تجربة نبيه بلان تراكم اللحظات الهاربة

ذات فنية تحرر دواخلها على أسطح المحامل لتعيد تشكيلها.
الاثنين 2024/02/05
موهبة تحرك الحياة وتدفعها نحو الجمال

انطلاقا من إيمانه بأن الفنان يجب أن يجرب جميع التقنيات، اشتغل الفنان السوري نبيه بلان عبر رحلته مع عالم الفن التشكيلي على تقنيات وأساليب متنوعة تنطلق من التناقضات داخله دون أن تنسى الاهتمام بالخارج وعملية التأثير المتبادلة المستمرة بين ذات الفنان والحياة.

يغمرني شغف كبير كلما اقتربت من تجربة فنان ينتمي إلى مدينة السويداء، المدينة التي لا تشبه إلا طيبة أهلها، المدينة التي زرعت أريجها في داخلي منذ ثمانينات القرن الفائت حين كنّا على مدرجات جامعة دمشق نبحث عن مكان نستطيع أن نتنفس فيه بشهيق وزفير عميقين، ما تعرفت على أحد من السويداء إلا ورسخ احترامي لها وعمّق إحساسي بحبها، وكأنها مدينة من نفس واحد، وكأن جميع أبنائها بروح واحدة وإحساس واحد وعاطفة واحدة.

تذكرني السويداء دائما بعامودا المدينة الغافية في قلبي أبدا، توحيان لي بالحياة الحالمة أبدا، فأبناء هاتين المدينتين يرضعون الثقافة والفكر، ويقولون الشعر وهم في حبوهم، ويناقشون في الفلسفة وهم يمشون، وحين يكبرون يكتملون في بساطتهم ووعيهم وإنسانيتهم.

أسوق هذا الكلام وأنا مقبل على تجربة أحد أبناء السويداء، أحد فنانيها الذين كان لهم الدور الكبير في ملء فراغاتها التشكيلية، وفي رسم الطريق إلى حلمها. أسوق هذا وأنا أدق الباب على نبيه بلان (السويداء 1948)، الفنان العاشق للفن وإشاراته، وللإنسان وإنجازاته، الفنان الذي يستوعب قيمة الحافلة التي يجرها منذ نصف قرن، ويستوعب قيمة حمولتها، ويملك من الأرضية بمصداقيتها كلها ما ستسمح له بقطع تلك المسافات غير المحددة معتمدا على حبه أولا وعلى رؤيته الخاصة ثانيا، مع إعطائه كل الشرعية لنفسه وللمتلقي.

إنه يعطي شرعية لما يتحرك في دواخله من أشياء وصور وموضوعات بأقصى حريتها الممكنة، ولفعله الباعث على السكينة والاضطراب تبعا لحالاته المزاجية في اختيار ألوانه التي لها موجاتها الكهربائية في التأثير على فيزيولوجيا الإنسان، وللمتلقي بقراءاته البصرية المختلفة والتي تميل إلى تفسير اللون في ضوء علاقاته بالألوان الأخرى المحيطة به والمتفاعلة معه.

رحلة تمتد لنصف قرن، حاول فيها نبيه بلان مرارا إيجاد التوازنات بين العين والريشة، بين الوعي واللاوعي
رحلة تمتد لنصف قرن، حاول فيها نبيه بلان مرارا إيجاد التوازنات بين العين والريشة، بين الوعي واللاوعي

هنا ستظهر لنبيه بلان تلك الدلالات الرمزية المختلفة والتي ستسمح له بالغور في المشهد البصري لقطف لآلئها ومرجانها. فبلان على يقين بأن كل إنسان/فنان/متلق له تصوراته في فك وتركيب هذا المشهد بغض النظر عن الزاوية التي يقف فيها، وعن المستوى الذي يطل منه، والذي منه يمارس أفعاله/ قراءاته، فالاستجابات هنا ستتزايد إن كان بتناغم أو بتنافر، بشكل تلقائي أو مدروس، وبعيدا عن التصنيفات وتوابيتها.

بعيدا عن القوالب الصارمة الضيقة يتجه بلان في أفكاره وانفعالاته إلى الداخل، فهو يحبذ التأمل لا الاندفاع والغضب، دون أي تهميش للخارج الذي يمثل استجاباته بعواملها الخاصة وبتفضيل أقصر أو أطول لجماليات ألوانه وخطوطه وتكويناته، مع ترك الفرصة لكل الاحتمالات الرمزية اللانهائية والإبداعية لا في الفن فحسب بل في الحياة أيضا دون أي قهر لتفكيره وخياله، مع حرصه على ترك زمام الأمور لإحساساته لتقوده هي في إثرائها نحو البداية أو اللانهاية حيث الطاقة مرتبطة إلى حد كبير باهتماماته واختياراته التي ستوجهه نحو تحقيق مقولات جمالية غير شائعة تحقق له بدورها المتعة كلها والحضور كله.

ومن خلال الاقتراب على نحو أكثر من عوالم الفنان السوري نبيه بلان، تلك العوالم الجمالية التي تتمكن من جذب انتباهنا إلى أصواتها ومفرداتها، وإلى محاولاتها لابتكار أشكال توحي بصياغات قابلة للدراسة، ستحتار حتما على أي اتجاه منها ستميل، فاللحظات الهاربة منه تتراكم وكأنها في مهمة رسمية، والتأثير في طبيعة تفاعلاته يرفع من معدل العلاقة بينه وبين أعماله الفنية، مع امتلاكه لخصوبة لونية تتمثل في تلك اللحظات ذاتها.

 ستحتار في التعامل مع عوالم بلان، فهي تحمل هواجسه الزاخمة بالحياة، المسؤولة عن استسلامه لانتمائه الإنساني، فهو يقوم باختيارات جمالية تعتمد على عمليات التذوق المرتبطة على نحو كبير بعمليات الإدراك المحاطة بالمدركات البصرية والتي يمكن فكها وتحليلها إلى مكوناتها الأساسية ثم محاولة إعادة تركيبها في مكون جديد، وكأنه بهذه الحركة يحرك الحياة برمتها ويدفعها نحو الجمال، الجمال الذي يمكنه أن ينقذ العالم حسب تعبير ديستويفسكي في موقف ما من رواية الأبله.

ويذهب بلان في وجهة جديدة حين يقوم بما ينبغي عليه في دراسة احتياجاته الخاصة وتفضيلاته، فالالتقاط الفوري لموضوعاته يخضعه لشبكة تصورية من العلاقات بين وحداتها بما ينبغي أن تكون غير قابلة للتحديد، وإن كانت أعماله مستقرة وهادئة، مشحونة بطاقة تتجه في اتجاه تآزر المكونات الخاصة بنسق معين يكشف نشاطاته التي تتكئ على معايير مألوفة.

الخلاصة أن هناك اتفاقا بين مفاتيح سلمه وبين مراكزها النغمية الثابتة، إن كان في تطوير مكوناته المعرفية والارتقاء بمهاراته، أو في اكتساب الألفة العامة ومحاكاة إيقاعاتها، فرغبته القوية في إحداث تغيرات ارتقائية تمنحه إحساسا عاليا بالحرية المتزايدة، وبالحركة على أنها عمليات استمتاعية تعتمد على إتقانه للغة لا ترتبط باللون والموسيقى والسحر فحسب بل هي الحكاية ذاتها تمكنه من سرد مساراتها النشطة التي كل منها تهمس باحتفالاتها وطقوسها وأحداثها، تمكنه من الصعود باكتشافاته على أساس رؤيته الفنية وخصائصه الحسية وإمكاناته التعبيرية والتآلف بين كل ذلك يعطيه إحساسا بصريا بالمكان والكتلة والحركة والضوء، كما يعطي لوحته حضورا خاصا.

عوالم جمالية تثير انتباه المشاهد
عوالم جمالية تثير انتباه المشاهد

ولد الفنان السوري نبيه بلان من أب كان يعمل في طرق النحاس، فالفن كان يسبقه في الحضور في عائلته، وكان لذلك دوره في اكتمال دورة الحدث عنده، في عام 1970 تم إيفاده إلى الاتحاد السوفيتي لدراسة الفن، ليتخرج منه عام 1977، يعود بعدها إلى دمشق ليقيم معرضه الأول في صالة الشعب، ثم يعين مدرسا في الحسكة وفيها أقام معرضه الثاني.

رحلته تمتد لنصف قرن، حاول فيها مرارا إيجاد التوازنات بين العين والريشة، بين الوعي واللاوعي مرصودا على نحو ما معطيات بحوثه الانطباعية، وتجليات واقعيته المشحونة بلمساته والتي بها يستعيد لون الشرق مع احتمالية مزجه بينهما لا على شكل عالم من سراب، بل على شكل إبراز الطاقة التعبيرية فيها وإن بروابط مكانية تحمل رؤيته وهو يتتبع إيقاعية حركاتها المنحازة بالضرورة لبريق إشعاعات لونه الشرقي.

ومن المفيد العودة قليلا إلى مساحات الفنان وآفاقها الرحبة التي أينعت تجربته، إذ سنجد أنها تنشطر إلى شطرين، شطر يذهب إلى فن البورتريه وقدرته الفائقة على خلق ملامح لها تدفق من خصوصيته هو، وكأنه فيها يخبرنا بأن الكاميرا لا يمكن أن تقطف وجوهنا ووجوه من نحب من أعمالنا، وشطر آخر يذهب إلى الطبيعة وإلى الأحياء القديمة، في هذا الشطر يجد بلان ضالته ضمن تجاورات لونية مبتكرة ومنسجمة، وهناك دائما تركيبات وحالات مزيج من الألوان تعتمد على المثير الجمالي للطبيعة والتي تحتوي على خطوط وتكوينات وما شابه ذلك، مع احترام التقاليد والشكليات والطقوس والتراث وهذا يدفعه نحو مجالات بعينها.

14