الصمت والاكتشاف: عن قيمة السكوت في الأعمال الفنية والثقافية

اكتشاف ثراء الصمت يفتحُ طرائق جديدة للتفكير والتعمق في الفهم.
الاثنين 2023/12/11
"صرخة" أشهر اللوحات غير الصامتة لإدوارد مونش

اختار الأكاديمي والكاتب إيرلنغ كيج الصمت عنوانا لبحثه الجديد الذي كتبه وقدمه في محاضرة مهمة، تبحث في مفهوم الصمت ومدى تأثيره في السلوك البشري وحتى كيف تتجلى قيمة الصمت في الفضاءات الفنية والإبداعية، وأشهر الاشتغالات الفنية التي كان الصمت سببا في شهرتها ونجاحها.

ينفردُ الإنسانُ بالقدرة على التكلم، والكلمات التي تنتظمُ في السياقات التعبيرية تكشفُ عن أبعاده الفكرية والاجتماعية كما تحددُ ميوله السياسية من خلال منطوقه الكلامي. لذا فإن تكميم الأفواه يرمزُ إلى الحرمان من حق الإفصاح عن الرؤية والمُعتقدات المخالفة للسائد.

ومن الواضح أنَّ مُضاعفة الطاقة الإقناعية في الكلمة هي مدار اهتمام الكائن الناطق، وليست الفنون البلاغية سوى محاولةٍ لإضفاء القوة على الخطابات المُحملة بالغايات المختلفة، لكن هل يمكن أن يخسرَ الكلامُ وظيفته؟ ويكون خاويا من المدلول ويتم التوسل به لتسجيل الحضور والتهرب من الفراغ فقط؟

ربما يتوهمُ المرءُ بأنَّ الاسترسال في الكلام يحميه من التهميش والنسيان. ويعقدُ الرهان على إنشاء شبكة واسعة للتواصل خشية انغمار كينونته وسط كياناتٍ تضجُ بالكلام والمقاطع الصوتية. ولا شكَّ أنَّ وفرة الوسائط الناقلة للكلمة قد زادت من الرغبة للمشاركة في المهرجان الكلامي وبذلك لم تعد هناك فرصة للصمتِ والتأمل لأنَّ مغريات الكلام قد طغت على المشهد بأكمله. فالكلام بشقيه المنطوق والمكتوب يعادلُ الحضور كلما أدليت بكلمات أكثر واستطال حديثك يُحجز لك مقعدا بين المؤثرين. إذن ما لا يتخذُ صيغة كلامية لا وجود له. فمن الطبيعي أنْ تثير هذه السيولة من الكلام الاستعراضي انتباه العقول الباحثة عن قيمة ما يسبقُ الكلام وما ينتهي إليه والمقصود بذلك هو الصمت.

كيج في توغله في عالم الصمت يعتمدُ على تجربته وهو يمضي قُدما في رحلاته نحو القطب الجنوبي كاشفا رتابة هذه المنطقة
كيج في توغله في عالم الصمت يعتمدُ على تجربته وهو يمضي قُدما في رحلاته نحو القطب الجنوبي كاشفا رتابة هذه المنطقة

ومن نافلة القول إن الصمتَ لا يخلو من الإيحاءات البليغة. صحيح أنَّ مداليل الصمت غير معلنة ولا مشاعة، ما يعني أنَّ الصمت ليس عقما من المعنى وقد يكونُ تأثيره أعمقَ في عصرٍ يسوده الصخب واللغط. ومن الملاحظ أنَّ ما يوازي ظاهرة التفجر الصوتي والصوري في الانتشار هو الحياة المُستعجلة وهذا وجه آخر من الهروب “الكلّ، متعجل، لأن الكلَ هارب من نفسه” حسب الصيغة النيتشوية.

لا شيء

يبدو أنَّ السبب واضح للاستغراق في موجة الكلام لذلك فإنَّ ما يهم هو مغزى الصمت وبصمته على يومياتنا. هذا ما يتكفلُ بالإبانة عنه الرحالة النرويجي إيرلنغ كيج من خلال تدوين تجربته الشخصية مع عالم الصمت. وهو يستعيدُ في مدخل كتابه “الصمت في عصر الصخب” ما دار بينه وبين بناته الثلاث حول مفهوم الصمت إذ ما وصل منهنَّ أن الصمت يعادل اللاشيء ولا يفيدُ البحثُ عن مواصفاته. وفي نهاية المطاف لا بأس بأن يلوذ الإنسانُ بالصمت إذا داهمه الحزن كما يقول الجواهري في حزن يخلفه الحب في القلب “حين تَطغَى على الحرّان جمرتهُ فالصمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليه فمُ”.

قد لا يختلف اثنان على أنَّ الذهول والدهشة هما محرك الحياة العظيم، غير أنَّ هذا الملمح الإنساني على وشك الاختفاء ولم يعد هناك ما يثيرُ الشعور بالدهشة أو يحفزُ على التفكير، لأنَّ الانسياق مع مُنبهات الآلة يسحبُ من الإنسان الرغبة في إعمال الذهن. وما إن يحتاج المرءُ إلى معلومة أو التأكد من معاني الكلمات حتى يستعينَ بالشبكة العنكبوتية كما أنَّ التطبيقات الإلكترونية أصبحت بمثابة وصفة يعولُ عليها الجميعُ لكسر الشعور بالسأم. لذلك لا يوجدُ ما يفوق هذا العالم المتناول في اليد جاذبية سوى السرد إذ يجربُ المؤلف مناقشة موضوع الصمت مع بناته في سياق سرده لحكاية صديقين قررا تسلق جبال إيفرست.

نجح الإثنان في الوصول إلى القمة لكن في طريق العودة تهبُ العاصفةُ وبالتالي يكون الموت على مرمى أنفاس معدودة. وقبل أن يرقد أحدُ الصديقين في صمته الأبدي يتصل بزوجته ويتفقان على تسمية المولود القادم أما الثاني فلم يتمكن من الاتصال بأي أحد ويفترسه الموتُ.

بينما هو يستعيدُ تفاصيل هذه المغامرة يلاحظُ إيرلنغ كيج أنَّ الصمت يسودُ وتنجذبُ البناتُ إلى القصة. ومن ثم اختار المؤلفُ الصمتَ موضوعا لمحاضرة قدمها في جامعة “سينت أندروس” بأسكتلندا، وبالطبع فإنَّ ما دفعه إلى هذا المسار هو التأكد من أنَّ الصمت قد لا يعني شيئا في معجم الأغلبية.

ويشيرُ كيج إلى أنَّ نقاشه مع طلاب الجامعة ينتهي بثلاثة أسئلة تشدهُ أكثر إلى مفهوم الصمت؛ ما الصمت؟ وأين هو؟ ولم هو مهم الآن أكثر من أي وقت مضى؟

الإنسان كائن حسب رأي إيرلنغ كيج مجبول على الدهشة، فهو يعترفُ بأنَّ الدهشة تطبعُ كل مسيرته الشخصية ويتعاملُ مع أطواره وحياته الداخلية ومظاهر الحياة الخارجية بنفس مدهش. كذلك الدهشة ضاربة بتيارها في نظرته إلى النصوص الأدبية، فالعبارة التي قرأها في مسرحية الكاتب النرويجي جن فوسيه تسكنُ ذهنه ويحفرُ عن مغزاه متسائلا ما يعنيه صاحبُ “صباح مساء ” بقوله “ثمة حب لا أحد يتذكره”؟ هل يقصد حبا خفيا يبقى هاجعا ولم يُعلن عنه؟! ألا يعني بذلك الصمت؟

النفور من الصمت ليس مردهُ إلا عدم ارتياح الإنسان للحاضر، لذلك يبحث عن أغراض لتوسيع المسافة بينه وبين نفسه

الشعر الجيد يذكر كيج بالمكتشفين وما تفعله الكلمات الصائبة وما تُشعر به تقارير المكتشفين من الصحوة الذهنية وانتشال الخواطر من حالة الخمول. لذلك يراسلُ كيج مواطنه متسائلا عن معنى العبارة فما كان من الأخير إلا أن فاجأه بقوله “إن الصمت يتحدث بطريقة ما”، لافتا إلى أن الكثيرين يخافون الصمت. وينشأُ هذا الخوفُ لأنَّ الصمت يقودكَ إلى الذات، ومعنى ذلك في المُحصلة الأخيرة أن معرفة الإنسان لنفسه تثير المخاوف.

يُذكر أن كيج في توغله في عالم الصمت يعتمدُ على تجربته وتأملاته وهو يمضي قُدما في رحلاته نحو القطب الجنوبي كاشفا رتابة هذه المنطقة وإغراقها في اللون الأبيض وخلوها من الصخب، وكلما هدأت الريحُ كان يختبرُ صمتا أصمَّ يُعلن المؤلف عن جانب من الصفات المكونة لشخصيته. فهو يتفادى إطلاق العنان للعنات ولا يجلد نفسه ولا يحلف ولا يشتم أيا كانت الظروف والتحديات لأنَّ كل هذه التصرفات تُحبط النفسية وتكدر المزاج.

وما يمتازُ به الوقت في أنتراكتيكا، وهي أهدأ مكان ذهب إليه كيج، أنَّه مُستقل عن محددات الهوس الرأسمالي والمظاهر الدالة على غزو الماديات للمجتمع. ينفصلُ الإنسانُ في هذه البيئة عن أذيال الماضي ولا تؤرقه مغريات المستقبل وبذلك يكون امتداداً للحظته متوحداً مع الأفكار والخواطر النابعة من إرساليات الطبيعة. ويضربُ المؤلف في لاعب كرة القدم مثالاً على دور الصمت الباطني في إيجاد التوازن، فهو عندما يركلُ الكرة مندفعة صوب المرمى لا يسمع رنة صخب واحدة حتى لو كان الصراخ والصخب يملآن المدرجات المزدحمة.

لا ينكرُ إيرلنغ كيج أن الصمت قد يكون مضجرا ومخيفا لكن اكتشاف ثرائه يفتحُ طرائق جديدة للتفكير والاستبطان والتعمق في الفهم. والنفور من الصمت ليس مردهُ إلا عدم ارتياح الإنسان للحاضر لذلك يبحثُ عن الأغراض التي يوسعُ بها المسافة بينه وبين نفسه.

ويتوسلُ الإنسان المعاصر من الأشياء التي يراكمها ويضفي عليها القيمة القضاء على الضجر. لكن إيرلنغ كيج يرى بأنَّه من الطبيعي أنَّ يشعر المرءُ بالضجر بين حين وآخر لأنَّ ذلك يضعُ طاقته للتحمل على المحك. فالأهم هو اكتشاف زاوية أخرى في الروتين واللاجدوى والتكرار. كما أن الكفَّ عن متابعة الأخبار والمواضيع التي تصادر الوقت يعيدُ الهدوء إلى النفس لأنَّ معظم المواد المنشورة في الوقت الراهن هي نفسها يتم تدويرها في السنوات اللاحقة.

الصمت والفن

الصمت قد يكون مضجرا ومخيفا
الصمت قد يكون مضجرا ومخيفا

تتجلى قيمة الصمت في الفضاءات الفنية والإبداعية فلا يمكنُ أن ينجحَ المشروع الفني إذا لم يجربْ صاحبه الانفصال عن الصخب والانصراف إلى الوحدة، أكثر من ذلك فإنَّه ثيمة للنصوص الشعرية وهذا ما يلتفتُ إليه كيج مقتبسا من نص للشاعر رولف جاكسون مقطعا يحددُ مواقع الصمت في الطبيعة “الصمت الذي يحيا في العشب، في الجانب السفلي من كل نصل، وفي الفراغ الأزرق بين الأحجار”.

والكتابة الشعرية لدى الكاتب والشاعر اللبناني عيسى مخلوف هي طريقة للتخلص من الكلام وبلوغ الصمت الأكثر وضوحا، فالحديث عن ثالوث الشعر والدهشة والصمت يحيل إلى نزار قباني الذي كتب “إذا وقفت أمام حسنك صامتا فالصمت في حضرة الجمال جمال”، غير أنَّ أهمية الصمت تتمثل بصورة أدق في فن الموسيقى.

ويفرد كيج مفصلا من الكتاب للعلاقة بين الموسيقى والصمت إذ أوضح العلم أنَّ الوقفات أو ما يسمى بالصموتات هي التي تُحدثُ الانفعال والنشاط والتوتر الإيجابي. كذلك لا يقعُ الفن التشكيلي خارج متعينات الصمت على الرغم من أن لوحة “صرخة” لإدوارد مونيش يوحي عنوانها بالصخب والأصوات العالية لكن ما إن تشاهدها العين حتى يصطدم المرء بصرخة مفرغة من الصوت.

يقولُ كيج بأنَّه يقع صامتا عندما يرى لوحة مونيش. والحال هذه فإنَّ الصمت متغلغل في مظاهر الوجود والأعمال المعبرة عن دواخل الإنسان. هو رفاهية متاحة للجميع فيما الضوضاء ما هي إلا دلالة على القوة الأيديولوجية، حسب تعبير ستيوارت.

ومن الفلاسفة الذين يشير إيرلنغ كيج إلى آرائهم بشأن الصمت لودفينغ فتغنشتاين الذي يسدي نصيحة مفادها أنَّ ما لا يستطيعُ الإنسان أن يتحدث عنه يجبُ عليه أن يتغاضى عنه في صمت، يفهمُ من هذه العبارة بأنَّ الرغبة في الكلام تسبقُ المعرفة بالأشياء الأمر الذي تراه متمثلاً في التسابق على تسجيل الحضور صوتياً على الوسائط وتحويل النشاطات والتفاصيل الحياتية إلى محتويات مرئية أو مسموعة.

هنا من المناسب التذكير بأنَّ الصمت يضمر نفسا استنكاريا على المواقف الكارثية إذ وفق الروائي الفرنسي فيركورز في استنكاه هذا البعد في عمله الروائي الشهير “صمت البحر”.

12