نساء الفجر "نساء ونصف"

ملتحفات بالبرد والصبر وزخات المطر، يستعجلن الخطى ما بين خيوط الليل والصبح، يفتحن أبواب المدينة ليوم جديد، ينظفن مكاتبها وإداراتها دون أن يعرفن سر الورق والقرارات المكدسة على الرفوف أو يُقدرن قيمتها.
إنهن عاملات النظافة المتآزرات رغم أنهن لا يعرفن بعضهن، يتبادلن تحية شد الأزر وضحكات خفيفة من القلب مغمسة في كسرة خبز وقصة عمر ضفرت شيبها الأيام في الصدر.
في مكتبنا نناديهنّ خالاتنا. هي صلة زمالة اعتدنا عليها دون سابق اتفاق لا صلة قرابة، حتى أننا لا نعرف من كل حياتهنّ سوى المكنسة والسطل وزيّ العمل باهت اللون، فالخالة زكية نعرف عمرها وما حاك بها الزمن من خلال آخر ضرس وحيد يسكن فمها، تلوك به قصة رجل متكئ في ركن من بيتها خاو إلا منه.
أما رشيدة فهي خالة البعض منا وليس كلنا، تمسك بأسنانها أطفالا مازالوا يتعلمون الخطى وأبجديات الحياة، هي امرأة لا تفهم في السياسة ولا تسمع نشرة الأخبار إلا ما يذاع وشوشة عن الراتب وطقطقة علكة بعض الفتيات.
الخالة محبوبة أو هكذا تناديها زميلاتنا اليافعات، امرأة أسقطها الزمن من عالمها الأرستقراطي إلى معمعة الحياة، فظلت تقرأ الشعر وتحفظ منه الكثير وتقلب الصحف وتقرأ البطاقات الهزلية، وحين تنتهي من مهام التنظيف والشطف التي تتقنها بمزاج سيدة ترتب قصرها الذي يتسع لأحلامها، تفتح رواية كانت تدسّها في مكان خفي، تتابع أحداثها وشخصياتها المتقلبة كطالبة تستعد للامتحان.
محبوبة امرأة محبوبة تعجن من أطفالها مهندسين، لا يهم كم ستأخذ العجينة من عمرها، ولا أين ستنضج ومتى.. المهم أن تنادي نفسها سرّا وعلانية بأم المهندسين حتى لو أكلتهم الغربة عن البلاد فكلها بلاد الله، وأن البذرة الصالحة تنبت في كل أرض.
حكايات نساء الفجر حكايات موجزة في ظاهرها طويلة في تفاصيلها تبدأ كل يوم من ظلمة الصباح وتنتهي في الهزيع الأخير من كل ليل.
لنساء الليل حكاياتهن أيضا.. هن اللاتي يوزعن جرعات السعادة قطرة قطرة، يرتشفن من كوكتيل الحياة نصيبهن.
هن كشمعة تحترق لتضيء ما حولها.. قد يكون الأمر خيارا منهن في الزهو والطرب والألوان والأضواء الساطعة ووقت مريح، فلماذا يبدّلنه بالشقاء والتعب.
المدينة لهن طوال الليل يعرفن تفاصيلها ويجبنها في الظلمة على كعب عال.. الكعب العالي أناقة وفخامة مطعّمة بـ”البرستيج” لكنه يدمي القدمين والقلب.
حين تسلم نساء الليل مفاتيح المدينة لنساء الصباح يعدن وحيدات إلى مخادعهن يطاردهن ضوء النهار.