"التسوّل الثقافي" ينخر المشهد ويشوّه المفاهيم في تونس

في الكثير من البلدان العربية على غرار تونس تحوّل الفعل الثقافي إلى مسألة مريبة، خاصة في ظل هيمنة الدولة عليه واختراقه من قبل أناس لا علاقة لهم بالفعل الثقافي. وهذا ما خلق مجالا للانتفاع بالدعم الذي تقدمه الدولة وبما تدره التظاهرات الثقافية من قبل فئة لا يهمها الإنجاز بقدر ما يهمها الانتفاع قدر الإمكان، تحت لافتة الثقافة التي لا محددات واضحة لها.
ليس أسهل من إدراج أي "فعل بشري" تحت بند "نشاط ثقافي"، بما في ذلك شتى أساليب التعيّش والتحيّل والتسوّل وجمع الأموال بطرق مشروعة وغير مشروعة. ترى، ما الذي جعل الثقافة بوابة مشرعة للتحركات المشبوهة وساحة يرتع فيها من هبّ ودبّ من الدخلاء على هذا النشاط الإنساني النبيل؟
كيف السبيل لحماية الثقافة عبر التفريق بين أهل الاختصاص وأصحاب الميدان من الموهوبين والمتفوقين من جهة، وبين المتطفلين والمتعيشين من جهة ثانية؟ هل من تعريف جامع مانع للنشاط الثقافي، في ظل اتساع المفهوم عبر التعريفات الفضفاضة التي تحتويها العباءة الأنثروبولوجية للفعل الثقافي في العصر الحديث؟
الحقيقة أن الثقافة نفسها، هي التي جعلت من نفسها مستباحة، وذلك عبر تعريفاتها الهلامية التي تستدعي كل نشاط إنساني مهما بلغ من التفرد والتطرف والغرابة، ثم أنها لا تضع لنفسها حدودا وضوابط تعليمية وأكاديمية واجتماعية.
هو وكما يعرفه الباحث حمد حسن التميمي، من أكثر المفاهيم الرئيسية جدلية في علم الاجتماع بشكل عام والإنثربولوجيا بشكل خاص، إذ يمثل هذا المفهوم منبعاً من منابع الفكر الإنساني الذي أسهم منذ فجر التاريخ وحتى يومنا هذا في مختلف جوانب الحضارة البشرية.
سلوك التسوّل
من بين أهم تعريفات الثقافة، التعريف المذكور في كتاب المفكر إدوارد تايلور، يعد الثقافة في كتابه “الثقافة البدائية”: “كلّاً ديناميكياً معقداً يشمل الفنون والمعارف والقوانين والمعتقدات والتقاليد والعادات التي اكتسبها الفرد من المجتمع بوصفه فرداً فيه، إلى جانب الفلسفة والأديان والأخلاق”.
هكذا إذن، تسمح وتتيح الثقافة نفسها، لكل الناس بالانخراط فيها والانتماء إليها دون ضوابط أو شروط، لذلك يصعب تصنيف “الدخلاء” من غيرهم في عصرنا الحديث. وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار التسوّل مثلا، نشاطا ثقافيا، فما بالك إذا كان المتسول مثقفا ويستخدم أساليب وأدوات ثقافية في ظاهرها.
◙ أمام المشهد السوريالي يصبح "التسوّل الثقافي" مشروعا ومتفشيا، بل ومحمودا مثل أي مساهمة تثري الحياة الثقافية
ويروي لنا التاريخ العربي عن عادة التسوّل الذي استخدم الشعر وسيلة للتكسب والارتزاق على طول تاريخ الثقافة العربية، وهو الذي يعتبر المدح أحد أهم أغراضه، بل كانت في الماضي البعيد أهمها على الإطلاق، ولا يزال عند البعض ذلك ساريا أيضا، فقد كان مصدر رزق “مقبول” يجلب لقمة العيش.
وهكذا يستمر ويتطور ويتشعب سلوك التسوّل الثقافي ليشمل عدة مجالات ويمكن أن يمارسه أي فرد دون كراس شروط. وتستحيل المؤسسات الثقافية إلى “تكايا”، خصوصا بالنسبة إلى الدول التي تصرف بسخاء على النشاطات الثقافية، سواء كان ذلك عن حسن نية أو لغاية تخص الدعاية السياسية.
الأعقد من ذلك والأخطر هو أن تدخل الثقافة البورصة كقيمة نقدية، وتُصنف ضمن منطق العرض والطلب في السوق فيمتهنها الجميع، كل بحسب شطارته وقدرته على تسويق بضاعته. وحينئذ، يصبح المبدعون الحقيقيون فاشلين حقيقيين ومتسولين حقيقيين، أما المتسولون الجدد فهم الذين يسودون ويتحكمون في السوق.
وفي هذا الصدد، يقول الكاتب التونسي منجي باكير “غاب الفنّانون الحقيقيّون، وغابت الأعمال الفنيّة الحقيقيّة في النّشر والمسرح والسينما والغناء وغيرها، غُيّبت أعلام الثقافة وصنّاعها الحقيقيّون حتّى في التظاهرات والملتقيات، وتجاوزهم مقاولو الثقافة وسماسرة الأعراس والمهرجانات إلى محترفي ومحترفات العراء والشذوذ السّمعي البصري".
واقع ثقافي قاتم
أمام هذا المشهد السوريالي، يصبح "التسوّل الثقافي" مشروعا ومتفشيا، بل ومحمودا مثل أي مساهمة تثري الحياة الثقافية وتعطي صاحبها وجاهة اجتماعية مرموقة. ولأن المبدعين الحقيقيين صاروا أقلية شاذة فإنهم يُحفظون ولا يقاس عليهم فيما يقدمونه من أعمال، أما الغلبة فلنموذج "المثقف المتسوّل" في ظل هذه الانزياحات المرعبة للقيم والمفاهيم.
العملة الرديئة تقصي وتطرد العملة الجيدة بطبيعة الحال. وهكذا ندخل زمن الرداءة بامتياز، ومن أوسع البوابات التي هي الثقافة، عنوان تطور المجتمعات ورقي الشعوب. الدليل على ما تقدم من حديث، وكي لا يكون كلامنا تنظيرا أو أضغاث تخيلات، فإن قسما كبيرا من "النشاطات الثقافية" اليوم، تندرج ضمن خانة الـ"التسوّل الثقافي": من المنشورات والكتب والدواوين التي لا تتغي شيئا سوى الدعم المالي، إلى الأفلام والمسرحيات والأغاني التي لا تقول شيئا سوى "أعطنا مالا".
◙ العملة الرديئة تقصي وتطرد العملة الجيدة بطبيعة الحال. وهكذا ندخل زمن الرداءة بامتياز، ومن أوسع البوابات التي هي الثقافة
دور نشر تطحن عصف الكلام وتقذف بالأوراق دون أن تقول أي شيء، كاميرات تدور على نفسها وتغمض عيونها عن الواقع المعيش، لوحات تشكيلية دون أي فن تشكيلي، وأصوات وآلات موسيقية لا تطرب أحدا. ولأن المتسولين وقحون بطبيعتهم ـ كما لدى أهل الكدية الذين تحدث عنهم الجاحظ ـ فإن المثقفين الحقيقيين الأكفاء يصونون ألسنتهم وأقلامهم من كل هراء، ويستنكفون حفظا لكرامتهم في زمن "البازار الثقافي".
وفي بلد نعيش فيه ونتنفسه كتونس مثلا، يأسف المرء على ضياع ذاك الربيع الثقافي الذي كان سائدا في العقود الماضية، حيث كان التزاحم والإقبال على المنتوج الثقافي واقعا نعيشه، أصبح “التسوّل الثقافي” سيد الموقف، وتركت غالبية من المبدعين الحقيقيين مكانها للدخلاء والمتطفلين، لأن الثقافة أمست مصدرا للتكسب وجني المال.
فيما مضى، ربما كان المثقف يشكو بعض الحاجة المادية عادة، لكنه يقبل على نشاطه بهمة وحب كبيرين، لكن “مثقف اليوم” قد يعاني التخمة بفعل ما تدرّ عليه تجارته من أرباح، وإلا فما تفسيرنا لـ"مثقف أو فنّان متسوّل" يعيش في أفخم المنتجعات ويجوب مدن العالم، وآخر "غير متسوّل" يعيش الفاقة وضنك العيش. وأمام هذا الواقع الثقافي القاتم، تضيع وتتبدد الأفكار القويمة الصائبة حول الاستثمار في الثقافة كتنمية بشرية لتتشوه المعادلة المرتجاة، تماما مثل دخول المافيا على أي اقتصاد وطني.