"عصفور جنّة" مسرحية تناقش واقع الفنّان المسرحي في تونس

في تجربة جديدة أساسها المسرح الثنائي، يسلّط المخرج التونسي حسام الساحلي الضوء على حياة الفنّان المسرحي في بلاده، منطلقا من الذاتي نحو الجمعي، ومتطرقا إلى صراعات نفسية ومهنية قد تصيب الأنا والآخر في ظرفية زمانية ومكانية مشتركة تجمع بين الكثير من المسرحيين في تونس.
من واقع مسرحي مرهق لأغلب العاملين فيه، واقع يشكو فيه الممثل المسرحي من قطاع غير منظم، من قلّة الأعمال، ومن منظومة دعم رسمي تكبّل كل جهود الإبداع وتخضع لقوانين بالية. من واقع يعمل فيه الفنّان التونسي بقوانين ظالمة ويحارب منذ سنوات من أجل سنّ قانون جديد يضمن حق الفنّان بما يتماشى مع متغيرات العصر الراهن. من هذا الواقع الذي تضاف إليه تفاصيل الحياة الذاتية للأفراد ومشكلاتهم وعقدهم النفسية وتحدياتهم الصغيرة والكبيرة، جاءت فكرة “عصفور جنّة”، العمل المسرحي الجديد للمخرج والفنّان التونسي حسام الساحلي.
المسرحية كتب نصّها فوزي بن حفصة ودراماتورجيا وإخراج لحسام الساحلي وتمثيل فتحي بوسهيلة ورمزي سليم، سينوغرافيا عبدالكريم ضيف الله وصوت وفيديو صابر بوعفيف وإضاءة رضوان عجرودي.
جنة متخيلة
لحظة الاتصال الأولى بين المتلقي والعمل المسرحي هي العنوان، واختيار العنوان عادة ما يكون مهمة صعبة إن لم تكن أصعب مراحل إنجاز الفكرة، باعتباره مفتاحا أساسيا ومعبرا عنه ومحفزا لمتابعته، ومن ثمة المقارنة بين العنوان وجوهر العمل.
وعنوان العمل الذي نحن بصدد تحليله، يأتي عتبة واضحة تختصر الكثير مما سيراه المتفرج على الخشبة، لكنه قد يوجهه صوب عالم واحد هو عالم الموت والموتى، فـ”عصفور جنّة” هي عبارة عادة ما يطلقها التونسيون وبعض الشعوب العربية الأخرى على من يموت في سن صغيرة، يقال إنه عصفور جنة، متأملين أن يعوّضه الخلود فيها عن كل ما لم يحققه ويتمتع به في الحياة الدنيا. والعمل كما يحيلنا إليه العنوان يخوض في رمزية هذه العبارة مفكّكا دلالات الحياة في تونس، وتحديدا حياة الفنّان المسرحي وما يحوّلها إلى مهام وتحديات صعبة، وبشكل أكثر خصوصية، إنه يركز على آمال وآلام الفنّان المسرحي العرائسي.
والبطل في هذا العمل المسرحي (رمزي سليم) ليس عصفور جنّة ولن يكون، وإنّما هو يحاول وضع حد لحياته علّه يكون عصفور جنّة. وفي رحلته نحو الموت تفشل محاولاته بسبب ضيف ثقيل، يحضر فجأة ليخوضا سويا نوعا من المواجهة القاسية، تتخللها بعض المونولجات التي ستكشف تدريجيا وكلّما تعمقت عقدة الصراع بين الشخصيتين وعن مدى ترابطهما، ومصيرهما المتشابه وعلاقة كل منهما بالآخر.
هذا العمل يعرّفه مخرجه بالقول إنه “حكاية شخصيتين، الأولى في ربيع العمر ملأها اليأس من الحياة والناس وترغب في أن تطفئ شمعتها، والثانية في خريف العمر تتشبث بالحياة وتأمل في العودة بالزمن إلى الوراء وكتابة صفحة جديدة. ‘عصفور جنّة’، خرافة (حكاية) شخصين يلتقيان لأول مرة ويتحدثان في كل المواضيع ويتواجهان، حكايتي وحكايتك لو أتيحت نفس الظروف”.
أما يحيى المجيد بطل المسرحية فأول ما خاطبنا به هو وصية تكتب في خلفية الخشبة، يقول فيها “اكتبوا على شاهدة قبري، ولد ذات صيف وحاول أن يعيش عدة فصول، هذا الشخص حاول أن ينافس الأنبياء، صحيح أنه لم يملك عصا تشق اليم ولم يمش على الماء لكنه كان يضحك ويسكر ويرقص ويستمتع بكل عبق الهواء، لم يأتكم برسالة لأن السماء لم تعد ترسل المعجزات. هذا الشخص لم يكن وحيدا لكن حاول أن يحيى لوحده. إن لم تكفيكم الشاهدة فاكتبوا بكل اختصار عاش ومات. وإذا لم تجدوا لي الوقت أو المكان فلا تكتبوا شيئا.. فالصمت هو أروع الكلمات”.
سينوغرافيا محكمة
لا يكتفي المخرج حسام الساحلي في هذا العمل بالنّص والأداء الثنائي المشترك وحتى الأداء المنفرد للبطلين، بل يكشف أمام الجمهور منذ اللحظات الأولى للعرض عن السينوغرافيا والمؤثرات البصرية والسمعية التي وظفها بدقة لإثراء عمله الديودرامي.
تبدو لنا خشبة المسرح في المشهد الافتتاحي خاوية من الديكور، يتوسطها حبل يتدلى من السقف، ثم تمتزج حركات الممثل (رمزي سليم) مع الإضاءة لتكشفا لنا بقية العناصر، ونجد أنفسنا أمام غرفة فنان عرائسي، تتوزع فيها الدمى، بعضها مكتمل والآخر في طور الصنع. غرفة ببابين، سيلعبان في الزمن القادم للعرض دور الطريقين، الاختيارين اللذين ستتأرجح بينهما الشخصيتان بين التآلف والتنافر، القرب والبعد، التشبث بالحياة والرغبة القاهرة في الموت. وفي أعلى الغرفة، ساعة تتحرك عقاربها ببطء شديد، بينما يتحكم الممثلان بصناديق بلاستيكية يصنعان منها تارة كراسي وطاولات وطورا ركيزة للانتحار شنقا.
في عمق الخشبة، ركّز المخرج شاشة بيضاء، ستعزّز النّص المسرحي وتعرّفنا بالشخصيتين المتصارعتين، رسائلهما وصورهما، تنقل إلينا سيرتهما، والروابط التي تجمع بينهما، وتعرّفنا على شخوص أخرى غائبة حاضرة. بكل هذه العناصر الموزعة بدقة، والتي تحضر وتغيب وفق توقيت محدد، تحضر السينوغرافيا في “عصفور جنّة” لتعزّز العمل وتكون من دعائمه وأهمّ نقاط القوة فيه، وتنجح في صناعة الفرجة وتحفز ذهن المشاهد لمتابعة حكاية الشخصيات وصراعاتها، ولم لا الضحك على مواقفها الكوميدية.
ثنائيات واقعية
تحملنا “عصفور جنّة” إلى التفكير في الكثير من الثنائيات، فترانا نتأرجح مع الممثل بين التفكير في الموت والحياة، الأمل والألم، الحلم والخيبة، الماضي والحاضر، الفخر والندم، الحب والكره، الفرد والمجموعة. جميعها مفردات يفكّكها الممثلان، ينتقدانها، يضعان أصابعهما على مكامن الداء فيها، بحركات جسدية تراوح بين الرقص والتمثيل، وأصواتهما المتناغمة مع لحظات الصراع والانسجام بينهما.
إنهما صورة مسرحية، كوميدية ودرامية ساخرة من واقع الفنّان المسرحي في تونس، الذي يعيش كل هذه الصراعات منذ سنوات، بعضهم يختار أن يعبّر عنها عبر المسرح أو حتّى عبر صفحاته على مواقع التواصل.
ولأن رمزي سليم وحسام الساحلي وكاتب النّص فوزي بن حفصة قد عاشوا جميعا تجارب مماثلة لهذه الثنائيات، وعانوا من حالة التيه المرهقة التي تسجنهم بين عشقهم للمسرح ورغبتهم في هجرانه، بين توقهم لممارسة الفنّ ومعرفتهم بأن الفنّ في تونس لا يغني ولا يسمن من جوع، بل هو لا يزال فنّا مطلقا يقبل عليه الفنانون لإرضاء أنانيتهم في أن يمارسوا الفنّ لا غير. لأنهم يشاركون الفنانين في المسرح التونسي كل هذه الهواجس وغيرها فهم يعبّرون بـ”عصفور جنّة” عن حقيقتهم المشتركة، وهو ما جعل العمل المسرحي شديد الواقعية، مقنعا ومثيرا لعواطف المتفرج.
◙ عنوان العمل يأتي عتبة واضحة تختصر الكثير مما سيراه المتفرج على الخشبة، لكنه قد يوجهه صوب عالم واحد هو عالم الموت والموتى
هكذا، يكتشف البعض ويتذكر البعض الآخر، الواقع المضطرب الذي يعانيه المسرحيون في تونس، عبر حكايات وحوارات يحيى ويوسف، الأول في الثلاثين من العمر والثاني في عقده السادس، تجمعهما الصدفة في مكان واحد. يريد الشاب أن يغادر الحياة ويتحرر من آلامه النفسية، بينما يحاول الكهل جاهدا منعه من ذلك. إنه يرى نفسه في يحيي فيحاول أن يصحح من خلاله صورته المشوهة، ومع تصاعد الأحداث، يكتشف الجمهور أن وجود الشخصيتين في مكان واحد لم يكن محض صدفة، ففي تلك الخرابة المهجورة ولدت نطفة الحب الأولى بين يوسف وحبيبته والتي تشكّلت جنينا سيكون يحيى الفنان العرائسي.
وفي حين ترمز شخصية يحيى لواقع الفنّان المسرحي في تونس، تأتي شخصية يوسف لتكون صوتا ناقدا للواقع السياسي في تونس، وتحديدا للمناضلين الذين وجدوا بفعل الصدفة، ولعلاقات المصلحة وللفساد الاقتصادي المتصاعد، فيوسف وصديقه الطيب الماركانتي (هو نفسه المخرج حسام الساحلي) وظّفا السياسة والنضال الحزبي لمآربهما الشخصية، أحدهما كانت سلاحه للارتقاء في سلم السياسة والآخر وظّفها طعما لصيد النساء والطالبات الجامعيات الحالمات بقيم الحرية والانفتاح الفكري.
وأظهر الممثلان قدرات كبيرة على التشخيص، وتمكنا من المراوحة في الأداء بين النقد والسخرية والسرد، ساعدهما في ذلك نص ذو لغة بسيطة وسلسة. وبأداء موزون وهادئ، يخلو من المبالغة في الحركة وفي الانفعالات، نجحا في التعبير عن الشخصيات، الغوص في أعماقها، وتقمصها والبوح بأوجاعها.
هكذا جاءت “عصفور جنّة”، مسرحية بعناصر متماسكة، لتفكّك الواقع في تونس، الواقع الذي تعرفه الأغلبية، تعاني منه لكنها لا تقدر على تغييره، وكأنّها تواجه قوى خفية تعيق كل محاولاتها للنهوض بحال الفنّ والسياسة.