الأصابع هي هي

يقال إن اليد البشرية كانت تحبّ الذهاب مجتمعة إلى المكتبة لأنها تستمتع بملامسة الكتب وتصفحها، لكنها تقاعدت مؤخرا عن هذه الهواية مع حلول الهاتف في الكف، حينها بقيت الأصابع هي هي لكن المهام تغيّرت، فصار كل إصبع يبحث عن وظيفة جديدة.
هي ليست متساوية في الحجم والطول حتى تتساوى في المهمات لأن بعضها كان يتمرن في رفع أشياء أثقل من البعض الآخر، وظل الخنصر هو الجزء المدلل بينها لأنه الأصغر، لكن العرب انتقمت من دلاله ونخرت به الأنوف وهي تراقب ما وصل إليه الغرب.
الخنصر بقي كسولا بعد أن أفردته المجتمعات منذ الحضارة المصرية بتقلد مهمة لبس خاتم الزواج، ربما تم اختياره لأنه يحتوي على وريد يتصل بالقلب ليجعل الزوجين وفيّين لبعضهما في الحياة.
ولأن المهمة صعبة، فقد ظل كسولا في تصفح شاشة الهاتف يتفاخر بالذهب اللامع إلى أن يحصل الطلاق.
للوسطى حكاية مع الإنجليز الذين كانوا يرفعونها في حربهم مع فرنسا للدلالة على الانتصار، وهي التي كانت تقطعه لكل جندي أنجليزي يقع أسيرا لديها حتى لا يستطيعوا إطلاق السهام الطويلة التي تنتهي بالريش في معركة هيستينغز.
الحقيقة أننا التونسيين نستعمل الوسطى لأغراض أخرى لها علاقة بالشتيمة والاحتقار والاستهزاء، ربما لأنها واحدة من أقدم إيماءات الإهانة المعروفة كما قال الأنثروبولوجي ديزموند موريس، لكنها التحقت بمهمة تصفح شاشة الهاتف عند الكسالى مثلي.
نحن التونسيين مؤمنون نرفع سبابتنا كلما نطقنا بالشهادتين في الضيق والفرج، لذلك نتصفح هاتفنا الذكي بإصبع البنكنوت والشهادة، ولكن لا ندري عما نبحث في عالم افتراضي لا تغيب عنه الإجابة عن معلومة، فهو مخزن الأسرار والمعارف.
بعد رحلة السبابة على شاشة الهاتف لا نستفيد شيئا، ربما المتزوجون يبحلقون في هاتفهم هربا من نقّ الزوجات وطلبات الأطفال التي لا تنتهي، والعزاب يبحثون عن فرصة صديقة أجنبية تأخذهم إلى الضفة الأخرى، وقد تُمني الفتيات أنفسهن بزوج “لقطة”، كل الأمنيات قد تتحقق بسحر في السبابة العجيبة.
الأجيال الشابة أحالت هذا الأصبع على التقاعد، وصار الشغل على الهاتف الذكي بالإبهامين، خفة هذا الأصبع عجيبة في التصفح والكتابة ومسك الهاتف.. الشباب سنّ الخفة والحركة والنشاط لذلك ترى الإبهام يتحرك في الشارع والفصل وعلى طاولة الأكل.
لو طلبت من أحدهم أن ينسخ دروسه لتثاءب وغط في نوم عميق.. الكتابة على الدفتر مملة وخانقة عكس الكتابة على الهاتف التي تختصر الكلمات والجمل حتى تصبح غير مفهومة لنا نحن أجيال السكة القديمة.
أصبح من الثابت إدماننا للهاتف الذكي حتى صار أقرب صديق بل أقرب من الأخ والأم والأب.. ربما صار مثل الابن أو أكثر.