"أولاد العالية" ملحمة موريتانية بطلتها فرس عربية

المخرج التونسي حافظ خليفة لـ"العرب": لتطوير مسرحنا يجب أن نبدأ من هويتنا.
الاثنين 2023/12/11
"تهذيب التراث" هذه كلمة خبيثة

ضمن فعاليات الدورة السابعة من مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي، كان الجمهور على موعد مع الليلة الموريتانية مساء السبت، والتي قدمت خلالها الملحمة المسرحية "أولاد العالية" والتي شهدت تعاونا تونسيا موريتانيا لإنجاحها. "العرب" كان لها هذا اللقاء مع المخرج المسرحي التونسي حافظ خليفة الذي أشرف في موريتانيا على إعداد فريق العمل، للحديث عن الملحمة وخصوصياتها وقضايا مسرحية أخرى.

تعود الملحمة المسرحية “أولاد العالية” من تأليف وإخراج المسرحي الموريتاني سلي عبدالفتاح وإشراف فني للمخرج التونسي حافظ خليفة، إلى ماضي موريتانيا وفترة الغمارات الحسانية، والصراعات التي كانت تحدث بينها، والحروب التي كانت لا تهدأ، ولا يتوقف العمل عند مظاهر الصراع، بل يدخل إلى عمق التكوين النفسي والثقافي للحسانيين.

يحاول العمل الإمساك بالتقاليد التي كانت دارجة والعادات وخاصة النظام الأخلاقي الهام الذي كان يحكم المنطقة، وهو نظام مبني على تعاليم الدين الإسلامي من جهة وعلى العادات والأعراف العربية، فيأخذنا في كشف لمفاهيم الكرم وحسن الخُلق في نزع فتيل الصراع وتقريب وجهات النظر، في رسالة أن الأخلاق هي الفيصل في تجاوز الخلافات والعداء.

ملحمة بطلتها فرس

نعرف أن الملحمة عادة ما ترتبط بالشعر من “إلياذة” هوميروس إلى “شاهنامة” فردوسي و”مهابهاراتا” الهندية وغيرها، ولكن يتهم الشعر العربي بأنه غنائي غير درامي وبالتالي لا ينتمي إلى الملاحم، نسأل المخرج التونسي حافظ خليفة عن ملحمة “أولاد العالية” وخصوصية الملاحم العربية، يقول “من الحيف والخطأ أن نسقط التجربة الملحمية التي عرفت عند الإغريق على العالم العربي، وهذا يذكرني تماما بأنماط فن الشعر العربي، فالعرب مثلا كان عندها الرثاء والهجاء ووقع تفسيرهما على أنهما الدراما والكوميديا، ولكن ابن رشد قدم تفسيرا لمفهوم الدراما عند أرسطو في ‘فن الشعر'”.

بوكس

ويضيف في حديثه لـ”العرب”، “لا يمكن النظر إلى الملحمة بمفهوم إغريقي، ربما كتب الإغريق ملاحمهم لكن العالم العربي له خصوصياته وشعر العرب ارتبط أساسا بجماليات خاصة مستلة من بيئته في مختلف أنماطه من الرثاء والهجاء والفخر والتحريض والحماسة وغيرها. الملاحم العربية صنعت من الرواة والأساطير والحكايات، ربما جاءت سجعية مثل ملحمة ‘تغريبة بني هلال’ بكل أجزائها، وحتى العالم الشرقي له ملاحم فيها خصوصياته مثل مهابهاراتا الهندية وحتى الحضارات المصرية القديمة والسومرية لها ملاحم مهمة للغاية، فملحمة جلجامش مثلا من أقدم ما دُوِّن من ملاحم، وهي قريبة من مناخات الملاحم العربية”.

ويتابع “في الملاحم العربية نتحدث عن علاقة العرب بالصحراء والانفتاح والقبائل، من البدايات الأولى للعرق العربي منذ قحطان وعدنان ثم ظهور الإسلام والفتوحات والهجرات دونت الكثير من الملاحم، والملحمة عند العرب لم تولد بالشعر فقط مثلما كتبها هوميروس لدى الإغريق وغيرهم، الملحمة وقائع تاريخية، وحللها الكثير من الفلاسفة مثل هيغل، إذ تعنى الملحمة بالتنقلات وأحداث تهم الشعوب، ونحن شعب كلمة، وليس بالضرورة أن تكون هذه الكلمة شعرا فقط”.

ويلفت خليفة إلى أن العرب اعتمدوا على نقل الحكايات من خلال الرواة، وأبناء الصحراء لم يكتبوا ملاحمهم في شكل شعري إغريقي.

وحول إشرافه الفني على إنجاز ملحمة “أولاد العالية” يقول المخرج التونسي “أنا لست ببعيد عن عالم الملاحم، وبدعوة من إدارة المسرح في الشارقة أُرسلت إلى نواكشوط، للإشراف الفني على إعداد هذا العمل، وهذا يأتي ضمن توجهات لتطوير الحركة المسرحية في موريتانيا، منذ تأسيس مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي كانت التجارب الموريتانية حاضرة باستمرار، إذ الإمارات وموريتانيا مشاركتان دائمتان كل سنة، مع تغيير بعض البلدان المشاركة”.

ويتابع “اشتغلت مع فريق عمل ‘أولاد العالية’ أولا على الكتابة، وهي تجربة لاقت نجاحا في العمل السابق وهو ملحمة ‘منت البار’، القصة المشهورة للفتاة الجميلة التي يتنافس حولها الفرسان وقد ارتبطت بالهوية الحسانية الموريتانية. أما ‘أولاد العالية’ فنعلم أن العرب حين وصلوا إلى تلك الأماكن جنوب الصحراء، ثم أتى بنو هلال لاحقا وفخذ من أفخاذهم قبائل الحسانيين، استقروا هناك وتلاحموا مع قبائل تلك المنطقة”.

ويضيف “هناك قبيلة تسمى ‘أولاد العالية’ انقسمت هذه القبيلة إلى أولد مبارك وأولاد سويد، وهنا حاولنا رصد واقع تلك القبائل والصراعات ما بينها، في تلك الحروب الضارية كانت الغلبة لأولاد مبارك لأنهم يعتمدون على فرس اسمها المزوزة، ففي شعوب الصحراء الفرس أو الأحصنة تسمى بأسماء، وتقول الحكاية أو الأسطورة إن أولا سويد اختاروا شخصا لإرساله كجاسوس لاختطاف أو سرقة المزوزة لترجيح كفتهم”.

ويواصل خليفة “حين يذهب لسرقة الفرس يقبض عليه، لكن يعفو عنه أمير أولاد مبارك، بما أنه عاشق للفن والأول عازف، ويهديه الفرس المزوزة، يذهب بها إلى سيده في أولاد سويد، فيعيدها وينتهي العداء. فتصبح الخيل العربية وسيلة سلام ودرء فتنة بين القبيلتين”.

مسرح الصحراء

◙ الخيل العربية وسيلة سلام ودرء فتنة
الخيل العربية وسيلة سلام ودرء فتنة

نسأل خليفة عن مدى التزامه بالتاريخ ووقائعه في سرد القصة مسرحيا، فيجيبنا “تعاملت كثيرا مع الكاتب التونسي عزالدين المدني، وكان دائما يقول لي ‘التاريخ ليس حجة علينا’. طبعا نحن نتابع الخطوط العريضة لكل ملحمة وهذا مهم ولكن الملاحم عادة تروى، وفيها من أساطير وتفاصيل كثيرة، وكل حكواتي يضيف إليها ما شاء، ولكل قبيلة إضافاتها”.

ويذكر أن في ملحمة “أولاد العالية” كان هناك تصرف دراماتورجي إذ أضافوا بعض الشخصيات لخلق الإثارة الدرامية، قائلا “نحن في النهاية نتحدث عن عرض فرجوي وليست حكاية. وهذا ما قمت به في شكل ورشة مع الشباب الموريتاني لإنجاز هذا العرض”.

قدم حافظ خليفة سابقا أكثر من عمل في فضاء مفتوح، نسأله هل ممكن مسرح خارج العلبة الإيطالية، وكيف يتعامل مع الفضاء المفتوح خارج العلبة والعناصر المسرحية المكرسة، ليجيبنا “أولا العديد من الأكاديميين، وأقول هذا بكل صراحة، يعتقدون أن المسرح ولد فقط عند الإغريق، وحتى ولادة المسرح الإغريقي كانت في مكان مفتوح وشكل معين”.

ويضيف “في البلاد العربية لم يولد المسرح فقط بعد تجربة مروان النقاش أواخر القرن التاسع عشر، بل هو أقدم من ذلك، هو موجود مثلا حين نذهب إلى التشابيه الحسينية ونرى هؤلاء المسلمين الشيعة يحتفلون في طقوس تعيد أحداث واقعة كربلاء بكل تفاصيلها في تجسيد ومسرحة الحكاية أو الأسطورة، ولكننا لم نتحدث عن هذه الظاهرة كفاية ونهتم بها، ربما خوفا من الطائفية. في تونس على عكس الشرق كانت لدينا الجرأة للحديث عن هذه المظاهر وغيرها”.

بوكس

ويواصل “حين نتحدث عن التعامل مع الفضاءات الواسعة فهذا نقوم به كعرب في كل حياتنا، في عاشوراء في حلقات الحضرة والحلقات الصوفية والمولد النبوي وفي أماكن أضرحة الأولياء وغيرها، وأنا أتحدث طبعا عن الفرجة وليس المسرح، لدينا أشكال فرجوية متعددة تدخل في باب المظاهر التقليدية الشعبية التي كانت تقام في الساحات العامة، وقد استغل ذلك بعض المسرحيين العرب أذكر هنا المسرحي المغربي الطيب الصديقي الذي قدم مسرح الحلقة”.

ويرى خليفة أن علاقتنا بالساحة علاقة وطيدة جدا، لأن العرب لم يعرفوا المسرح المغلق بل عرفوا دائما الفضاء المفتوح، وحتى تشكيل القبيلة كانت مفتوحة على بعضها البعض، مثل رينغ كولسيوم (المسرح الروماني). فالخصوصيات ونحن في مهرجان المسرح الصحراوي، يتم توظيف كل التضاريس من الكثبان الرملية والانفتاح على مستوى المساحة واستغلالها.

ويشدد على أن مسألة تضاد المسرح والعلبة أو المسرح المفتوح مسألة واهية، باعتبار أن المسرح هو المسرح أيا كان مكان عرضه مفتوحا مغلقا كبيرا صغيرا، وهناك مثلا خشبات الأوبرا التي لها عمق قد يصل إلى الستين مترا، وارتفاعا بخمسين مترا، ربما ما يختلف هو التقنيات مثل الإنارة.

وربما باستثناء لبنان تحظى كل الدول العربية من الشرق إلى الغرب بامتداد صحراوي وبدوي، بما يختزنه من موروث ثقافي وفني لكنه لم يحظ بالعناية الكافية، يعلق عن ذلك خليفة قائلا “للأسف، وأستشهد هنا بتونس، فهناك تهميش للشعر الشعبي، باعتبار أن النخبة المثقفة أو أصحاب القرار يعتقدون الثقافة فقط في تشبيههم لحياتهم بالغربية. أنا بالمناسبة مقيم منذ خمسة وعشرين عاما في إيطاليا، وأعلم كيف خلق الإيطاليون الأوبرا من هويتهم وإيطاليا أعادت المسرح بعد قرون من الظلام، عبر فرق كوميديا دي لارت في القرن السادس عشر، وأنقذت الفن المسرحي”.

ويضيف لـ”العرب”، “إذن مسألة القصور في استغلال الصحراء تكمن في قصور منظور النخبة المثقفة والأكاديميين، الذين يرون أن العملية المسرحية لا تكمن إلا داخل العلبة، بينما يتنكرون لهويتهم الأصلية. لا أتكلم فقط عن الصحراء بل حتى الريف، وكم من مفكر ومنظر ومبدع أتانا من مناطق داخلية في تونس مثل محافظة الكاف في الشمال الغربي التونسي والقصرين في الوسط الغربي أو من الجنوب قابس وغيرها، انحصر عمله في المدينة”.

هناك جمهور متعطش للفن بعيدا عن المدن، هذا ما يؤكده خليفة، الذي يذكر أنه حين يعرض أعماله في العاصمة تونس يتابعها بضع مئات، ولكن في عروضه مثلا في مهرجان المسرح في الصحراء جنوب تونس، يتجاوز أحيانا المتفرجون الثمانية آلاف شخص، لا يعني هذا، كما يقول، أن نوفر لهم فقط مادة صحراوية.

ومثّل مهرجان المسرح في الصحراء الذي أسسه حافظ خليفة مساحة للتأكيد على أهمية الانفتاح على فضاءات جديدة للفعل المسرحي، وهو مهرجان مختلف عن مهرجان المسرح الصحراوي، إذ لا يقتصر على المظاهر الفرجوية الصحراوية بل يضم كل الأشكال المسرحية ليقدمها في فضاء مغاير له خصوصياته، وشهدت التجربة نجاحا كبيرا، ما يؤكد أهمية التنوع والانفتاح.

ويتابع المخرج التونسي “الصحراء للأسف ارتبطت عند الكثيرين بالجانب الفلكلوري، وتجمدت وتحنطت هناك. أنا ضد ما يتبناه أصحاب القرار من تحنيط للتظاهرات الصحراوية في فلكلور ميت من دون هوية ولا عمق أو تجديد، لا أقول تهذيب التراث، هذه الكلمة الخبيثة، بل إحياء التراث اللامادي واستغلاله، الملاحم تستغل التراث اللامادي، ومن ناحيتي حاولت استغلال هذا التراث اللامادي بشكل جديد معاصر وحداثي دون سقوط في الرتابة والجمود”.

ويلفت إلى أن هناك حيفا في النظر إلى موروثنا، الذي يمثل هويتنا، مستشهدا بقولة ابن خلدون الشهيرة “المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب”.

الملحمة المسرحية

◙ استغلال الصحراء وحكاياتها
استغلال الصحراء وحكاياتها

لحافظ خليفة العديد من الملاحم التي قدمها مسرحيا، مثل “خضراء” وغيرها، نسأله إذا كان سيواصل العمل على إنجاز ملاحم أخرى، ليجيبنا “أنا مواصل في هذا العمل لأنني وجدت ضالتي في العديد من الأشياء المهمة، وأتعامل مع الشاعر التونسي المهم بشير عبدالعظيم وتعاملت مع الشاعر جمال الصليعي ومع كتابات عزالدين المدني، وتعاملت موسيقيا مع لطفي بوشناق، وتعاملت مع ممثلين قديرين مثل صلاح مصدق، سهام مصدق، دليلة المفتاحي، نورالدين العياري، كمال العلاوي، فتحي الهداوي ووحيدة الدريدي وغيرهم، وكل هؤلاء اشتغلوا معي لأنهم وجدوا أن هناك مادة نشتغل عليها بشكل حرفي وعارف”.

ويضيف “أنا لا أقلد أو أتعامل مع التراث كما هو، مثلا ملحمة ‘خضراء’ قدمتها في مهرجان الشارقة للمسرح الصحراوي، وكانت صدمة بالنسبة إلى الحضور، ومنذ ذلك الحين انتبهوا إلى تجربتي للمساهمة في ديمومة هذا المهرجان. من ناحية أخرى لدينا زخم كبير على مستوى الإرث في الحكايات، وهو جانب وجدت فيه ضالتي، وفيه التقاء مع الجمهور بأكبر عدد ممكن. عرض ملحمي واحد في عدد الجمهور يساوي عشرين عرضا داخل العلبة الإيطالية”.

ويرى المخرج التونسي في حديثه لـ”العرب” أن الملاحم المسرحية تحتاج إلى فضاء مختلف عن فضاءات المدينة، كما أن البيئة لها تأثيرها، إذ تساعد على إنجاز بعض الأعمال والعكس أيضا.

يختتم حافظ خليفة بالحديث عن ضرورة التنوع في المسرح والرؤى، وهذا التنوع لا يأتي دون قراءة واطلاع وسفر وتعامل مع الآخر المختلف. قائلا “الفن يحتاج إلى السفر وعلى الفنان أن يكون مطلعا بشكل محين، فلا يمكن أن نبقى نقتبس الأعمال الغربية. لتطوير المسرح التونسي والعربي لابد أن نبدأ من هويتنا، لكن نحن نحتقر هويتنا. لدينا ثراء كبير، مثلا سألني الإيطاليون لماذا لا تشتغلون على حنبعل وتاريخكم العريق. لكن للأسف هناك تنميط عندنا يجب تجاوزه بوعي”.

15