النشر التي تعول فعلا على المحررين واكتشاف النصوص، وتصنع التجارب، ربما تعد في العالم العربي على أصابع اليد الواحدة. البقية سوق بيع كتب لا صناعة أدب وفكر.
الخلل الذي يصيب جوهر عملية صناعة الكتاب يتمادى إلى ما بعدها من المكتبات إلى المنابر الإعلامية إلى الجوائز، رغم الجهد الذي تبذله الدول ومؤسساتها ووزارات ثقافتها، فالتسيير مازال منقوصا من الكفاءة والموضوعية، مازال غارقا في الذاتية والسلطوية ناهيك عن الشلل المتجمعة في كل ركن.
الصناعة الثقافية
لا يختلف واقع صناعة الكتاب عن صناعة الفنون الأخرى؛ مسرح، سينما، موسيقى، فن تشكيلي، رقص وهلمّ جرا.
يقتات أغلب الفنانين في مجمل البلدان العربية على ما تقدمه المؤسسات المانحة، والتي تدعم الإنتاج، وغالبا ما تكون تابعة لمؤسسات وزارة الثقافة، تفرض توجهات معينة، أو مانحين من الخارج ولهم أجندات معينة، إذن من يصنع المشهد هو المانح والداعم، إضافة إلى المهرجانات والجوائز.
منظومة الإنتاج الفني هي الأخرى يصنعها المسيرون والمنتجون والمانحون والموزعون، لا الفنانون فحسب، وإضافة إلى هؤلاء هناك المنصات الإعلامية من الصحف ومحطات الراديو والتلفزيون والإعلام الموازي مثل مواقع الإنترنت والبودكاست وغيرها، كلها وسائل للصناعة الثقافية.
منذ القدم كانت المؤسسات هي الصانع الأبرز للحركة الثقافية، فلولا بيت الحكمة في بغداد مثلا لما عرفت الحضارة العربية تلك الحركية في الترجمة والعلوم والفلسفة وغيرها.
الناشرون ووسائل الإعلام والجوائز والتظاهرات يقودون عملية صناعة المشهد الأدبي واختلال أدوارهم يخل بالمشهد
لنتساءل عن طرق عمل صانعي الثقافة في بلداننا العربية، هل هي عملية لها ركائز وقواعد راسخة وقوانين واضحة وتأطير تسييري ثابت وموضوعي وأهداف حضارية أم هي فقط اجتهادات هنا وهناك ومحاولات تحصيل للربح؟
الصناعة الثقافية دور أجهزة الدولة أساسا في تكامل مع دور المؤسسات الخاصة، التي توازي وتتفوق بعضها على أدوار مؤسسات الدولة. هذا التكامل لا يمكن أن يحدث في غياب توجه سياسي يؤمن بأهمية الصناعة الثقافية وأنها ليست فقط ترفيها أو ترويجا أو مجرد صور لتلميع النظام، بل هي في جوهر التأسيس الحضاري، الذي يؤمن بالفرد وتنوعه، الذي يثمن الماضي ويخدم الحاضر ويؤسس للأجيال القادمة، لكن هل هذا في اهتماماتنا كعرب اليوم؟